مقدمة :
لم يعد المجتمع
الرقمي البديل مجرد وسيلة ترفيهية بالنسبة للشباب بعد الأحداث التي شهدها العالم
العربي مؤخراً في تونس ثم مصر ، اليمن ، البحرين وغيرها من البلدان العربية ،
والتي تمكن شبابها من تجاوز القيودات الأمنية واستغلال هذه الوسيلة الترفيهية في
الحشد الثوري والذي بلغ درجات غير متوقعة ، الأمر الذي حول هذا المجتمع فجأة إلى
وسيلة أساسية من وسائل الانتشار الفكري والسياسي .
إن هذا التحول المفاجيء بين جمهور المجتمع
الرقمي من السلبية الإجتماعية إلى الإيجابية المفرطة في الواقع المجتمعي والسياسي
في آن فجر العديد من التصورات حول طريقة استغلاله خاصة من قبل المجموعات الدينية
والمذهبية والفكرية التي كانت تعاني من القمع في عهد الرئيس المخلوع مبارك .
وقد اتخذ الباحث الشيعة المصريين كنموذجاً
نظراً لأنهم من أبرز المجموعات المذهبية التي عانت من العسف في عهد مبارك وسعت
بقوة لاستغلال المجتمع الرقمي ، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي ، سواء في عهد
مبارك أو عقب خلعه من أجل تحقيق الانتشار الفكري والتواصل المجتمعي ، وما أدى إليه
هذا الأسلوب من سلبيات وإيجابيات بالنسبة لهذه الطائفة الدينية .
الأقليات الدينية في مصر
يعتقد المصريون أن
مجتمعهم لا يتواجد به سوى الإسلام في صورته السنية ، والمسيحية في صورتها القبطية
الأرثوزكسية ، وهاتين الطائفتين يمثلان غالبية الشعب المصري بكل تأكيد ، ولا يتقبل
المصريون ببساطة فكرة وجود طوائف إسلامية متنوعة بل ربما لا يصدقون أنها متواجدة
بالفعل ، ناهيك عن وجود طوائف خارجة عن الاسلام والمسيحية معاً ، وهو اعتقاد خاطيء
للغاية ، ففي مصر تتواجد الكثير من الطوائف التي لا يعلم عنها المجتمع المصري
شيئاً .
يتواجد في مصر طائفة الشيعة الاثناعشرية
والشيعة الزيدية ، ومن الممكن بوضوح رصد الشباب المعتنق للمذهبين خلال معرض
القاهرة الدولي للكتاب .
كما يتواجد كذلك معتنقين للمذهب الاسماعيلي ،
بالرغم من عدم ظهورهم بشكل واضح ، وهناك أيضاً وجود ملموس حالياً للجماعة
الاسلامية الاحمدية ، بالاضافة لتواجد اتباع الديانة البهائية ، ناهيك عن الطوائف
المسيحية المتنوعة لكن هناك طوائف غزت مصر مؤخراً كشهود يهوة ، الادفنتست ،
المورمون . وهي طوائف خارجة عن نطاق الكنائس التقليدية الإرثوزكسية والكالثوليكي
والبروتستانتية .
خلفيات التشيع
لا يعد التشيع شيئاً جديداً بالنسبة للمصريين
، فمنذ دخول الإسلام مصر وهناك تواجد ضخم للتشيع على أرضها إلى درجة أن الانتساب
لبعض مدنها كان إشارة للتشيع كإسنا ، أسفون ، إدفو ، أرمنت ، أسوان وقفط ، والمؤكد
أن التشيع لم يكن مرتبطاً بالفاطميين على الإطلاق ، فهذه الكثافة الشيعية استمرت
في العهدين الأيوبي ، ثم المملوكي حتى القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن والتسع
الهجريين) .
وفي القرن التاسع عشر ومع محاولات محمد علي
باشا واسرته بناء مصر الحديثة على أسس أوروبية ، فقد تم التساهل مع التواجد الديني
والطائفي المتنوع في مصر مما سمح الفرصة للشيعة من قوميات المختلفة الرحيل إلى مصر
بغض التجارة أو الإقامة أو حتى الهرب نتيجة مواقف سياسية ، فتشكلت في مصر جاليات
شيعية متنوعة لم تكتف بالاختلاط بالواقع المصري وإنما حرصت كذلك على نقل بعض
المشاهد من واقعها الخاص إلى مصر ، وخاصة شعائر عاشوراء والتي أطلق عليها المصريون
" زفة العجم " .
لقد كان التوافد
الشيعي إلى مصر هو أول روافد عودة التشيع مرة أخرى ، وهو رافد مستمر حتى هذه
اللحظة حيث يتوافد إلى مصر الكثير من العائلات العربية الشيعية وبعضهم يستقر فيها
بشكل كامل ، وقد تلاه كذلك رافد آخر تمثل تأثر عدد من المصريين بالمذهب الشيعي
واعتناقه ، وكانوا في الغالب من المتعاملين مع التجار الشيعة من الطبقة التجارية
المصرية التي كانت تمتلك القدر الكافي من الثقافة والتعليم الذي يؤهلها لهذا
التحول ، وهو ما ترك أثره على بعض الأعمال الأدبية التي ناقشت هذه الظاهره وأشهرها
ثلاثية الأديب الكبير نجيب محفوظ .
إلا أن التشيع انتشر بشكل كبير لاحقاً بين
المثقفين المصريين وخاصة العاملين في الإدارات الحكومية ، نتيجة مساحة الحرية
الكبيرة التي أتيحت للتشيع في فترة الرئيس عبدالناصر وامتدت كذلك في فترة الرئيس
السادات حيث بدأ التشيع يشهد معتنقين جدد من المجموعات الصوفية والتيارات السلفية
والإخوانية ، كما شهدت هذه الفترة تأسيس جمعية أهل البيت في القاهرة والتي كان
السيد الخوئي (قده) يدعمها .
ومع انتصار الثورة الإسلامية في إيران ونتيجة
لميول الحكومة المصرية المتعاطفة مع الشاه توتر وضع الشيعة المصريين بالرغم من أن
الحكومة لم تتخذ ضدهم إجراءات قمعية واقتصر الأمر على إغلاق جمعية أهل البيت نتيجة
أخطاء إدارية ، لكن صعود الإمام الخميني (قده) على رأس الدولة في إيران دفع
الكثيرين للبحث في المذهب الشيعي الذي تمكن كأيدلوجية من تفجير ثورة بهذا الحجم
وبالتالي زادت حالات اعتناقه ، ولاحقاً وفي عصر مبارك ومع التطورات التي شهدتها
مراحل الصراع العربي الصهيوني والدعم الإيراني الواضح للفلسطينيين وظهور حزب الله
كحركة مقاومة حققت نجاحات مدوية في مواجهة العدو لدرجة طرده من الجنوب اللبناني
انتشر التشيع في أوساط المصريين بكافة تنواعاتهم سواء الاسلامية أو الليبرالية
واليسارية .
إن هذه الطبيعة الفريدة للتشيع المصري جعلت
التواصل بين أفراده في غاية الصعوبة خاصة مع الحالة الفردية الواضحة لاعتناق
المذهب ، وهو بالتالي ما منع من تطوير وضع الشيعة لمرحلة تشكيل المجتمع بحيث يتحول
الاعتناق من حالة فكرية إلى طائفة متكاملة لها وضعها الخاص في شئون الفقه والأحوال
الشخصية .
كان الشطط الأمني لنظام مبارك في التعامل مع
الشيعة أحد أسباب لجوئهم بصفة عامة للتقية إلى درجة أن الكثير من المصريين قد لا
يصدقون ببساطة أن هناك شيعة في مصر على الرغم من وجود الشيعة القوي في كل
المحافظات المصرية ، بل أن الكثير من الشيعة كانت لديهم تصورات بأنهم فقط
المعتنقين للمذهب في مصر ، وهي حالة قلما يوجد شيعي في هذه الفترة لم يتعرض لها .
اللجوء للمجتمع الرقمي
لقد أدى الموقف الحكومي المصري المناقض لموقف
إيران وحزب الله من القضية الفلسطينية والمشروعات الإمبريالية الغربية في المنطقة
إلى قيامه باستغلال الشيعة المصريين كورقة يستخدمها للتقرب إلى الأمريكيين
والأنظمة الرجعية كلما حدث صدام بينها وبين إيران ، وبالتالي عانى الشيعة في مصر
من تضييقات أمنية كبيرة أدت إلى عدم قدرتهم على التواصل الاجتماعي والمعرفي ، كما
أن القليلين منهم فقط هم من كان يمتلك القدرة المادية على السفر إلى الجمهورية
الإسلامية للتواصل مع المرجعية الشيعية .
وبالتالي مع انتشار خدمات الشبكة العنكوبتية
في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي وجد الشيعة المصريين متنفس كبير لهم
نظراً لأن الشيعة كانوا سباقين في استخدام هذه التقنية الجديدة من أجل الدعوة
للمذهب ، كما تميزت المرجعية الدينية بسعة أفق عندما قامت المرجعيات بانشاء مواقع
تضم مؤلفاتها وفتاويها ، بالاضافة للعديد من المواقع التي اهتمت بالرد على الشبهات
التي يثيرها خصوم المذهب تجاه بعض قضاياه .
إلا أن انشاء المنتديات الشيعية كان هو الخطوة
التي نقلت الشيعة في مصر من مجرد متلقين للمعرفة ، إلى مساهمين إيجابيين في
ترويجها ، بعد ان ساهمت بقدر اكبر في التواصل بين المصريين والعرب بكافة
انتماءاتهم وتعرف المصريين إلى حد ما على الواقع الشيعي بكل مميزاته وسلبياته
وتأثر الكثير منهم به ، وخاصة في قضية الخلاف حول التطبير في الشعائر الحسينية .
وبقدر ما ساهمت هذه المنتديات في صقل معارف
الشيعة المصريين بمذهبهم إلا أنها لم تتمكن كذلك من تحقيق التواصل المباشر بينهم بشكل
مرض بسبب طبيعة الموضوعات المثارة عليها ، بالاضافة إلى أن مرتاديها غالباً ما
تكون اسمائهم وهمية ويتعمدون اخفاء هوياتهم خشية اكتشافها وفضحها للأجهزة الأمنية
، واستمرت عمليات التعارف الشخصي بين الشيعة عبر المنتديات قليلة للغاية نتيجة
للمحاذير الأمنية .
ومع أن بعض المصريين تمكن من إظهار معتقداته
بشكل علني عبر المدونات الشخصية والتي انتشرت في العقد الأول من القرن الجديد ،
إلا أن هؤلاء استمروا أقلية للغاية ، واستمرت فكرة التواصل عبر المدونات
والمنتديات تحكمها أجواء القلق والتوتر الأمني ، والذي عانى منه بشكل أكبر الشيعة
المصريين المقيمين في الأقاليم ، نظراً لصغر التعداد السكاني لها وسهولة بروز أي
شخص شيعي في الأوساط السكانية التي غالباً ما تعرف بعضها بعضاً ، كما تكون قادرة
على ملاحظة التطورات الفكرية لأي شخص في أوساطها ، وبالتالي فقد كان الشيعة في
الأقاليم المصرية أكثر حذراً وقلقاً خاصة أن الأجهزة الأمنية في هذه المناطق
غالباً ما تكون أشد تطرفاً في تعاملها مع الملف الشيعي .
مثلت مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ،
وتويتر نقلة جديدة في التواصل بين الشيعة المصريين خاصة بعد خلع مبارك في
11 فبراير 2011 ، حيث شهدت مصر قدراً كبيراً من الحرية شجع الكثير من الشيعة على
استغلالها للتواصل مع إخوانهم المصريين ، وظهرت العديد من الصفحات والمجموعات
الشيعية المصرية ، كما ظهرت كذلك صفحات لإئتلافات شيعية لم تكتفي بالتواصل بين
الشيعة بقدر ما سعت لتنشيطهم اجتماعياً وسياسياً .
ومع أن صفحات التواصل الاجتماعي لم تتمكن من
نقل التشيع المصري من الحالة الفكرية إلى الحالة الاجتماعية ، إلا أنها كسرت
الكثير من القيود التي كانت موضوعة على عاتق الشيعة بشكل تدريجي ، كما تمكن الشيعة
عبرها من التواصل الفكري والمعرفي والشخصي ، وهو ما أدى لظهور الأسر والعائلات
الشيعية ، بعد أن كانت الأسر الشيعية مضطرة لتزويج ابنائها من الآخر السني واخفاء
حقيقة انتمائها الديني عنه في بعض الأحيان ، وفي أحيان أخرى انتهت الكثير من
الزيجات بالفشل نتيجة عدم تقبل الطرف الآخر لمذهب الزوج أو الزوجة الشيعي بفعل
الدعايات السلفية .
المجتمع الرقمي الايجابيات والسلبيات
لقد مثل المجتمع
الرقمي بديلا مؤقتاً للواقع الذي ضغط بقوة على الشيعة المصريين لأسباب متنوعة سواء
من ناحية المحضورات الأمنية أو من ناحية المجتمع المصري الذي جنح بشكل تدريجي من
العلمانية التي ميزته منذ عهد محمد علي باشا إلى التدين المظهري والنصي المتعصب ،
وقد نجح الشيعة عبر هذا المجتمع في تحقيق التوصل إلى قدر كبير من المعرفة بالمذهب
وما يحتاج إليه المكلف الشيعي ، كما تمكنوا كذلك من المساهمة في نشر معتقدهم أو
الدفاع عنه ضد هجمات الخصوم ، وأخيراً استطاعوا بالفعل بفضل موقعي التواصل
الاجتماعي فيسبوك وتويتر تحقيق التواصل المجتمعي الخاص بهم والذي توصل لدرجة
التنسيق في القيام برحلات جماعية إلى مشاهد أهل البيت ع ، والقيام بتأسيس حسينيات
وأماكن للتجمع ، بل ومحاولة التأثير الإيجابي في الواقع المصري ، وذلك بغض النظر
عن ضعف الخبرات السياسية للغالبية العظمى منهم .
إلا أن هذه الايجابيات لم تكن بدون سلبيات
خاصة في فترة سيادة التواصل وتناقل المعلومات عبر الفيسبوك ، فنتيجة لطبيعة مواقع
التواصل الاجتماعي والتي تعتمد على المعلومة والفكرة المختصرة للغاية نشأت حالة من
الثقافة السريعة في كافة المجالات لدى الشباب الذي يعتمد بشكل أساسي في تكوين
رؤيته على هذين الموقعين ، وهي لكونها سريعة تتسم بعدم الاكتمال وعدم النضوج
والرسوخ ، وهو ما يسمح كذلك بمحاولات تزييف الوعي بالنسبة لجيل غير قادر على قراءة
كتاب بشكل كامل ويعتمد في ثقافته على المعلومات المجتزئة .
من ناحية أخرى لم تتمكن مواقع التواصل الاجتماعي
وحتى المنتديات من تحقيق بنفس التأثير الذي يحققه التواصل المباشر عبر نشأة حالة
من التقارب الأيدولوجي بين الشباب الشيعي ، وبالتالي فقد ظل الشيعي المصري مخلصاً
لخلفياته مما جعل التشيع حالة متنوعة وغير متقاربة من الناحية الفكرية ، فالشيعي
الصوفي يختلف عن الشيعي ذو الخلفية الإخوانية أو السلفية ، وكلاهما يختلف عن
الشيعي ذو الخلفية العلمانية واليسارية ، ولكل من هذه التنوعات مظهرها المميز .
ثمة سلبية أخرى أدت إليها القدرة الترويجية
السريعة والضخمة لمواقع الشبكة العنكبوتية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي ، فقد أدى
الوضع الأمني وتنوع خلفيات الشيعة لنشوء عدد من المجموعات الشيعية في أماكن مختلفة
، وعلى الرغم من التواصل الشيعي عبر الانترنت ، إلا أن هذه المجموعات قامت
باستغلال الشبكة العنكبوتية للترويج لنفسها كممثل للشيعة المصريين وهو ما رسخ
الانفصال بينها وربما التنافس والعداء والذي سعت الأجهزة الأمنية لزيادة توهجه عبر
أساليب مختلفة . بل ووصل الأمر لمرحلة استغلال الإنترنت في تشويه كل مجموعة لصورة
الأخرى بالرغم من أن قدرات هذه المجموعات في الشارع المصري أو حتى في الوسط الشيعي
ليست بالقوة التي تؤهلها لهذا الصراع العلني المتبادل .
خاتمة
لقد كان انتشار
الشبكة العنكبوتية تطوراً ضخما سمح للجماهير بتجاوز العقبات والمحظورات الأمنية في
الدول الديكتاتورية ، بل أن هذا التطور التكنولوجي كان هو العنصر الذي تم الاعتماد
عليه لحشد الجماهير في مواجهة هذه النظم الرجعية بل أن فشلت الوسائل التقليدية
والمعتادة في التواصل الواعي معها وايضاح سلبيات الاوضاع القائمة بوضوح .
لكن في المقابل لم تسمح الطبيعة السريعة
والمختصرة للمعلومات المتناقلة عبر الشبكة العنكبوتية لتداول الأيدولوجيا بوضوح ،
وإنما تجمعت الجماهير على الغضب في مواجهة الحاكم ولم تتمكن من التجمع حول مشروع
موحد لما بعد مواجهته ، فتحولت الثورة إلى مجرد انفجار ثوري لا أكثر .
ولدى الشيعة بقدر ما تمكنوا من تحقيق التواصل
المعرفي والاجتماعي ، إلا أنها كذلك أدت لتزييف وعيهم المذهبي نتيجة المعلومات
المجتزئة التي تنشر عبر المواقع ، وترسيخ الاختلاف الفكري والجماعاتي بينهم .
ويبقى أن تأسيس مجتمع شيعي على أرض الواقع يعد
الحل الوحيد لتجاوز هذه السلبيات ، بعد أن أثبت المجتمع الرقمي أنه وهمي بقدر ما
هو مفيد وجذاب للغاية .
ألقيت هذه المحاضرة في مؤتمر الميديا ديجيتال الذي عقد بالعاصمة الإيرانية طهران في أكتوبر 2012 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق