الثلاثاء، 13 نوفمبر 2012

الصراع الطبقي والتداخل الحضاري في حكاية " أم الحور أميرة السبع بحور "



   لا يمكن البحث عن خلفيات نقية في الحكي الشعبي المتداول ، حتى لو تجاوز مرحلة الشفاهية إلى الصياغة المكتوبة ، فالحكاية الشعبية تتداخل فيها العديد من المؤثرات الناتجة عن التناقضات الاجتماعية التي يشهدها الواقع المعاش ، والمؤثرات الحضارية التي تلقتها وتأثرت بها الجماهير المستمعة .


   في حكاية " أم الحور أميرة السبع بحور " لا تخرج مساراتها عن ذات سياق القصص الشعبي في الفترة الأيوبية/المملوكية ، والتي نشأ أكثره وتأثر بمرحلة ازدهار الطبقة التجارية الإسلامية بالعهد العباسي الأول ، وقيامها بمشروع حضاري ثقافي ضخم لترسيخ منظومتها تم خلاله ترجمة التراثيات القديمة للشعوب الداخلة في نطاق دولة الخلافة ، وحتى الشعوب المجاورة التي اختلطت بالحضارة الإسلامية وإن لم تدخل في نطاق الدولة ، مع إضفاء طابعها التجاري المشوب بالمؤثرات الإسلامية على هذه التراثيات .
   الجزيرة ، البحار ، الشاطر ، الأمير والأميرة ، الثروة والسحر ... تبدو كلها كعناصر مشتركة لمعظم هذا القصص الشعبي المنتمي لتلك المرحلة ، والذي تداخلت فيه الأصول القصصية القديمة بالاسهامات المؤثرة للطبقة الناهضة .
   في هذه المحكية ، يبدو صوت حركة أمواج البحر في خلفية البداية والنهاية مثيراً لحالة الغموض والرهبة المقترنين دائماً بالمغامرة كأداء يميز التاجر بشكل عام ، وهي الروح المشتركة بين العناصر السالفة . تتجسد روح المغامرة في السعي الدائم خلف الثروة والسلطة ، واستكشاف أماكن جديدة وأراضي مختلفة يمكن مد النفوذ إليها والتنقل بينها بالبضائع المتبادلة وأيضاً المؤثرات الحضارية ، ومع ما يكتنف هذا المسعى من تهديدات غير محسوبة تحتاج إلى الكثير من المخاطرة ، بحيث يمكن طرح علامة استفهام حول احتياج هؤلاء الأمراء (محمد ، محمود وحسن) للمغامرة أصلاً بينما هم حكام بالفعل على جزيرتهم .
   البحر والجبل ، يمثلان عنصرين غريبين للغاية لدى المجتمعات الشرقية الزراعية المعتمدة في حياتها اليومية على الاستقرار والروتينية بجوار الأرض ، وهي حياة تفتقد تماماً لأي تغيير في السياق الخارج عن التوقعات . في مصر ، العراق ، إيران وحتى شبه القارة الهندية ستبدو هذه المحكيات غريبة نوعاً ، بل أن الفرعون المصري نخاو عندما فكر في القيام برحلة كشفية حول أفريقيا لم يطلب من بحريته المصرية القيام بها ، وإنما كلف بحارة فينيقيين بهذه المهمة ، كما أن الشعوب الرعوية كالعرب ، الأمازيغ والتركمان ذات الواقع الداخلي والحبيس في الصحراء غير قادرة على تفهم روح المغامرة البحرية .
   إن الجبل يلعب في المحكية دوراً داعماً للإشارة إلى طبيعة الخلفية الحضارية التي تنتمي لها المحكية بالأصل ، والتي يبدو أنها ذات جذور أغريقية ، حيث تجمع ما بين البحر ، الجزيرة ، الجبل في إطار واحد ، وهو ما يرتبط بحركة بالجغرافيا اليونانية واتجاهات انتشارها السلمي في المحيط البشري الزراعي المستقر وتبادل التأثير الحضاري مع شعوبه الذي أنتج فكراً هيلينستياً مختلطاً ذا طابع مميز .
   الجزيرة ، الأمير/الشاطر ، السيف ، وأميرة السبع بحور ، تبدو عناصر ذات دلالة صراعية لهذه الطبقة مع الإقطاع السائد ، وطموح جارف إلى الصعود نحو السلطة . الجزيرة ، هي تلك الأرض ذات القيمة القصوى التي يسعى الأمير (الشاطر) للفوز بالسيادة عليها وتنحية أخوته ، لم توضح الحكاية السر في أن الأب يخرج على تقاليد وراثة السلطة كي يختلق منافسة بين أبنائه بحيث يتوجه ثلاثتهم لمغامرة غير مضمونة العواقب بحثاً عن الثروة ، لكن المنافسة هنا جزء ضروري من الحكي الذي يرغب في الإشارة الخفية للصراع مع الإقطاع الذي يمثله الأميرين (محمود ، حسن) الخاملي الذكر والساعيان بشكل دائم خلف الطرق المأمونة والمضمونة بعيداً عن المغامرة وروح الاستكشاف .
   أميرة السبع بحور ، ترمز للبحار التجارية السبعة المعروفة في هذه الفترة ، ونجاح الأمير/الشاطر في الاستحواز عليها عبر الزواج إشارة واضحة للسيطرة التجارية على هذه البحار الهامة ، ومن الملفت أن المحكية لم تسع لتحويل الزواج من الأميرة إلى هدف في حد ذاته ، بل استمرت على إخلاصها للخلفية الطبقية معتبرة أن الزواج من الأميرة (أي السيطرة على البحار) هو وسيلة لتحقيق الثروة (في البداية) ثم السلطة كنتيجة مترتبة على العنصرين السابقين .
   الأمير/الشاطر ، مزاوجة تحمل قدراً كبيراً من التناقض ومن غير الممكن الجمع بين اللقبين في الواقع ، وإذا كان الأول لقباً ملكياً واضحاًَ ، فالثاني هو لقب انتشر في الفترة الأيوبية/المملوكية للإشارة إلى مجموعات من اللصوص الذي يستولون على الأموال بالحيلة (نصابين) ، ويبدو أن هذه التسمية أمتدت إلى الطبقة التجارية في فترة لاحقة عند الجماهير التي اعتبرت التجارة نوع من الاستيلاء على الاموال بالحيلة ، ونحن هنا أمام صداماً آخر داخل المحكية بين التجار والفقراء أجبر التجار على أثره تبني المسميات الاستنكارية التي أطلقها عليهم الفقراء في محاولتهم ترويج رؤيتهم عبر هذا القصص .
   السيف ، يدخل ضمن مراحل البحث عن السلطة ، فمجرد الوصول لأميرة السبع بحور لم يحتج سوى لبذل الجهد ، لكن الاحتفاظ بها والحصول على الثروة (شجرة الألماظ) استلزم الحصول على السيف المسموم ، بل وقتل الحارس الأعمى وقائد الحراس الأربعين لشجرة الألماظ ، كما احتاج إليه لاحقاً لقتل الاسد في حديقة سلطان الأرض السفلية . فالجيش المسلح هنا يمثل أهمية كبيرة في طموحات الطبقة التجارية لتحقيق السيطرة الكاملة على مسارات وطرق التجارة البرية والبحرية .
   تحتوي القصة على فقرة أخيرة تحمل نقداً لاذعاً للمجتمع الاقطاعي الشرقي الذي اكتشفه الأمير عقب سقوطه في البئر ، فسفلية المجتمع ووجوده تحت الأرض تمثل إشارة لمدى تخلفه ورجعيته ، كما أن اعتماد أهله على الأمير الوافد لقتل الأسد في حديقة السلطان هو نقد آخر لما يعانونه من سلبية وضحالة ذهنية ورتابة تدفعهم للبحث دائماً عن مخلص أجنبي ، بل أن السلطان العاجز عن مواجهة الأسد يبدو عاجزاً كذلك عن الدفع بالامير إلى (وش الدنيا) ، وهي المهمة التي يتولاها الساحر غندور وتمثل حالة الانتقال من المجتمع الاقطاعي المتخلف للمجتمع التجاري التقدمي الذي يحيى على الواجهة .
   يبقى السحر ، المجسد في شخصية الساحر غندور ، من بين العناصر الأساسية في القصص الشعبي ، والذي يمثل هنا القوى الغيبية القادرة على فعل أي شيء ، لكنها في المقابل تكتفي فقط بمساعدة الشاطر محمد كمكافأة على تبنيه سلوكيات وأفكار الطبقة التجارية في المغامرة بشرط الالتزام بطاعتها العمياء وإلا تعرض للمشاق في طريقه ، حيث عوقب الشاطر محمد عندما قام بقطع فرع من شجرة الألماظ تحت وقع الطمع في المكسب المباشر متجاهلاً أوامر الساحر غندور الذي يرغب في تعليمه النظر للمكسب الأبعد والأكثر قيمة في سياق الالتزام بروح المغامرة . ومع العصيان الانساني لاوامر القوة الغيبية إلا أنها تستمر في رعايته وانقاذه من الصعاب التي تعرض لها ، بعد التزامه الكامل لاحقاً بتنفيذ كل أوامرها دون مناقشة .
   يمثل الساحر غندور الحالة الأكثر توتراً للقوة الغيبية في القصة ، بعيدا عن التعبيرات الايمانية والاسلامية فيها ، والتي تبدو مقحمة بها دون شك ، فالسحرة لم يكونوا موضع ترحيب من المجتمع الاسلامي بشكل عام ، فضلاً عن أن يتم إظهار أحدهم كساحر طيب ، وتزخر النصوص الاسلامية بالكثير من المرويات التي تحرم السحر ، إلا أن شخصية الساحر غندور تبدو تحايلاً مقبولاً على شخصية أحد الآلهة اليونانية القريبة من البشر في تعاملاتها ، ولا يستبعد أن يكون النص الأصلي كان متضمناً لذكر هذا الإله الذي تم استبعاده مراعاة للتقاليد الاسلامية .
   في الجانب السلوكي ، تضمنت المحكية قدراً من التناقض بين موقف الشاطر محمد من الغدر ، وبين موقف أخوته ، فالقصة تروي بقدر من الاحتفاء غدر الشاطر محمد بالفارس الأعمى وقائد حراس شجرة الألماظ دون سبب واضح ، وإن لجأت لطرح مبرر غير مقنع بكون الشخصيتين ينويان قتل الشاطر محمد بعد أن يحقق لهما مطالبهما ، متجاهلة تفسير دواعي هذا الاستنتاج حيث يبدو الغدر مبرراً في المغامرة بشكل عام نظراً لحالة التوجس التي يتعامل بها المغامر مع محيط مغامرته المجهول بالكلية بالنسبة له ، لكنها في المقابل اعتبرت غدر أخوي الشاطر محمد به عقب قيامه بتسجيل انتصاره عليهما بختم رقابهما شيئاً مذموماً استوجب في النهاية تعرضهما للجلد ، وربما كانت المحكية تراعي التقاليد الاجتماعية السائدة التي تستنكر الغدر بين ذوي القرابة ، وإن لم تنفي المنافسة على الثروة والسلطة بينهم .
   ثمة مؤثرات اسلامية وقرآنية يمكن ملاحظتها في القصة ، فالفارس الأعمى لا يمكنه استعادة بصره إلا إذا ألقى على وجه قميص أميرة البحور ، وهي مأخوذة من قصة قميص النبي يوسف الذي ألقي على وجه أبيه النبي يعقوب فاستعاد بصره ، كما أن المشقة التي عانى منها الشاطر محمد نتيجة قطعه لفرع شجرة الألماظ بالرغم من نهي الساحر له عن هذا التصرف ، يشبه العقاب الذي تعرض له آدم (ع) بعد عصيانه لأمر الله (عز وجل) بعد الأكل من الشجرة .
   لقد أكدت الحكاية على المصير السعيد في النهاية للأمير الشاطر محمد الذي خاض طريق المغامرة وتمكن من الوصول للسلطة كهدف أخير ، بعد امتلاكه للقوة العسكرية (السيف المسموم) والثروة (شجرة الألماظ) وزواجه من أميرة البحور (السيطرة على طرق التجارة) ، مقابل فشل النماذج الإقطاعية وسلبيتها . وقد نجحت لحد كبير في استخدام عناصر الغموض وإثارة روح الاستكشاف لدى الجماهير بحيث تمنح محكيتها جاذبية تتجاوز حتى حقيقة تعارض بعض فقراتها مع النصوص الدينية ، بما يمنحها شرعية جماهيرية ويجعل سيرة بطلها مطمحاً وصورة مثلى لدى المستمع البسيط ، تسهل لحد كبير السيطرة عليه مستقبلاً وتثويره في مواجهة الاقطاع الذي يحكمه بإطار من القمع لا فكاك منه .
   ويبقى التساؤل إن كانت الطبقة التجارية بالفعل كانت تمتلك مشروعاً صريحة للقضاء على الإقطاع ووراثته بالعالم الإسلامي ؟! وهل كان الوعي الطبقي ناضجاً غلى هذه الدرجة التي مكنتها من استخدام حكايات شعبية كي تروج لهذا المشروع بين الناس ؟! . من الصعب التوصل لإجابة حاسمة في هذا الشأن ، لكن المؤكد أن هذه الحكاية (أم الحور أميرة السبع بحور) قد تعرضت لعدد من التطورات والمؤثرات حتى استقرت على النص النهائي المرتبط بالعصر المملوكي .

                        أحمد صبري السيدعلي
13 نوفمبر 2012

ليست هناك تعليقات: