الاثنين، 21 أبريل 2014

سكان المقابر في القاهرة بين التوحش الرأسمالي وضعف الدولة


   تمثل المجتمعات العشوائية المحيطة بالمدن الكبرى إحدى الظاهرات الاجتماعية التي تترافق مع التطور الرأسمالي بشكل عام ، وبالتالي فهي ليست قاصرة على مدن الشرق الأوسط ، وإنما تعد مظهراً يمكن رؤيته في كل مدن العالم حالياً وإن اختلفت حدته ، ما بين مدينة كجوهانسبرج في جنوب أفريقيا ، ومدينة أخرى ككوالالمبور في ماليزيا ، بل أنها تتواجد في العواصم العالمية والاقتصادية الكبرى كالعاصمة الفرنسية باريس ، وتعد هذه العشوائيات هي الظهير والداعم بالنسبة للرأسمالية الصناعية في الضغط على العاملين بمؤسساتها الكبرى لتمرير سياساتها المتعسفة ضدهم سواء في زيادة ساعات العمل عن الحدود القانونية ، أو تخفيض الأجور وفي كلا الحالتين رفع فائض أرباحها على حساب حقوق العمال ، ويشير مؤلفا كتاب فخ العولمة بمرارة لتجربة شركة كاتربيلر الأمريكية والتي سعت لمواجهة إضراب عمالها واحتجاجهم على قرارها المتعسف بتخفيض أجورهم عبر الاستعانة بعمال من هذه العشوائيات ومن بلدان أكثر فقراً كبنجلاديش يحصلون على أجور أقل كثيراً مما يحصل عليها العامل الأمريكي العادي[1] ، كما أن أبناء هذه المناطق هم أيضاً الأكثر قدرة على القيام بالأعمال التي تأنف هذه الرأسماليات من التورط فيها بشكل مباشر كالبلطجة وتجارة المخدرات والدعارة . 

 
   ومع كون المجتمعات العشوائية نتيجة مباشرة وضرورية للسيطرة الرأسمالية على الواقع ، فإنها كذلك قد تمثل في لحظات التدهور الاقتصادي خطورة كبيرة عليها بسبب ما قد تقوم به من إنفجارات إجتماعية غير موجهة ولا مسيطر عليها ، فمنذ سنوات والعاصمة الفرنسية باريس تعاني من الصدامات بين سكان هذه العشوائيات التي تقطنها نسبة كبيرة من المهاجرين الجزائريين والأفارقة وبين الشرطة الفرنسية بعد قيام الأخيرة بقتل شابين من أصول جزائرية في 2005 .
   في مصر ، التي شهدت أولى المحاولات الإنسانية لبناء البيوت ، وفي القاهرة الكبرى (تضم محافظات القاهرة، الجيزة والقليوبية) تنتشر حول مدنها وداخلها المناطق العشوائية ، التي إزدادت بكثافة منذ السبعينات على أثر سياسات الانفتاح الاقتصادي التي بدأها الرئيس الراحل أنور السادات ، وفي تعداد أخير أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن سكان المقابر ، الذين يعتبرون أدنى درجات العشوائيات ، قد بلغ عددهم مليون ونصف مواطن ينتشرون في مقابر : البساتين، الإمام الشافعي، التونسي، باب الوزير، الغفير، الإمام الليثي (الليث بن سعد)، جبانات عين شمس، جبانات مدينة نصر ومصر الجديدة . وبحسب هذه الأرقام فقد تحول سكان المقابر في القاهرة إلى كتلة إجتماعية خاصة تعيش من أعمال تقوم على الاستفادة من الموت مثل أعمال الدفن وتصنيع الرخام الذي يوضع على شواهد المقابر أو قراءة القرآن على الموتى في المواسم الدينية ويوم الجمعة مقابل أجر مادي . لكن هذا ليس كل شيء ، فمعظم المنتمين لهذه العشوائيات بشكل عام هم من كان يعتمد عليهم الرأسماليون في القيام بأعمال البلطجة القذرة وخاصة في فترات الإنتخابات النيابية أو المحليات أو حتى إنتخابات الأندية الرياضية ، كما تعمل بينهم كذلك التيارات التكفيرية التي تستغل معاناتهم لخدمة أغراضها العدوانية تجاه الآخر[2] ، ويستخدم بعضهم في الممارسات غير المشروعة كتجارة المخدرات ... الخ
      ربما يشعر المتابع لهذه الظاهرة الإجتماعية بالاستغراب من أن بعض سكان هذه المقابر من حملة المؤهلات العليا والمتوسطة ، والذين أجبرتهم الضغوط الحياتية على العمل في دفن الموتى ، والسكن بدون أي خدمات كالمياه النظيفة أو الصرف الصحي ، بل وبدون خدمات إجتماعية أو طبية على الإطلاق ، وهو ما يجعلهم دائماً على استعداد لقبول الإنخراط في الأعمال غير الشريفة وتلقي الأفكار الإنتهازية والمتطرفة[3] .
   لقد حرصت الرأسمالية الطفيلية التي تبناها السادات ومن بعده حسني مبارك على إبقاء هذه المناطق العشوائية وعدم القيام بأي مشروعات من شأنها تطوير أوضاعها ومنح سكانها حياة كريمة وآدمية ، كي تمثل نفس الظهير للجانب غير المرأي من مشروعاتها على غرار ما فعلته شركة كتربيلر الأمريكية ، بل أن حجم سكان المقابر كما يبدو من أرقام الجهاز المركزي أصبح أكثر ضخامة من توقعات الباحثين عن حلول لها خوفاً من إنفجارها تحت ضغط تدني الوضع الإقتصادي في مصر بالسنوات الأخيرة[4] .
   لقد فسر بعض الباحثين والمهتمين تواجد هذه الظاهرة بكونها نتيجة لارتفاع تكاليف السكن وضعف دخل الفرد والبطالة ، وهو كالمعتاد محاولة لتسطيح المشكلة ، وإبعاد النظر عن السبب الحقيقي المتمثل في سياسات قامت بها الدولة خلال أكثر من 40 عاماً مضت لرفع يدها تدريجياً من الشأن الحياتي للمصريين وتحويل كل شيء إلى سلعة يمكن وضعها تحت العرض والطلب للشركات المتنافسة ، وهو ما أضعف تماماً دور الدولة لدى المواطن العادي وسمح للرأسمالية بالتوحش في التعامل معه لدرجة إجبار هذا الإنسان المصري الذي سبق العالم في التوصل للسكن والاستقرار والتمركز كي يختبئ كل ليلة بين الأموات ويعيش على هامش الحياة.
   إن الدولة المصرية التي يتم إعادة بناء مؤسساتها المترهلة حالياً أصبحت مطالبة بالعودة لدورها التاريخي والمركزي في حياة المصريين ، ومحاولة وضع الخطط للقضاء على هذه العشوائيات وتطوير أوضاع سكانها عبر منحهم حقوقهم المشروعة في الحياة الآدمية ، في حال كان الهدف هو عودة الاستقرار والهيبة لهذه المؤسسات مرة أخرى ، وفي ظل حالة التدهور والموت التدريجي للرأسمالية في العالم حالياً فلا جدوى ترجى من محاولة إستعادة السياسات القديمة التي تبناها السادات ومبارك وحتى محمد مرسي مهما تم تغليفها بتغطيات وتطبيلات إعلامية أو فتاوى دينية مؤيدة .

أحمد صبري السيد علي
31 مارس 2014


[1] هانس بيترمارتن ، هارالد شومان . فخ العولمة . ترجمة / عدنان عباس علي . سلسة عالم المعرفة عدد 295 . الكويت 2003 . ص196 – 199 .
[2] إستخدمت التيارات التكفيرية عدد كبير من هؤلاء أثناء عملية فض إعتصام الاتحادية سنة 2012 في فترة رئاسة محمد مرسي . وشهدت العملية اغتيال بعض الصحفيين وتعذيب عدد كبير من المتواجدين من بينهم طبيب مسيحي .
[3] في مدينة ساحلية كبورسعيد والمعروفة بكونها من أكبر المدن التجارية والسياحية ، تتواجد مناطق عشوائية على أطراف المدينة ، أشهرها عشوائية زرزارة التي كانت تمثل منبع إمداد رجال الأعمال في المدينة بالبلطجية لتنفيذ مشروعاتهم العدائية المتبادلة أو الاستعانة بهم في الانتخابات لإجبار الناخبين على منحهم أصواتهم أو منع ناخبين آخرين من الوصول لمقرات الانتخاب .
[4] بعض التقديرات غير الرسمية ترفع عدد سكان المقابر الفعليين في القاهرة إلى 4 ملايين نسمة .

نشر هذا المقال في موقع بينات بتاريخ 1 أبريل 2014 

ليست هناك تعليقات: