الجمعة، 18 أبريل 2014

التصوف " التدين الشعبي في مصر "

   يشعر الكثير من الباحثين في الشأن المصري بالاستغراب لاستمرار تواجد الطرق الصوفية حتى الآن بكل هذا الزخم والتأثير بالرغم من الهجوم الممنهج الذي تلقاه التصوف من قبل دعاة التيارات السلفية وحتى بعض المنابر الإعلامية الليبرالية والتي حظت بدعم غير مباشر من بعض أجهزة وإعلاميات الدولة في فترة حكم مبارك مجاملة لدول أخرى بالمنطقة ، إلا أن الواقع يشير لكون التصوف هو التدين الجماهيري والشعبي في مصر حتى الآن ، ومازالت مناسباته تتمتع بإقبال جماهيري ضخم وخاصة موالد أهل البيت (ع) .

 

   يفسر بعض الباحثين الرومانسيين هذا التماسك للتصوف خلال فترة حكم مبارك بارتباطه الواضح بأهل البيت النبوي الذين يمتلكون مكانة عظيمة للغاية لدى الشعب المصري ، وهو تفسير مع وجاهته يبدو قاصراً للغاية في رصد الظاهرة الدينية المصرية ، فحتى التيارات السلفية المعادية للتصوف والتي تبدي استياء واضح لمدى قدسية أهل البيت عند المصريين لا يمكنها سوى إعلان حبها واحترامها لأهل البيت (ع) ومحاولة الإشارة إلى أنها ترفض فقط طريقة التعبير عن الحب شكلاً وليس الحب ذاته .
   لقد دخل التصوف مصر في مرحلة متأخرة من تاريخها الإسلامي ، وبالرغم من أن أحد مؤسسي التصوف هو ذو النون المصري ، إلا أن التصوف لم ينتشر جماهيرياً بين المصريين إلا في العهد الأيوبي عندما تبناه صلاح الدين الأيوبي ، بشكله الطرقي ، وبنى خانقاه سعيد السعداء في القاهرة لتكون مستقراً للصوفية في مصر .
   والملاحظ أن أقطاب التصوف الأربعة في مصر وهم أبو الحسن الشاذلي ، الرفاعي ، أحمد البدوي ، إبراهيم الدسوقي هم باستثناء الأخير من الوافدين إلى مصر من المغرب ، بينما وفدت القادرية المنسوبة إلى عبدالقادر الجيلاني من الشرق الإسلامي ، بل أن الطبقة الثانية من الأولياء الصوفية في مصر كعبدالرحيم القنائي وأبو الحجاج الأقصري هم كذلك من الوافدين الذين استقروا في مصر بعد أن أصبح التصوف معترفاً به من قبل السلطة الحاكمة بل ومدعماً من قبلها .
   ومن الغريب أن الطرق الصوفية سرعان ما تمكنت من اختراق الواقع المصري والانتشار بين المصريين بشكل مكثف بحيث أصبحت الدين الرسمي لمصر في أواخر العصر الأيوبي وخلال العصرين المملوكي والعثماني ، وحتى خلال حكم أسرة محمد علي باشا ، ويرجع ذلك إلى تحالفها مع الإقطاع بحيث عبرت بوضوح عن مصالحه ، لكنها أيضاً تمكنت من التعامل بمرونة واضحة مع المعتقدات القديمة للمصريين وأعادت إنتاجها بشكل وطابع إسلامي وهو ما ساهم في قدرتها على الانتشار القوي بين المصريين المعروفين بتشبثهم القوي بتراثهم الروحي والحضاري .
   لقد سعت بعض أطراف الليبرالية الجديدة في مصر مع بداية النهوض الجزئي للعلمانية المصرية في عهد الخديو إسماعيل الطعن في التصوف في محاولة لتحجيم التأثير الكبير لمشايخ الطرق الصوفية على أتباعهم ، كما سعت التيارات الدينية السلفية التي بدأت نشاطها في عشرينات القرن الماضي لنفس المحاولة والتي استمرت حتى قيام ثورة 25 يناير الماضية ، وتنوعت الاتهامات الموجهة إليها ، ما بين إدخال البدعية والشعائر الشركية ، وما بين تبني الخزعبلات والأساطير في سبيل السيطرة على الأتباع وكونهم حصان طروادة الذي ينتشر التشيع عن طريقه بين المصريين ، ووصل الأمر ببعض الباحثين لتبني إتهامات مضحكة لا تصمد أمام أي نقد تاريخي سليم ، حيث اتهم الكاتب دكتور أحمد صبحي منصور وآخرون أقطاب الصوفية الأربعة بتبني مخطط علوي سري لإعادة حكم الفاطميين إلى مصر مرة أخرى ، وهو المخطط الذي لم نجد له أي أثر ولا دور سواء في الفترة الأيوبية أو في فترة حكم المماليك ثم العثمانيين ، بالرغم من أن العديد من السلاطين المماليك كان يعتقد في أقطاب الصوفية ويؤمن بولايتهم .
   إن صمود التصوف في مصر أمام كل هذه الهجمات التي وجهت إليه بالرغم من قصوره الواضح من الناحية الإعلامية والحركية السياسية ، يعود في المقام الأول لهزال التطور الاجتماعي المصري الذي مازال يشوبه قدر كبير من السلوك الإقطاعي الذي ولد التصوف الطرقي من أجل التخفيف من حدة التناقض ما بين الأثرياء والفقراء ، كما يرجع من ناحية أخرى إلى تماهي التقاليد والشعائر والرؤى الإنسانية الصوفية مع نظيرتها في مصر القديمة التي مازالت تعيش بين جنبات المصريين حتى الآن وحرص التصوف على عدم الاصطدام بها .
   يمثل مسجد أبو الحجاج الأقصري هذا النموذج الذي يعيشه التصوف المصري من مزجه بين كل التطورات الحضارية المصرية ، فالمسجد يتواجد داخل معبد الأقصر ، وقد كشفت الحفريات الأثرية عن وجود أعمدة من المعبد الفرعوني داخل المسجد بالإضافة لكنيسة أثرية تقع أسفله تماماً كانت مطمورة بالطين ؛ وبالرغم من أن هذا التنوع الديني والحضاري في المكان قد يعد مصادفة لدى البعض إلا أنه ترك تأثيره بوضوح على المؤمنين المصريين الذين يحتفلون كل عام بمولد المتصوف المسلم أبي الحجاج الأقصري بنفس العادات والتقاليد التي أتبعها أجدادهم أثناء الاحتفال بالإله آمون الذي بني المعبد من أجل عبادته في عيد أوبت .
   في مولد أبي الحجاج الأقصري يطوف المؤمنون (يبلغ تعدادهم أحياناً ما يفوق 2 مليون محتفل من كافة محافظات الصعيد) شوارع الأقصر وهم يتلون القرآن الكريم وينشدون الأشعار في مدح أهل البيت ويغني بعضهم أغان تراثية ويمارس لعبة التحطيب العريقة ، ويحمل البعض الآخر توابيت مكسوة بالقماش المزركش كما يقومون بحمل مركباً ضخماً على أكتافهم وخلفه عربات تمثل الحرفيون كل يمارس حرفته ، وهذه الممارسات تتماثل بدقة مع تقليد عريق للغاية لدى المصريين ، حيث كان يخرج الإله آمون من معبد الكرنك في مركبه يحمله الكهنة على أكتفاهم لزيارة معبده بالأقصر ليدخل إلى زوجته الإلهة موت مع موسم الفيضان في لقاء يرمز لخصوبة الأرض ، وتمارس خلاله نفس الممارسات التي يقوم بها المصريون الآن في احتفالهم بأبي الحجاج الأقصري ، مع الخلاف في بعض التفاصيل الصغيرة التي يفرضها عاملي التطور والدين .
   إن التصوف مرشح لأن يكون هو التدين الأساسي في الفترة القادمة لدى المصريين نظراً لاحترامه الواضح لخصوصيتهم الدينية وتماهيه مع السلوكيات والرؤى الحضارية والإنسانية العريقة لدى المصريين ، في حال أدرك الصوفية ما يملكونه من تميز وقوة لدى الشارع المصري وقرروا بالفعل أن يكون لهم رؤية خاصة وإيجابية فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل المصري وتخلصوا مما يعانونه من سلبية واضحة ، أما مدى قدرتهم على تحقيق هذا التطور فهذا موضوع مقال آخر ...

أحمد صبري السيد علي
18 أبريل 2014
  
                                                                

ليست هناك تعليقات: