الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

رأس الحسين (تناقض العوامل الذاتية ومنهج الحراك التاريخي)

لوحة مذبحة البراءة للفنان الفرنسي نيكولاس بوسان

 مقدمة 
 ثمة تلازماً ـ غالباً ما يوجد ـ بين البحث التاريخي وبين بعض الدوافع الذاتية ـ طبقية، قومية، مذهبية ـ التي قد تشكل خلفية ضاغطة إلى حد كبير على ذهن الباحث، مما يخرج البحث عن المنهجية  التي تعتبره محاولة للوصول إلى الحقيقة ـ ليبدو كما لو كان بحثا عن أدلة لتصورات محددة حتى قبل شروع الباحث في صياغته .

 
وتعد قضية " رأس الأمام الحسين" منتمية إلى هذا النوع من القضايا التاريخية التي أدى ارتباطها بظروف عقائدية واجتماعية معينة إلى إصرار معظم الباحثين والمؤرخين على وضعها في الوسط من كل هذه الدوافع و الأغراض، دون الالتفات إلى تلك المكانة المقدسة لحفيد النبي والتي تفـترض وجود نوعا من الحياد والتجرد في المعالجة. ولعل هـذا ما يفسر الصعوبة التي تواجه الباحثين المعاصرين في محاولاتهم تحديد مرقد الرأس المقدس .
والواقع أن وجود العديد من القضايا الشبيهة في التاريخ الإسلامي، حيث تمنح المروية " ذات الغرض " سلطات مطلقة، مهما كانت نقاط ضعفها وما تمارسه من تغييب، يؤكد مدى فاعلية المنهج المادي في التعامل مع القضايا التاريخية حيث يتجاوز سلطة هذا النوع من المرويات إلى استكشاف القوانين الـتي تحكـم حركـة الواقـع الاجتماعـي والاقتصـــادي ومؤثراتهما في الوضع السياسي بل وفي نشأة بعض الأفكار والعقائد الدينية. 
إن تحديد موضع رأس الحسين يرتبط بأهمية كبرى في الواقع العربي والإسلامي، فلابد من الاعتراف أنه ليس ثمة مؤثر في حياة المسلمين عموماً أكبر من شخصية الإمام الحسين، ويبقى ارتباط الناس بـ " الرأس " عاملاً قوياً على الوعي بمدى القُبح الذي يرتبط بالاستغلال حتى لو كان يرتدي ثوباً دينياً، والذي لم يتورع عن قتل حفيد النبي بكل ما يمثله من طُهر، والأكثر قبحاً هو تسخير العقيدة الذي قام _ ويقوم _ به فقهاء السلطة لتبرير هذه الجريمة واعتبار مرتكبها مجتهداً يثاب عن اجتهاده، ومحفزاً على استحضار تجربة نضاله المقدسة (الحسين) ، والتي ثبت مدى ما تختزنه من طاقات ثورية في فترة قيام ثورة العشرين 1920 م في العراق، والثورة الإسلامية في إيران 1979 م، وفترة مقاومة حزب الله للكيان الصهيوني في لبنان حتى انتصاره في 2000م.
لقد كانت التيارات السلفية سباقة في إدراكها لمدى خطورة ارتباط الجمهور المسلم بالحسين، فسعت إلى التشكيك في وجود رأسه سواء في مصر أو العالم، كما سعت بقوة خاصة بعد قيام الثورة الإيرانية إلى نثر عشوائي للعديد من الفتاوى _ القديمة والحديثة _ التي تحرم زيارة مرقده سواء في مصر أو كربلاء، خوفاً من استغلال أي من التيارات الثورية لهذا الارتباط للقيام بحالة توعية دينية واجتماعية تهدد سيطرتها على الواقع الديني في العالم الإسلامي.
في المقابل تستغل التيارات الصوفية الارتباط الشعبي بالإمام الحسين لتغييب الحقيقة الثورية والنضالية للحسين عن طريق اختزال الصراع بينه وبين الأمويين في النطاق الشخصي أو العشائري، بعيداً عن الأهداف الاجتماعية والعقائدية الحقيقية لهذا الصراع، مما يعني انتهاء كل شرعية للثورة (كفكرة) عقب سقوط الأسرة الأموية، بل وانتهاء الحسين (كإمام ثائر)، والترويج للحسين (كحفيد النبي الزاهد)، والرافض حتى مواجهة القبح الذي تفرضه السلطة باسم الدين على الواقع الإسلامي. 
إن الارتباط الجماهيري الواضح بآل البيت هو في الواقع حنين ينقصه الوعي لما يمثلونه من طهر خاص يسير في خطوط متناقضة بوضوح مع القبح المتوغل حتى في أوساط الطبقات والفئات التي ثار من أجلها الحسين ومن قبله علي ومحمد(ص)  .

الكتاب
 مثلت ثورة الحسين نوعاً من الصدمة للعالم الإسلامي، فقد كان الإمام الأول من أئمة آل البيت الذي يقدم على حركة عسكرية ثورية علنية في موقع الرفض للسلطة(*)، وكان إقدام السلطة الأموية والأرستقراطية العربية على قتله بكل هذا التوحش إدانة لهذه الأرستقراطية الإقطاعية، لم تستطع كل المبررات المختلقة من قبل فقهاء السلطة طوال العصور الإسلامية القضاء عليها، وإن ساهم في تحويل الحسين إلى نموذج ثوري محفز ذو جاذبية خاصة وملهماً لكل الحركات العسكرية الثورية اللاحقة عليه. كما شكل الخذلان الذي ووجه به الحسين من قبل الطبقـات الكادحة التي خرج في سبيل الدفاع عن حقوقها بسبب تمسكها بانتماءاتها القبلية وخضوعها لزعاماتها الأرستقراطية إدانة أخرى، أدت في مرحلة لاحقة إلى سقوط هذه الانتماءات كعائق اجتماعي في مواجهة الثورة استغل فيما بعد لصالح صعود الطبقة التجارية في نهاية العهد الأموي.
   على أن استخدام الحسين كمحفز للثورة من قبل قيادات الطبقة التجارية لم يكن في الواقع سوى وسيلة أكثر منه غاية، إذ سرعان ما مارست هذه الطبقة نفس الاستغلال الذي ثار الحسين في مواجهته، ومع إدراكها لخطورة هذا النموذج التي سبق واستخدمته في مواجهة الإقطاعية الأموية فقد أصدرت السلطة العباسية عدة قرارات لمواجهة الجاذبية الثورية للحسين، عن طريق منع المسلمين من زيارة قبره والتبرك به، بل وتوجيه الإهانات إلى هذا القبر وهدمه أكثر من مرة(*).
   وفـي مرحلة عـودة الإقطاعية للمرة الثالثة وعقب إسقاطهـا للفاطميـين في مصـر، لجأت التيارات الدينية المدعمة لها إلى محاربة كل اتجاه يهدف إلى تحديد موضع الرأس، إضافة إلى التشكيك في المشهد الموجود في القاهرة، خوفاً من ارتباط الناس بمشهد آخر للحسين واستخدام هذه العاطفة لنشر الأفكار الثورية والشيعية التي تهدد الوضع الديني والطائفي لهذه الطبقة.
ومن هذه الخلفية يمكننا تفهم هذا الكم من المرويات المتضاربة  المتعلقة برأس الحسين في وصفها للطريقة التي وصل بها الرأس إلى الموضع الواحد، ويرجع هذا التضارب
في الغالب إلى الاختلاف في زمن صدور الرواية، بالإضافة إلى اختلاف الخلفيات التي دعت إلى تأليفها.   
تذكر المرويات التاريخية تسعة مواضع افترضت وجود رأس الإمام الحسين فيها، وقد ارتبطت معظم هذه الـروايات بالمـدن التي شملت خط سير آل البيت عقب واقعة كربلاء، بينما ارتبطت روايات أخرى بالمدن التي حكمت من قبل أسر شيعية، إلا أنها تتفق جميعاً على توجه الرأس في البداية إلى مقر الخلافة الأموية بدمشق.
لقد تبنى ابن تيميه _ في إطار محاولاته للدفاع عن يزيد بن معاوية وإنكار أي تواجد للرأس _ لدعوى عدم دخول الرأس مدينة دمشق كمقدمة لإنكاره للممارسات التي قام بها يزيد في هذا الموقف، والواقع أن ابن تيميه انفرد بهذه الرؤية، وقد أضطر تلميذه ابن كثير إلى رفض رأيه عندما تناول حادثة استشهاد الحسين، وتبنى رأياً مغايراً رغم حرصه على عدم نقل أي من المرويات التي يتهم رواتها بالتشيع، هذا الموقف الذي اتخذه أكثر المؤرخين تعصباً لابن تيميـه وأفكاره ربمـا يعود لإدراك ابن كثيـر مدى ضعف الوعي التاريخي لدى أستاذه، وهو ما يجعله (ابن تيميه) جريئاً في إنكاره الحوادث التاريخية المتفق عليها بين المؤرخين في ردوده على مخالفيه العقائديين، الأمر الذي يسبب حرجاً بالغاً لتلامذته، وقد اضطر ابن كثير إلى عدم التصريح باسم ابن تيميه عند استعراضه لرأيه ربما خجلاً من هذا الرأي(*)


   أولا :ـــ  كربــلاء

وهـي مرقـد الجسد حيث تذكـر بعض الروايات أن الرأس أعيد إلى الجسد في يوم 20 صفر أي بعد أربعين يوما من الاستشهاد بواسطة الأمام علي السجاد . يقول رضي الدين بن طاووس (فأما رأس الحسين علية السلام فروي أنه دفن بكربلاء مع جسده الشريف، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار أليه)(1)، ويقول القزويني (في العشرين من صفر رد رأس الحسين إلى جثته)( 2)، وقد ذكر خواندمير في حبيب السير (أن يزيد بن معاوية سلم رؤوس الشهداء إلى علي بن الحسين فألحقها بالأبدان الطاهرة يوم العشرين من صفر ثم توجه إلى المدينة الطيبة)( 3)، أما سبط أبن الجوزي فقد ذكر حول كيفية وصول الرأس إلى كربلاء رواية أخرى (رده _ يزيد _ إلى المدينة مع السبايا ثم رد إلى الجسد بكربلاء فدفن معه)(4 ).


   إلا أنه ومع كل هذه التأكيدات حول وجود الرأس بكربلاء فأن سياق الأحداث التاريخية يضعفها لعدة أسباب.

1_ مـن المستبعد تماما أن يفكر يزيد بإعادة الرأس إلى كربلاء ومع الأمام السجاد بالذات تحسبا من محاولة الأمام السجاد إثاره

الشيعة بالعراق ضد السلطة الأموية، ويروي المجلسي في البحار أن الإمام علي بن الحسين طلب من يزيد، أن يرى وجه الإمام الحسين إلا أن إجابة يزيد كانت موضحة لمدى إستشعارة خطورة ظهور الرأس أمام الناس " أما وجه أبيك فلن تراه أبدا "، كما أن الشيخ المفيد لم يذكر في رواياته عن رحلة عودة آل البيت إلى المدينة أن قافلتهم قد مرت على كربلاء أو توقفت بها(5).
2_ أن كل من أمير الجيوش بدر الجمالي والذي يروى أنه باني مشهد الحسين بعسقلان ، والصالح طلائع بن رزيك باني المشهد القاهري، والوزير المأمون الذي أهدى المشهـد الحسيني بعسقلان قنديلا من الذهب الخالص من ماله الخاص، كانوا ينتمون إلى المذهب الإمامي الإثنى عشري، ومع الوضع في الاعتبار أن هذه المرويات يتبناها الشيعة الأمامية على الأخص ، فإن الاحتمال أن أي منهم لم يكن يعلم أو لم يكن مشهورا عنده أن ثمة موضعا آخر لرأس الحسين، وألا لما قاموا ببناء هذان المشهدان له إضافة إلى إهدائه قنديلا من الذهب   الخالص(6).

   ثانيا :ــ النجف الأشرف


 تذكر بعض المرويات في الكافي أن الرأس مدفون بالنجف الأشرف عند الأمام علي بن أبي طالب، حيث تنقل علـى لسـان الأمام الصادق أن أحد موالي آل البيت سـرقه مـن الشـام وقـام بدفنه في النجف بجوار أمير المؤمنين(7) ، ويذكر المجلسي رواية في البحار عن الأمام الصادق تنقل صورة أخرى للوسيلة التي وصل بها رأس الحسين للنجف (إن الملعون عبيد الله بن زياد لما بعث بـرأس الحسين بن علي إلى الشام رد إلى الكوفة، فقال: أخرجوه عنها لا يفتتن به أهلها ، فصيره الله عند أمير المؤمنين فالرأس مع الجسد و الجسد مع الرأس)(8 ).

توجد عدة إشكاليات تاريخية تضعف من موقف هذه المرويات:ـ 


1 ـ أنه من الصعب أن يستطيع أحد موالي آل البيت _ حتى لو كان ملتزما بالتقية _ سرقة رأس الأمام الحسين من الأمويين والهرب بها إلى العراق ودفنها في النجف ، خاصة أن الروايات لم تذكر كيفية هروبه بها من الشام دون الوقوع في قبضة الأمويين ، كما لم تذكر لنا السبب الذي دفع هذا المولى إلى دفن الرأس بالنجف القريبة من مقر الحكم الأموي في الكوفة حيث يكون معرضا لكشف أمره ، وقد كان باستطاعته أن يقوم بدفنها بكربلاء. 

2_ من المعروف أن مرقد الأمام علي بن أبي طالب بالنجف لم يكتشف إلا بعد سقوط الدولة الأموية، وبالتالي فإن دوافع الدفن بالنجف سواء بالنسبة لمولى آل البيت أو بالنسبة لعبيد الله بن زياد تبدو منعدمة، حيث أن أي منهـم لا يعلم بوجود قبر في هذا المكان(9).
 3ـ من المستبعد أن يقوم يزيد من تلقاء نفسه بإرسال الرأس إلى الكوفة حيث مقر أنصار الحسين، والغريب أن واضع الرواية التفت إلى هذه المشكلة _ في الرواية الثانية _ فقام بحلها بجعل المرقد في النجف دون الالتفات لنقاط الضعف السالفة مما يوضح أن هذه الروايات غير   معاصرة للأئمة.


   ثالثا :ـــ المدينة المنورة 

هنـاك بـعض الـروايـات تـؤيد دفـن الرأس بالمدينـة المنورة، لعل أهمها ما ذكره الإمام البخاري في تاريخه (أن رأس الحسين حمل إلى المدينة ودفن بها في البقيع عند قبر أمه رضي الله عنها)(10)، ويقول ابن كثير (فروي عن محمد بن سعيد " أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة فدفنه عند أمه بالبقيع ")(11) ويذكر أبن فضل الله العمري (وقد جاء في أخبار الدولة العباسية، أنهم حملوا أعظم الحسين ورأسه إلى المدينة النبوية حتى دفنوه بقبر أخيه الحسن)(12).
توجد ثلاث أسباب تؤكد ضعف هذه الروايات :ـ 
1 ـ تعتمد هذه الروايات على أن مشهد الزهراء بالبقيع، رغم اتفاق المؤرخين على أن الأمام علي قد دفنها سرا، وبالتالي فإن مشهدها ظل مجهولاً ومن غير المؤكد وجودها في البقيع أم في أي مكان  آخر(13).
2 ـ ذكر المسعودى عند الكلام عن دفن الأمام الصادق بالبقيع (وهناك إلى هذا الوقت رخامة مكتوب عليها " الحمـد لله مبيد الأمم ومحي الرمم ـ هذا قبر فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء العالمين، والحسن بن علي بن أبي طالب، وعلي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد رضوان الله عليهم أجمعين)(14)، ولو كان الحسين مدفونا معهم لذكر أسمه بينهم، كما أن الرحالة المغربي ابن جبير زار المدينة سنة 578 هــ وذكر المراقد الموجودة في البقيع ولم يشر إلى الحسين رغم ذكره لكل مراقد آل البيت السالفي الذكر(15).

   رابعا :ـــ مرو

 ذكر المقدسي عند كلامه عن مرو(وعلى فرسخين من مرو يوجد رباط، قالوا إن فيه رأس الحسين بن علي رضي الله  عنه)(16). وذكر عمر بن أبي المعالي أسعد بن عمار (أنه " الرأس " في خزائن بني أميه إلى أن ظهرت الخلافة العباسية، وأن أبا مسلم نقله إلى خراسان)(17).
هذه المروية تعد من أكثر المرويات ضعفاً في هذا المـوضوع لتعارضهـا بوضـوح مـع سيـر الأحداث التاريخية، فأبا مسلم الخرساني لم يقم بفتح الشام، والذي قام بهذا الدور هو عبدالله بن علي بن عباس بينما كان أبا مسلم في تلك الفترة بخراسان، كما أن الرواية لم تذكر دواعي نقل أبا مسلم للرأس(18).

   خامسا :ــــ الرقة
   ذكر سبط بن الجوزي أن رأس الحسين بمدينة الرقة على الفرات (لما أحضر الرأس إلى يزيد بن معاوية، قال " لأبعثنه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان " وكانوا بالرقة فبعثه إليهم فدفنوه في بعض دورهم)(19).
   وهذه الرواية مستبعدة تماما لاحتوائها على نقاط الضعف  الآتية :ـ 
1ـ انفراد سبط بن الجوزي بنقل هذه الرواية الغريبة.
2ـ عـدم وضـوح أسبـاب إرسال يزيد بالرأس إلى أقاربه بالرقة، فهل كان المقصود إهانتها في مقابل الإهانة التي تعرض لها عثمان؟ وفي هذه الحالة فقد كان بمقدور يزيد القيام بهذه الإهانة من دون إخراج الرأس إلى الرقة، كما أن الأولى أن يرسله إلى آل أبي معيط في المدينة.   
3ـ ذكر سبط بن الجوزي أن الدار التي دفن بها الحسين قد أدخلت في المسجد الجامع(20)، ولم يذكر المؤرخين أن أحد خلفاء بني أمية قد بنى بها مسجدا جامعا ، كما لم يذكر أن أحد من الأسرة الأموية قد أستقر في الرقة خاصة أن المدينة تحولت فيما بعد إلى خراب ولم تعمر إلا في عهد الخليفة العباسي    المنصور(21).
 
  
   سادسا :ــــ حلــــب


ذكر في "  تاريخ حلب ( أن الرأس في مدينة حلب في جبل جوشن، وقد بنى عليه الملك الصالح أبن الملك العادل نور الدين)(22).
تمثـل هذه الرواية التي تتحكم فيها العصبية للمدينة، ومع ذلك فهـي لا تحمـل أي قيمة تاريخية، حيث لم يذكر صاحبها كيفية ذهاب الرأس إلى حلب وإن كان من المعروف أن رأس الحسين توقف في حلب لفترة في الطريق إلى دمشق(23)، كما لابد من الإشارة إلى أن حلب حكمت من قبل دولة شيعية(الدولة الحمدانية) ولم يروى أنهم قد اهتموا بهذا المشهد. 




   سابعا :ــــ دمشق
   تؤكد بعض الروايات أن الرأس لم يغادر دمشق وأنه دفـن في خزائن السلاح حتى عهد سليمان بن عبد الملك الذي صلى عليها ودفنها في مقابر المسلمين(24)، وهي رواية يؤيدها بعض المؤرخين، كما يؤيدها مسار الأحداث التاريخية .  
فمن المنطقي أن يقوم يزيد بإخفاء الرأس في محاولة لتهدئة مشاعر المسلمين التي روعت بقتل حفيد نبيها ولم يمض على وفاته سوى خمسون عاما أو أكثر ، وليس ثمة مكان أكثر أمنا من خزائن السلاح ، وليس من المنطقي أن يقوم بإرسالها إلى أي مكان في ظل حالة الاضطراب التي شهدها العالم الإسلامي والتي استمرت حتى عهد عبد الملك بن مروان في سنة 73 هـ بعد قتل عبد الله بن الزبير، ومن المؤكد أنها ظلت بخزائن السلاح طوال تلك الفترة حتى عهد سليمان بن عبد الملك [96 هـ] الذي صلىعليها ودفنها في مقابر المسلمين بعد هدوء الاضطرابات والثورات التي قامت ضد الدولة الأموية(25)، وقد روى الرحالة ابن جبير في مشاهداته بمدينة دمشق و وصفه للمسجد الأموي (وفي وجه اليسار منه مشهد كبير حفيل كان فيه رأس الحسين بن علي رضي الله عنه ثم نقل إلى القاهرة)(26). إن وجود مشهد بهذا الشكل للحسين في دمشق يثبت أن رأس الحسين دفنت بها لفترة، وتبقى مشكلة بقائه في دمشق من عدمه عقب سقوط الأسرة الأموية، فالواقع أن هناك روايات تؤكد أن الرأس لم يغادر دمشق، يقول محمد بن قاسم بن يعقوب : " قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء ورأسه بالشام، في مسجد دمشق على رأس اسطوانة "(27)، ويذكر ابن كثير ( وذكر ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن عمر بن صالح وهما ضعيفان أن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي فأخذ من خزانته فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق، قلت ويعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني"(28). كما يعتقد الشيعة الإسماعيليون النزاريون بأن الرأس مدفـون فـي دمشق(29). 
إن أهم نقاط الضعف التي تواجه هذه المرويات ما سجله عثمان مدوخ في كتابة " العدل الشاهد " :  ( إن بعض العلماء عمد إلى مكان قريب من باب الفراديس وشرع في هدمه ليجعله خزانة لحفظ الكتب فعثر على طاق في الجدار محكم السد بحجر كبير مكتوب عليه بالنقش في الحجر ما فهموا منه أن هذا مشهد رأس الإمام الحسيـن السبـط فرفعوا ذلك إلى والي الشام يومئذ (في العصر العثماني ) فذهب ورأى ذلك بنفسه وأمرهم ألا يحدثوا في هذا شيئاً، ثم رفع الأمر إلى السلطان عبد المجيد خان بن السلطان محمود خان فصدر أمره العالي بكشف هذا المكان بحضور جمهور من العلماء والأمراء ووجوه الناس فأحضروا إلى الشام ما أمر به السلطان وكشفوا هذا الحجر الذي عليه الكتابة فوجدوا فجوة خالية عن الدفن وبعد أن رآها الحاضرون أمر بسدها كما كانت ورفع ذلك إلى السلطـان عبد المجيـد خان فصدر مرسومه العالي بإعمال طوق من الفضة حول الحجر وكنت أعلم مقدار زنة الفضة وأظن أنه سبعة آلاف درهم والله أعلم  بالحقيقة )(30).

إن هذه الحادثة تؤكد صحة المرويات التي أشارت إلى نقل العباسيين للرأس من دمشق إلى مكان آخر عقب سقوط الأسرة الأموية، كما تؤكد أن الرأس دفنت فعلاً في دمشـق مما يشكك كثيراً في صحة المرويات التي تشير إلى نقله قبل الأربعين إلى أي مدينة أخرى من المدن السابقة.   




   ثامنا :ـــ عسقلان

هناك بعض الروايات تذكر أن الرأس بعسقلان قال الصبان (واختلفوا في رأس الحسين بعد مسيرة إلى الشام إلى أين صار و في أي موضع أستقر، فذهبت طائفة إلى أن يزيد أمر أن يطاف برأسه الشريف في البلاد، فطيف بـه حتى انتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها، فلما غلب الإفرنج على عسقلان، افتداه منهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمال جزيل، ومشى إلى لقائه من عدة مراحل ووضعه في كيس حرير أخضر على كرسي من خشب الأبنوس، وفرش تحته المسك والطيب وبنى علية المشهد الحسيني المعروف)(31).

   تواجه هذه الرواية عوامل ضعف من جهة، وعوامل قوة من جهة أخرى، فمن عوامل الضعف :ـ 
1ـ أنه من غير المعقول أن يقوم أمير عسقلان بدفن الرأس دون تلقي أمر الخليفة، ولا تتناسب هذه الرواية مع الاستبداد الذي أشتهر به يزيد، هذا مع تحفظي على ما ذكرته الرواية من طواف الرأس بالبلاد، والذي لم يكن من مصلحة يزيد بأي حال.
2ـ أن الرأس جاء إلى مصر سنة 548 هـ بينما تولى الصالح طلائع الوزارة في سنة  549هـ(32).
   أما العوامل المؤيدة لصحة هذا المشهد : ـ 

1 ـ يروي المقريزي في " اتعاظ الحنفا " في أحداث سنة 491 هـ خروج الأفضل أبن أمير الجيوش إلى بيت المقدس للاستيلاء على القدس ودخوله عسقلان في أثناء رجوعه وبناءه المشهد الحسيني بعسقلان،  ويقول في آخر عبارته ( وقيل أن المشهد بعسقلان بناه أمير الجيوش بدر الجمالي وكمله أبنه الأفضل)(33).
2ـ يروي المقريزي أن الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي أمر بإهداء قنديل من ذهب وآخر من فضه إلى مشهد الأمام الحسين بعسقلان، كما روى أن الوزير المأمون أهدى للمشهد قنديلا ذهبيا له سلسله فضيه(34)، ولابد من الإشارة إلى أن الوزير المأمون كان شيعيا إمامياً(35).
3ـ يؤيد هذا المشهد نص تاريخي منقوش على منبر المشهد الذي أعاد بناؤه بدر الجمالي (.... وكان من معجزته تعالى إظهاره رأس مولانا الإمام الشهيد أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب بموضع بعسقلان كان الظالمون ستروه فيه)(36).

   ويظل السؤال حول كيفية وصوله إلى عسقلان باقيا ؟، وتدلل العبارة التي سجلت في عهد المستنصر على يد بدر الجمالي    أن :ـ
1ـ رأس الحسيـن كان موضعها مجهولا حتى اكتشاف بدر الجمالي لها في عسقلان.
2ـ أن كلمة " الظالمون " الواردة في النص الفاطمي من المستبعد أن يكون المقصود بها هم الأمويين، بعد أن ثبت قيامهم بدفن الرأس في دمشق، وبالتالي فالأكثر قبولا أن يكون العباسيين هم المقصودين بها، ولعل الدليل على هذا الاستنتاج رواية كل من المقريزي و أبن عساكر عن وجود الرأس بدمشق حتى دخول المسودة " العباسيين " ويقول المقريزي ( لما دخلت المسودة سألوا عن موضع الرأس الكريم الشريف فنبشوه وأخذوه والله أعلم ما صنع به)(37) فهذه الرواية تؤكد أن موضع الرأس في دمشق كان لا يشك فيه حتى دخول العباسيين، الذين قاموا بنبش القبر ونقل الرأس إلى عسقلان. ويبقى السؤال عن أسباب استخراج العباسيين للرأس من دمشق، ويبدو أنهم حاولوا استخدامه في فترة مبكرة من دخولهم الشام في إثارة المسلمين الشاميين ضد الأسرة الأموية عن طريق استعادة قصة مقتلة، ويشير دفنه في عسقلان إلى أن هذه المحاولة انتهت بمجرد استكمال استيلائهم على الشام واستعدادهم لدخول مصر الموالية للعلويين، كما أن إخفائهم لموضع الرأس بهذا الشكل ينسجم مع خوفهم التقليدي من استغلالها سياسياً من قبل العلويين وقيامهم أكثر من مرة بالاعتداء على مرقد الجسد بكربلاء.
   
   تاسعا :ــــ القاهرة
يروي الكثير من المؤرخين أن الفاطميين قاموا بنقل الرأس من عسقلان إلى القاهرة في عهد الخليفة الظافر سنة 548 هـ، يقول المقريزي : ( وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم واليهـا والقاضي المؤتمن بن مسكين مشارفها ووصل في القصر يوم الثلاثاء في جمادى الآخرة وحمل في السرداب إلى قصر الزمرد ثم دفن عند قبة باب الديلم بباب دهليز الخدمة فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر)(38).
   تتماشى هذه الرواية مع وجود الرأس في كل من المشهد الدمشقي، والمشهد العسقلاني، ويؤيد صحة هذا المشهد عدة أدلة :
1ـ أن كل من عسقلان و دمشق كانتا تحت الحكم الفاطمي، وهم بالتالي قادرون على نقلها إلى القاهرة من أي منهما.
2ـ أن الرحالة المغربي السني " ابن جبير " زار القاهرة في سنة 578 هــ أي بعد سقوط الدولة الفاطمية بحوالي [11 سنة ] وهي مدة قصيرة للغاية، وقد وصف ابن جبير مشهد الإمام الحسيـن ومـدى عمرانة بالزائرين قائلا ( وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك ، وأحداثهم به وانكبابهـم عليـه وتمسحهم بالكسوة التي علية و طوفهم حوله مزدحمين باكين متوسلين إلى الله (سبحانه وتعالى) ببركة التربة المقدسة ومتضرعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد ، والأمر فيه أعظم ومرأى الأحوال أهول، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم) ثم يقول (قدس الله العضو الكريم الذي فيه منه وكرمه)(39)، وهذه الرواية تدل على أن فكرة وجود رأس الحسين بالقاهرة كانت متسالم عليها.
3ـ أن صلاح الدين الأيوبي الـذي عرف بسنيته المتعصبة الغـير متسامحة مع التشيع، والذي قام بإغلاق جميع المساجد الفاطمية، قد استثنى من إجراءاته التعسفية مشهد الأمام الحسين بالقاهرة، ولو كان لديه أي قدر من الشك في صحة هذا المشهد لأغلقه كغيرة من المساجد الفاطمية(40).


4ـ جاء في كتاب العدل الشاهد في تحقيق المشاهد (أن المرحوم عبد الرحمن كتخدا القزدغلي، لما أراد توسيع المسجد المجاور للمشهد الشريف قيل له أن هذا المشهد لم يثبت فيه دفن، فأراد تحقيق ذلك فكشف المشهد الشريف بمحضر من الناس ونزل فيه الأستاذ الجوهري الشافعي والأستاذ الملوي المالكي وكانـا مـن كبار العلماء العاملين وشاهدا ما بداخل البرزخ ثم ظهرا و أخبرا بما شاهداه ، وهو كرسي من الخشب الساج عليه طشت من ذهب فوقه ستارة من الحرير الأخضر تحتها كيس من الحرير الأخضر الرقيق داخلة الرأس الشريف فانبنى على إخبارهم تحقيق هذا المشهد وبنى المسجد والمشهد وأوقف عليه أوقافا يصرف على المسجد من ريعها )(41).

5_ عثر الباحثون بالمتحف البريطاني بلندن على نسخة خطية محفوظة من ( تاريخ آمد ) لابن الأورق (ت/572 هـ)، وهي مكتوبة عام 560 هـ ومسجلة بالمتحف البريطاني تحت رقم (5803) شرقيات، وقد ذكر صاحب هذا التاريخ أن رأس الحسين قد نقل من عسقلان إلى مصر أثناء وجوده وبمشاركة شعبية ضخمة في استقبال الرأس(42).


وقد حاول عبد الرحمن ابن كثير في البداية والنهاية إنكار وجود الرأس بالقاهرة (وقد مضى غير واحد من أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما أدعوه من النسب الشريف وهم في ذلك كذبة خونه)(43)، وابن كثير في هذا الإدعاء يردد كلمات ابن تيميه : ( المشهد المنسوب للحسين بن علي _ رضي الله عنهما _ الذي بالقاهرة كذب مخالق، بلا نزاع بين العلماء المعروفين عند أهل العلم، الذين يرجع إليهـم المسلمون في مثل ذلك لعلمهم وصدقهم. ولا يعرف عن عالم مسمى معروف بعلم وصدق أنه قال : أن ذلك المشهد صحيح ... فأصل هذا المشهد القاهري هو ذلك المشهد العسقلاني وذلك المشهد العسقلاني محدث بعد قتل الحسين بأكثر من أربعمائة وثلاثين سنة، وهذا بعد مقتله بقريب من خمسمائة سنة )( بل نحن نعلم ونجزم بأنه ليس رأس الحسين، ولا كان ذلك المشهد العسقلاني مشهداً للحسين، من وجوه متعدد . منها : أنه لو كان رأس الحسين هناك لم يتأخر كشفه وإظهاره إلى ما بعد مقتل الحسين بأكثر من أربعمائة سنة، ودولة بني أمية انقرضت قبل ظهور ذلك بأكثر من ثلاثمائة وبضع وخمسين سنة. وقد جاءت خلافة بني العباس وظهر في أثنائها من المشاهد بالعراق وغير العراق. وكانوا عند مقتل الحسين بكربلاء قد بنوا هنالك مشهداً. وكان ينتابه أمراء عظماء. الوجه الثاني أن الذين جمعوا أخبار الحسين ومقتله _ مثل أبي بكر بن أبي الدنيا، وأبي القاسم البغوي وغيرهما _ لم يذكر أحد منهم أن الرأس حمل إلى عسقلان، ولا إلى القاهرة “(44) ويصل في النهاية إلى استدلالاته على رفضه للمشهد القاهري : .
والواقع أن وجود الرأس في القاهرة لا علاقة له بنسب الفاطميين بأي حال، وحتى لو كان  يمنحهم بعض الشرعية فقد كان الأولى أن يقوموا بنقله في أيام المستنصر الفاطمي عقب اكتشافهم المرقد مباشرة وليس فـي أواخر دولتهم وفي أضعف أيامها وخوفا من وقوعها في يد الصليبيين(45)، ولو كان ثمة شرعية تتحقق بوجود رأس الحسين بالقاهرة كما يردد ابن كثير لعمل الفاطميين على نقل جسد الحسين من كربلاء عندما وقعت العراق كلها تحت الحكم الفاطمي لمدة عام كامل(46)، أو حاولوا نقل جسد الأمام علي من النجف إلى مصر حيث تصبح الشرعية اكثر مصداقية.
أما حجج ابن تيميه فثمة العديد من المغالطات تحتوي عليها، فقد تأخر الكشف عن الكثير من قبور آل البيت بسبب عداء السلطات السياسية، أموية أو عباسية، وعلى سبيل المثال فإن مرقد الإمام علي بن أبي طالب لم يكشف عنه إلا في عهد هارون الرشيد الخليفة الخامس من الخلفاء العباسيين، وثمة تساؤل يفرض نفسه عن السبب الذي يدفع العلويين الهاشميين إلى عدم التصريح بمكان القبر طوال هذه الفترة رغم صعود  أبناء العمومة العباسيين الهاشميين إلى السلطة ؟.
 أما رأس الحسين فقد كان وجودها في خزائن السلاح نوعاً من الإخفاء لها عن الجمهور المتعاطف في العصر الأموي، وقد مارس العباسيين هذا الإخفاء عقب قيام دولتهم ونشوب الخلافات بينهم وبين بني الحسن العلويين، كما قاموا عدة مرات بهدم مرقد جسد الحسين في  كربلاء(47)، مما قد يشير إلى إدراك السلطة العباسية لخطورة وجود مشهدين للحسين في العالم الإسلامي، كما يبرر قيامهم بإخفاء الرأس في منطقة صغيرة كعسقلان، ولابد من الإشارة إلى أن تأخر الكشف الرسمي للقبر لا يعني عدم معرفة الجمهور بوجوده في هذا المكان، وتشير رواية المفيد عن اكتشاف هارون الرشيد لقبر الإمام علي أنه كان هناك بعض من الناس المجاورين للقبر والذين قاموا بلفت نظر الخليفة إلى أنه لعلي بن أبي طالب، وهو ما ينطبق على مرقد رأس الحسين بعسقلان(48). كما أن عدم ذكر الجامعين لأخبار الحسين أن رأسه قد حملت إلى القاهرة أو عسقلان يعود إلى تأخر اكتشاف حركة الرأس عقب وصولها إلى دمشق بسبب عملية الإخفاء العمدي التي مورست عليها.
على أن ابن تيميه في محاولاته لإنكار وجود الرأس بالقاهرة كان واقعاً تحت ضغط عدائه المذهبي للفاطميين " الشيعة " من جهة، وللصوفية " السنة " مـن جهة أخـرى، ومن الواضـح أن محاولته هذه ليست بعيدة عن سعيه لتحجيم سيطرة تيارات الصوفية على الواقع الديني في مصر، وبالتالي فالحسين ذاته (كشخصية تاريخية) لا يعني بالنسبة له سوى وسيلة للخصوم في مواجهته، ومن الواضح أن المشروع الأساسي لابن تيميه لم يكن الرأس فقط بقدر ما كان تحطيم هذه المكانة الكبرى للحسين وآل البيت والتي يستغلها الصوفية كوسيلة للسيطرة على المشاعر الدينية في العالم الإسلامي، وفي هذا الإطار يمكننا فهم أسباب انفراد ابن تيميه بهذا الدفاع المستميت عن الأمويين، وخاصة يزيد، بل وتحميله الحسين لأوزار مذبحة كربلاء، ليصبح حفيد النبي المقتول هو المذنب.


نتـائـج :

من الممكن تحديد مسارات تحركات الرأس التي جمعت بين معظم هذه الروايات :
1_ مسار ( دمشق _ كربلاء ) : حيث تنص معظم المرويات أن الرأس عادت إلى كربلاء مع آل البيت أثناء رحيلهم من دمشق إلى المدينة، بينما تشير مرويات أخرى إلى أن الرأس ذهب إلى المدينة أولاً ثم عاد إلى كربلاء.
2_ مسار ( دمشق _ المدينة ) : ترفض بعض المرويات أن الرأس قد تحرك من المدينة عقب وصوله إليها مع آل البيت، وتعتقد أنه دفن في البقيع بجوار قبر والدته السيدة فاطمة لزهراء، وتوجد بعض المرويات تعتقد أن الرأس دفن في دمشق أولاً ثم نقله العباسيون إلى المدينة في  بداية دولتهم.
3_ مسار ( كربلاء _ دمشق ) : تشير مجموعة مـن المـرويات بأن الرأس نقلت من كربلاء إلى دمشق وحفظت في مخازن سلاح الأمويين، ثم دفنت بها في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك.
4_ مسار ( دمشق _ عسقلان _ القاهرة ) : تشير مجموعة من المرويات إلى أن الرأس قد انتقل بكيفية ما من دمشق إلى عسقلان، ثم تم نقله إلى القاهرة في العهد الفاطمي سنة 549 هـ.
يرتبط المسار الأول بفكرة مرافقة الرأس لآل البيت أثناء عودتهم من دمشق إلى المدينة مروراً بكربلاء ومن الواضح أن سماح السلطة الأموية بمرور آل البيت في هذه الصورة بالعراق عامة وكربلاء خاصة يعد مستبعداً تمـاماً، ويبـدو تحكـم العاطفة المذهبية الشيعية في هذه المرويات التي حرصت على وجود الرأس بجوار الجسد لعدة اعتبارات أهمها الحفاظ على القدسية الكاملة لكربلاء، والجمـع بين الرأس والجسد في مرقد واحد، بينما يرتبط مسار المدينة والروايات المتناثرة التي تتحدث عن تواجد الرأس بمدن كالنجف والرقة وحلب ومرو أو مرويات المسار الثالث التي تؤكد بقاء الرأس في دمشق بمحاولة السلطة تشتيت الباحثين عن المرقد الحقيقي الذي أخفي فيه الرأس عن طريق إثارة العديد من الاحتمالات عن تواجده بأكثر من مكان، وعدم التوصل إلى نتيجة يقينية حول موقعه، كما يرتبط ببعض الدوافع الطائفية والمتمثلة في موقف المؤرخين السلبي من الدولة الفاطمية بالإضافة إلى موقف الطائفة الإسماعيلية النزارية التي ترفض المشهدين العسقلاني والقاهري لارتباطهما بفرع الإسماعيلية المستعلية الذي تولى الحكم في الدولة الفاطمية عقب وفاة المستنصر بالله الفاطمي، أما المسار الرابع فهو المسار الأكثر ارتباطاً بواقع الأحداث التاريخية والسياسات العباسية تجاه رموز الاتجاهات الثورية بصفة عامة حتى لو كان أهم هذه الرموز هو حفيد الرسول(ص). 


خـاتمـــة

لقد تنازعت جميع الدوافع قضية رأس الإمام الحسين ، فالدوافع الوطنية ساهمت في إدعاء بعض المؤرخين وجود الرأس في بلادهم كمرو وحلب ، كما ساهمت الدوافع المذهبية في ظهور بعض الروايات المنسوبة إلى أئمة أهل البيت تحاول إثبات أن الرأس في كربلاء أو النجف حيث مرقد الجسد أو مرقد الإمام علي في إشارة إلى ضرورة ألا تخرج الرأس عن نطاق تلك المناطق المقدسة .
على أن الدوافع الطبقية والمذهبية تبدو أكثر ظهوراً وتأثيراً في إنكار التيار السلفي _ المرتبط طوال تاريخه بالسلطة الإقطاعية العسكرية _ لوجود الرأس بالقاهرة أو فـي أي مكان آخر مـن منطلـق انحيازهم السياسي إلى العبـاسيـيــن الممثلين في تـــلك المرحلة لأهداف الإقطاعية، والذين ساهمـوا بفـاعلية فــي الترويج لهذه الادعـاءات في محاولـة لنزع الشرعية عن خصومهـم الفاطميين المدعمين بالبورجوازية التجارية والنسب النبوي الشريف مما كان يعد مؤرقاً للحكم العباسي الذي يفتقد صلة موازية بالنبي، ولم يكن من المستغرب أن يسعى العباسيين والمماليك للتشكيك في النسب الفاطمي وأن يدعموا التيار السلفي في إنكاره لوجود رأس الحسين بالمشهد القاهري واستمرار هذه السياسة حتى عقب سقوط الفاطميين الذين ظلوا يشكلون خطورة سياسية على الحكم العباسي ـ المملوكي عبر سلالتهم التي سجنت بالقاهرة؛ ورغبة في قطع العلاقة بين العاطفة الشعبية تجاه الحسين والمتمثلة في هذا الحرص الدائم على زيارة مرقدة والتبرك به، وانتشار المذاهب والاتجاهات الدينية الثورية التي وجدت في شخصية الحسين ونضاله نموذجاً أعلى يمثل لها مـن الناحية الاعتقادية، الحقيقة الإسلامية المغايرة لما فرضه الأمويون من اعتقادات، كما يهيئ لها نضـاله في كربلاء شرعية ثورية في مواجهة إعلام وفقهاء السلطة، ورابطاً عاطفياً قوياً بينها وبين الجماهير المسلمة التي كانت على استعداد لرفض أي سلطة تتشابه ممارساتها مع ممارسات قاتلي الحسين. 

 

هوامــش

(*) من المعروف أن المعارضة التي تزعمها الإمام علي بن أبي طالب في مواجهة الخلفاء الثلاثة السابقين عليه لم تأخذ الصيغة العسكرية، ولم ينشط الموالون للإمام علي إلا في أواخر عهد عثمان خشية من استيلاء الطبقة التجارية ممثلة في الزبير وطلحة على الحكم، وفي فترة تولي الإمام علي للخلافة كان يمثل السلطة الجماهيرية بينما كان الرافضين له في موقع المعارضة، وفي عهد الإمام الحسن بن علي اضطر إلى التوقيع على وثيقة هدنة بينه وبين معاوية واللجوء مرة ثانية إلى العمل السري، أما الإمام الحسين فكانت تجربته متميزة بكونها معارضة ثورية عسكرية علنية.
(*) تذكر المرويات التاريخية العديد من حوادث الاعتداء على مرقد الحسين أهمها ما حدث في عصر هارون الرشيد، وفي عهد المتوكل، والقادر بالله العباسي، إضافة لما قامت به الحملة العسكرية الوهابية عند غزوها لكربلاء من أعمال تدميرية في مرقد الحسين.
(*) استخدم ابن كثير هذه العبارة " فالمشهور عند أهل التاريخ وأهل السير أنه بعث به ابن زياد إلى يزيد بن معاوية ومن الناس من أنكر ذلك وعندي أن الأول أشهر فالله أعلم " وهي واضحة في محاولته المداراة على ابن تيميه عندما لم يستطع أن يثبت صحة رأيه خاصة أنه سبق له _ أثناء استعراضه لاستشهاد الحسين_ إنكار أن يكون ابن زياد قد أرسل الرأس إلى يزيد " قلت والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام كما سيأتي"، ومن غير الممكن تبرير هذا التراجع السريع من ابن كثير سوى عدم قدرته على تحمل المجازفات التاريخية لابن تيميه، كما أنه حاول التخفيف من عبارة ابن تيميه حول حقيقة الرأس المدفون في مصر والتي ادعى ابن تيميه أنها رأس يهودي، وهو إدعاء مثير للسخرية، وصاغه ابن كثير كالتالي : " فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان المسجد المذكور وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم " ابن كثير _ البداية والنهاية _ نسخة كومبيوترية (برنامج المحدث_ جـ8 أحداث سنة 61 هـ .
(1) محمد باقر المجلسي _ بحار الأنوار _ ط بيروت 1983 م _  جـ4 صـ144.
(2) حسين عبد الأمير النصراوي ـ رأس الحسين ـ ط بيروت 200 م صـ61.
(3) م . س صـ61.
(4) م . س ـ صـ61.
(5) المجلسي ـ م . س ـ صـ 144 وما بعدها ,الشيخ المفيد _ الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد _ بيروت 1993 _ جـ 2 _ صـ
(6) ابن خلكان ـ وفيات الأعيان ـ ط القاهرة ـ جـ 2، صـ 160 ، 161 ، 208، أحمد بن علي المقريزي ـ اتعاظ الحنفا ـ ط القاهرة 1999 م ـ جـ 3 صـ 38 ، 248 ،249 .

(7) المجلسي ـ م . س ـ جـ45 صـ 78
(8) م . س ـ جـ 45 صـ 178.
(9) محمد بن النعمان ( المفيد ) ـ الإرشاد ـ ط بيروت 1993 ـ جـ 1 صـ 24 حتى صـ 28.
(10) سعاد ماهر ـ مساجد مصر و أولياؤها الصالحون ـ القاهرة 1971 ـ جـ1 صـ 364.
(11) م . س ـ جـ1 صـ 364.
(12) م . س ـ جـ1 صـ 364.
(13) المجلسي ـ م . س ـ جـ43 صـ 210 ، 21.
(14) المسعودى ـ مروج الذهب و معادن الجوهر ـ القاهرة 1968 ـ جـ2 صـ 226.
(15) ابن جبير ـ اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة و المناسك ـ بيروت 1981 ـ صـ 155.
(16) سعاد ماهر ـ م . س ـ جـ1 صـ 367.
(17) م . س ـ جـ1 صـ 367.
(18) م . س ـ جـ1 صـ 367.
(19) م . س ـ جـ1 صـ 371.
(20) م . س ـ جـ1 صـ 371 ، 372.
(21) م . س ـ جـ1 صـ 372.
(22) م . س ـ ج1 صـ 367.

(23) حسين النصراوي ـ م . س ـ صـ 42 ، 43.
(24) سعاد ماهر ـ م . س ـ جـ1 صـ 365 ، 366 ، 367.  
(25) م . س ـ جـ1 صـ 374.
(26) ابن جبير ـ م . س ـ صـ218  .
(27) توفيق أبو علم _ الحسين بن علي _ القاهرة 1982 _ صـ 17.
(28) ابن كثير _ البداية والنهاية _ نسخة كومبيوترية (برنامج المحدث) _ أحداث سنة 61 هـ.
(29) توفيق أبو علم _ م . س _ صـ 174.
(30) م . س _ صـ 175.
(31) سعاد ماهر ـ م . س ـ صـ367 ، 368.
(32) المقريزي ـ م . س ـ جـ3 صـ 38 ، 207 ، 218 , ابن إياس الحنفي ـ بدائع الزهور في وقائع الدهور ـ ت / محمد مصطفى ـ القاهرة 1999 ـ جـ1 صـ 227.
(33) المقريزي ـ م . س ـ جـ3 صـ38.
(34) م . س ـ جـ3 صـ 85 ، 86.
(35) م . س ـ جـ3 صـ38.
(36) سعاد ماهر ـ جـ1 صـ 375.
(37) م . س ـ جـ1 صـ365 ، 367.
(38) توفيق أبو علم _ م . س _ صـ 178.
(39) ابن جبير ـ م . س ـ صـ19.

(40) المقريزي ـ م . س ـ جـ3 صـ 347.
(41) سعاد ماهر ـ م . س ـ صـ 377.
(42) محمد زكي إبراهيم _ مراقد أهل البيت في القاهرة _ القاهرة 1997_ صـ 3.
(43) م . س ـ جـ1 صـ 370.
(44) ابن تيميه ـ رأس الحسين ـ بيروت 1985 ـ صـ183، 187.
(45) المقريزي ـ م . س ـ جـ3 صـ 207.
(46) م . س ـ جـ2 صـ254  ، وقد ذكر المقريزي أن المصريين أنشدوا هذا النشيد :

يا بني العباس ردو       ملك الأمر مـعد
مـلككم ملك مـعار      والعواري تسترد
(47) المجلسي _ م . س _ جـ 45 من صـ 390 إلى صـ 409 , ابن كثير _ البداية والنهاية _ نسخة كومبيوترية ( برنامج المحدث ) _ جـ 10 _ أحداث سنة 236 هـ. 
(48) المفيد _ م . س _ جـ 1 صـ 24 حتى صـ 28.




ليست هناك تعليقات: