الخميس، 26 ديسمبر 2013

النخبة البائسة | النخبة المصرية ما بين التدجين والبذاءة الثورية

ربما كان من اهم ما كشف عنه الانفجار الثوري يوم 25 يناير هو الواقع الحقيقي للنخبة المصرية التي ظهرت في مقدمة المشهد بعد أن كان النظام المصري حريصاً على التغطية عليها وبالتالي التغطية على إيجابياتها وسلبياتها كذلك .

 
لم يكن النظام المصري بقيادة مبارك يخشى النخبة بقدر ما كان يسعى لاستعمالها والعبث بها في مواجهة الشارع المصري الساخط ، فيترك لها المساحة للعمل بإرادته ، ويقيد حركتها بإرادته كذلك ، وساعده في هذا العبث السياسي نجاحه في تدجين قطاع كبير منها خلال فترتي الثمانينات والتسعينات ، وافتقادها (أي النخبة) لتواصل حقيقي مع الشعب المصري وطموحاته ، وتغريبها الواضح سواء من ناحية الافكار أو حتى السلوك والمظهر العام .. كانت النخبة إذن منعزلة تماماً عن الشارع المصري الكادح في كل تفاصيلها ، لا تنتمي له من ناحية الثقافة كما لا تمثله ولا تثير اعجابه من ناحية سلوكها ونسقها الغربي الواضح .

إن خطورة هذا الانعزال النخبوي عن الواقع المصري برز بوضوح في العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك والذي سعت خلاله الرأسمالية في العالم لترويج فكرة موت الأيدولوجيا ، وهو مسعى يهدف لعزل الجماهير الغاضبة عن العقيدة الثورية الكفيلة بتوعية الجماهير لموطن الخطأ والطريق لمواجهته وكيفية البناء الجديد للدولة التي تحقق مصالحها . وكان انعزال النخب المثقفة ، بل وتدجين النظام لها جزء أساسي من خطط تحقيق هذا الهدف .

خلال الانفجار الثوري في يناير اعتمدت النخبة بشكل كامل على المهمشين والبرجوازية الصغيرة وأشباه البروليتاريا ، وهو ما دفعها للتحالف مع الاخوان المسلمين ومشجعي كرة القدم من روابط الألتراس التي لا تعرف عن السياسة والثورة أكثر من إلقاء الحجارة على قوات الأمن المركزي . ولا تمتلك سوى قدرتها على حشد العدد الكبير من الشباب المهمش والفاقد تماماً للوعي . وكان من الغريب أنها تجاهلت تماماً الطبقات الكادحة من العمال وفقراء الفلاحين سواء في العمل الثوري ضد النظام ، أو في مطالبها التي اقتصرت بشكل فعلي على الحرية ، ومع أن شعاري الخبز والعدالة الاجتماعية كانا موجودين ضمن شعارات الثورة منذ البداية فقد ظلا مطلبين غامضين للغاية وتم إهمالهما تماماً من الناحية الواقعية ، وبالتالي لم تشهد أوضاع هذه الطبقات أي تحسن على العكس من فئات البرجوازية الصغيرة والرأسمالية ، بالرغم من أن هذه الطبقات هي التي تحملت القدر الأكبر من عسف مبارك وحاشيته من رجال الأعمال .

كان لجوء النخبة لفكرة المليونيات التي تقوم على التواجد الجماهيري في الشارع بكثافة للضغط على الحكومات ، ثم الاعتصام بالميادين بهدف الاثارة الإعلامية في مواجهتها وتهديدها اقتصادياً ، إشارة واضحة لعدم قناعتها بدور الطبقة العاملة أو ربما عدم رغبتها في إستعادة هذه الطبقة لتقاليدها الثورية . وخلال هذه الفترة تحرك الكثيرين بإفك واضح للحديث حول التميز الثوري المصري ، والذي أقام ثورة دون قيادة ودون أيدلوجية باعتبارها تجربة مصرية خالصة ، دون أي توضيح عن موضع تميز الشخصية المصرية عن باقي البشر في ثوراتهم ، لكن الغرض الأساسي من إثارة مثل هذه النعرة الديماجوجية لم يكن سوى السعي لتمرير مخطط التعمية على حقوق هذه الجماهير في مشروع ثوري بديل للوضع القائم .

لقد كفلت المليونيات نتائج جيدة لها في مصر وتونس وربما اليمن ، وتمكنت من اسقاط شخوص واستبدالها بممثلين آخرين لنفس الطبقة ، وفي المقابل سعت تماما لتجاوز دور الطبقات الكادحة نظراً لأنها في الواقع تخشى من مطالبات هذه الطبقات بحقوقها كما تخشاها السلطة تماماً ، وهو ما يفسر عدم اقدامها على دعوة العمال للاضراب او محاولتها ايقاظ القوة السياسية للطبقة العاملة ، بل انها وعقب اسقاط مبارك لم تفكر في تنظيم تظاهرة واحدة من بين مليونياتها المتعددة من اجل المطالبة بانصاف الكادحين . وخلال الانتخابات التشريعية ثم انتخابات الرئاسة بررت صفقاتها مع الاخوان الممثلين الجدد للرأسمالية الطفيلية الحاكمة بعبارتها الغريبة للغاية " أنهم لا يوجد بينهم وبين الاخوان دماء كما بينهم وبين شفيق ممثل النظام السابق " ، وهكذا إذن تم استبدال ديكتاتور سابق بديكتاتور آخر لا يختلف عنه سوى في تفاصيل مظهرية بحتة ، وبرزت الجملة الشهيرة في وصف هذه النوعية بكونهم " عاصري الليمون على رؤوسهم " .

لم تكن هذه المبررات مقنعة وربما يدرك الكثيرين من الشعب المصري الآن أن الاستفاقة المفاجأة لبعض المنتمين لهذه النوعية ليست للممارسات السلبية لمرسي بقدر ما هي نتيجة عدم التزام الاخوان بتعهداتهم تجاه هؤلاء بإشراكهم في صناعة القرار وما تتيحه من مكاسب ونفوذ سياسي ومادي ، بينما مازال البعض الآخر من هذه النخبة متمسكاً بتحالفه مع الإخوان ويرفض إسقاط نموذجهم رغم التدني في كل شيء الاقتصاد والاداء السياسي وحتى السلم الأهلي والأمان ، كونه حصل على الثمن بالفعل .

إن الغرض الأساسي من محاولة إفقاد الجماهير للأيدلوجية هو عدم فقدان السيطرة على توجهاتها بعد هدوء الاندفاع الثوري ، وبالتالي إعادة اخضاعها للسيطرة الرأسمالية مرة أخرى عبر شخوص جدد لم يفقدوا وجاهتهم وعن طريقهم يتم تمرير نفس السياسات بمسميات ثورية ، بعد أن فقد هذا المصطلح الأخير معناه الحقيقي .

من الناحية التاريخية ، وبالرغم من الشعارات الرنانة للثورة الفرنسية فإن افتقادها للأيدولوجيا وارتكازها على غضب الجماهير دون رؤية محددة ، أدى لارتكابها العديد من الأخطاء القاتلة كفلت عودة الملكية مرة أخرى ، وفي المقابل كان إمتلاك الثورتين الروسية والإيرانية للأيديولوجية الشيوعية والإسلامية الشيعية حام قوي للمشروع الذي من أجله خرجت الجماهير في مواجهة القيصر والشاه . وبغض النظر عن الخلافات التي قد يثيرها البعض مع الثورة الروسية أو الإيرانية ، فإن الحقيقة تبقى مؤيدة تاريخياً فلا يمكن أن تقوم ثورة دون عقيدة ثورية ومشروع ثوري يشكل البديل الواضح أمام الجماهير للوضع القائم .

قد يكون من المجازفة اتهام هذه النخبة بتفضيل مصالحها الطبقية الخاصة على مصالح الغالبية من الشعب المصري ، لكن اقتصار مطالبها حتى الآن على الحرية السياسية والثقافية دون أي إثارة لما تعانيه الطبقات الكادحة من ظلم اجتماعي ظاهر يدخل في إطار سوء النية ، حيث يستهدف التأسيس لديمقراطية تحصد النخبة مكاسبها بينما لا تنال الجماهير أي فائدة منها إلا مرة واحدة كل أربع سنوات عندما تضع أصواتها لحسم الصراع بين رأسماليين .

من الناحية السلوكية لم تمثل هذه النخبة في مفردات حياتها أي علاقة بالمصريين وتراثهم الأخلاقي والديني ، فهي نخبة متصارعة ما بين التدين المتطرف والابتذال السلوكي ، وما بين الرجعية والتغريب ، وكلا المتعارضين يصطدمان بما اكتسبه المصريين خلال فترة النهضة الثقافية في القرنين التاسع عشر وحتى ستينات القرن العشرين .. هذه النخبة إذن ليست ممثلة للتراث المصري الحقيقي وإنما هي الإفراز الأسوأ والأخير لانتهازية السبعينات وتدجين الثمانينات الذي مارسه مبارك تجاهها بامتياز واضح بحيث تحولت من نخبة تقود الجماهير إلى نخبة يقاد بواسطتها الجماهير لتحقيق أهداف بعيدة عن طموحاتها عبر إثارة تطلعاتها الانتهازية نحو الثروة والنفوذ .

ليس من الغريب إذن حجم تعاملات هذه النخبة بتنوعاتها مع المراكز الأمريكية والأوروبية سواء الحقوقية أو الثقافية والسياسية والممثلة لمصالح الإمبريالية في الشرق الأوسط ، كما لا يستغرب أن تظهر هذه النماذج بشكل رائع أما الشاشات التلفزية تتحدث بلباقة مثيرة للاهتمام وفي المقابل تظهر جهلاً واضحاً بالكثير من الأساسيات أو ربما تتجاهلها بإرادتها ، وتبدي بذاءة مخجلة عندما تناقش أرائها وتصريحاتها على حساباتها بموقعي تويتر وفيسبوك بحيث يتساءل المتابعين لها عن مصير هذه البلاد في حال تولت هذه النخبة أمورها بالفعل .

ثمة تجربة شخصية بين كاتب هذه السطور وأحد أشهر شخصيات هذه النخبة المدعو / وائل عباس جرت على موقع التواصل الاجتماعي تويتر ، فبعد كتابة عباس لتغريده بذيئة تطاول فيها على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله ، تدخلت للرد عبر توضيح أنه في الوقت الذي ضحى فيه السيد حسن من أجل تحرير الجنوب اللبناني بأغلى ما لديه وهو نجله هادي ، فإن وائل عباس لم يفعل أي شيء موازي يسمح له بتوجيه بذاءاته لهذه الشخصية الكبرى ، وكان من المفاجئ أن يكون رده ببذاءة أكبر تعكس ضحالة فكرية وانحطاط سلوكي لا حدود له .

لم يكن وائل عباس خارجاً في الواقع عن طبيعة كل هذه النخبة ، فهي تعتبر بذاءتها نوع من الثورية على كل شيء حتى الآداب العامة التي يجب مراعاتها ، ولا يرجع هذا التصور المفرط في الادعائية سوى لافتقادها لأي رؤية يمكن أن تقدمها لهذا الشعب والجماهير الكادحة ، فهي نخبة ترغب في تحريك الجماهير من أجلها هي وليس من أجل مصالح هذه الجماهير .

أن السلبيات التي أبرزها التواجد الإعلامي لهذه النخبة كشف للمصريين أو ربما لقطاع كبير منهم أنه لا فارق حقيقي بين الإخوان ومبارك وبين هذه النخبة التي تم استغلالها من قبل الطرفين لقتل طموحات هذا الشعب وإهدار دماء ضحاياه ما بين الصفقات المتبادلة .

يبقى أن مصر التي ظلت مستقرة منذ عام 1952 ولم يحركها نكسة يونيو 67 أو اغتيال السادات في أكتوبر 81 ، لن تهدأ كما يتصور البعض عبر وعود وردية أو تصورات دينية يتم فرضها عليها من قبل تيارات الإسلام السياسي ، وكما اضطربت مصر كثيراً عقب وفاة الملك بيبي الثاني بعد 90 سنة من الحكم المتواصل ، ستضطرب مصر كثيراً عقب سقوط مبارك ، لكنها في التاريخ القديم لم تستقر إلا بعد أن نجح الشعب المصري في إنتاج نخبته التي تعبر عن ثقافته الخاصة والتي تمكنت بدورها من صياغة مشروعها الثقافي عبر الدولة الوسطى التي مثلت النموذج الأرقى في التاريخ المصري . ومع الكثير من المتغيرات بين أوضاع المرحلتين التاريخيتين فإن النتيجة في الغالب ستكون واحدة .


أحمد صبري السيدعلي

11 يونيو 2013 - 2 شعبان 1434 هجرية

ليست هناك تعليقات: