الاثنين، 21 أبريل 2014

الإلحاد في مصر بين الموقف العقلي والردة الإجتماعية



على الرغم من الارتباط المعروف والمشهور بين المصريين والمعتقدات الدينية التي يؤمنون بها ، بحيث يصنف الشعب المصري دائماً بكونه شعب متدين ، إلا أن الإلحاد في مصر تحول بالفعل إلى ظاهرة حقيقية أصبح لها تواجد ملموس في حياة المجتمع ، ولم يعد رؤية فكرية تتواجد بين أوساط النخبة فقط .

 
لا يمكن الادعاء أن هذه الظاهرة قد بدأت في التكون عقب انتصار ثورة 25 يناير والتي نتج عنها نجاح التيارات الدينية الرجعية في السيطرة على الشارع المصري والوصول إلى منصب رئاسة الدولة ، فالواقع أن هذا الانتشار للإلحاد قد بدأ منذ سنة 2001 والتي شهدت ضرب برجي التجارة في نيويورك ، وانطلقت بعده حملة تبناها رواد النيوليبرالية وبعض الفصائل اليسارية التي تم تدجينها أمريكياً ضد الإسلام كدين وكحضارة .
   وخلال الفترة من 2001 وحتى 2014 فقد شهدت مصر عدة أحداث ساهمت في دعم هذه الحملة ، ففي 2005 كانت الصفقة السياسية المشهورة بين مبارك والإخوان المسلمين حيث تم السماح لهم بوصول ما يقرب من ثمانين نائباً للإخوان المسلمين مقابل عدم اعتراضهم على مشروعات السلطة المباركية في إتمام عملية التوريث والسيطرة المطلقة على الأوضاع في مصر ، وبقدر ما التزم مبارك بتعهداته فقد التزم الإخوان كذلك بعدم الصدام مع أي من مشروعاته خلال الخمس سنوات التي تواجدوا فيها داخل القبة البرلمانية . وكان استخدامهم المبتذل للشعارات الدينية تجاه الآخر ، وأدائهم السلبي في مواجهة مبارك من ناحية والسيئ تجاه ناخبيهم من ناحية أخرى أثره الواضح في تدني هيبة الدين بشكل عام لدى الشباب المثقف .
   كما ساهم سعي التيار السلفي لقمع الآخر عبر ارتباطه الواضح بالحكومة المباركية في إيجاد ردود أفعال معادية للدين الإسلامي بشكل عام ، حيث كثرت حالات الارتداد لديانات أخرى كالمسيحية البروتستانتية على وجه الخصوص ، وبلغت حالات الردة ما يقرب من 800 ألف حالة[1] . إلا أن الارتداد لم يكن المحاولة الوحيدة للتعبير عن الغضب تجاه التيار الديني ، حيث شهدت مصر حالات اعتناق للديانة البهائية والانتماء للطائفة الأحمدية القاديانية ، بالإضافة للتوجه إلى الإلحاد .
وعلى الرغم من أن الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية سنة 2006 قد ترك صورة إيجابية للتدين خاصة مع الأداء القوي للسيد حسن نصرالله في مواجهة الكيان الصهيوني ومصداقيته الهائلة ، وفي استطلاع للرأي أقامه مركز ابن خلدون حول السياسي الأكثر شعبية لدى المصريين إحتل السيد حسن المركز الأول دون منازع وهو ما أصاب الحكومة المصرية والتيارات النيوليبرالية والسلفية بالفزع واعتبرت أن هذا الصعود في شعبية حزب الله وأمينه العام يهدد وجودها في الشارع المصري لأسباب مختلفة وبالتالي فقد سعت لشن حملة تشويه واتهامات بحق الحزب وقائده[2] .
   وبالتأكيد أثمرت هذه المحاولات عدة نتائج في إسقاط هيبة الدين الإسلامي لدى الأوساط المثقفة ، إلا أن الإلحاد كمبدأ لم يبدو كظاهرة ملفتة في المجتمع المصري الضخم ، وباستثناء قضية المدون المصري ذو الأصول الأزهرية كريم عامر المتهم بازدراء الدين الإسلامي سنة 2010 والتي ربما لا يتذكرها الغالبية من المصريين ، فإن الإلحاد لم يتم طرحه كبديل للأديان على الإطلاق وظل محاصراً في إطار النخبة المثقفة .
   ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الغالبية العظمى من الملحدين في مصر لا ينتمون لنسق فكري ومنهجي محدد يمكن توضيحه ، بقدر ما يجمعهم حالة من العداء والكراهية العاطفية للمنظومة الإجتماعية السائدة وما يتبعها من مؤسسات كالمؤسسة الدينية والطرح الديني المتواجد في الإعلام والذي سيطر عليه السلفيون تماماً في هذه الفترة ، ويعاني أكثرهم من جهل بالتاريخ والحضارة الإسلامية وتفسير الآيات القرآنية ، لدرجة اللجوء للحرتقات أحياناً في محاولة لمنح رؤيتهم غير المنهجية وغير المتوازنة قدراً من المعقولية . ومن الممكن أن نطلق على هذا النوع مسمى " الإلحاد الاجتماعي " كونه لا ينطلق من رؤية عقلية حقيقية وإنما من كراهية ورفض للأوضاع الاجتماعية يتم عقلنتهما لاحقاً ، وهو يختلف بكل تأكيد عن الإلحاد الفلسفي القائم على نسق فلسفي وعلمي .
   كان سقوط مبارك في 11 فبراير 2011 إيذاناً بإظهار كافة سلبيات المجتمع التي نتجت عن السياسات الخاطئة للنظام في سنواته العشر الأخيرة ، ومن بينها بروز نخبة مثقفة منفصلة في رؤيتها واهتماماتها عن الحياة الواقعية للشعب المصري ، وكانت أهم ما سعت للترويج إليه هو الحرية المطلقة وغير المقيدة كرد فعل على مطالبات السلفيين بقيود متشددة فيما يخص حقوق الفكر والعقيدة والتعبير عن الرأي ، ومع التشدد السلفي الواضح ولجوئهم للإرهاب في الشارع فقد نشأت ردود أفعال ساخطة – بغض النظر عن خلفياتها الحقيقية – كقيام إحدى الناشطات الملحدات بنشر صورة عارية لها على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك ، وهو ما استخدمه السلفيون كثيراً في محاولة إخافة المصريين من مطالبات البعض بالحقوق الفردية في التعبير عن الرأي ، ومع توالي النجاحات التي حققها التيار المتشدد سواء في الانتخابات البرلمانية أو في الانتخابات الرئاسية باسم الدين ، ثم فشله الواضح في تقديم أي مشروع نهضوي أو حتى سياسي خلال فترة سيطرتهم على الواقع في الشارع المصري ، ناهيك عن تورطهم في عدة فضائح سلوكية ، فقد نشأت ردود أفعال تجاوزت حدود النخبة المثقفة إلى المواطن العادي الذي أصبح من المعتاد أن تسمعه يتساءل عن جدوى الدين إذا كان فقهائه والمتدينيين به بهذا المستوى من الفكر والسلوك .
   تنقسم الحالة الإلحادية في مصر الآن إلى نوعين الأولى لم تتجاوز مرحلة إهمال الدين بشكل كامل من ناحية الشعائر والسلوك رغم عدم اتخاذ قرار واضح بالتخلي عنه ، والثانية الخروج بالفعل من زمرة المؤمنين .
   تمثل الحالة الأولى غالبية الملحدين في مصر ، وقد راقب كاتب هذا المقال هذه الحالة لدى بعض أصدقائه ممن كانوا منتظمين في ممارسة الشعائر الدينية ، وتحولوا بعد الثورة وخاصة فترة حكم الإخوان المسلمين إلى إهمالها بل والسخرية منها وطرح التساؤلات حول قيمتها وما يمكن أن تقدمه للملتزمين بها . ومثل هذه الحالة ينتمي إليها الكثير من الشباب العاديين في المجتمع المصري الآن والذين عانوا من الممارسات السياسية والاقتصادية في عصر مبارك وما تلاها حتى سقوط الإخوان ، كما يعانون من سقوط المنظومة الاجتماعية وما تحويه من قيم سلوكية ودينية كذلك ، ولا يحملون أي ثقافة حقيقية تمكنهم من صياغة منظومة بديلة لذلك يتعاملون مع الدين بقدر من الانتهازية ، وقد يلجئون إليه في المواقف الصعبة عندما لا يجدون أمامهم أي حلول أخرى . ومع افتقادهم للثقافة والرؤية الفكرية فإنهم قادرين على العودة للتدين التقليدي مرة أخرى في حال تحسنت ظروفهم المعيشية .
   الحالة الثانية تمثل الإلحاد الاجتماعي والذي سبقت الإشارة إليه ، وقد سمحت الظروف السابقة له بالازدهار في الفترة الأخيرة ، وبالرغم من أن المنتمين إليه يتحدثون دائماً عن نظريات بديلة للدين حول الخلق ونشأة الإنسان كنظرية التطور ، إلا أنهم في المقابل لا يتحركون من منطلق علمي في مناقشة هذه النظريات ، كما لا يمتلكون رؤية حقيقية للدين (الإسلامي أو المسيحي) بقدر ما يتحركون من رفض إجتماعي وكراهية للمؤسسة الدينية والطرح المقدم من قبلها والذي يصفونه بالقمعي .
   لقد كان للكاتب تجربة شخصية في مجموعة الملحدين العرب على موقع التواصل الإجتماعي فيسبوك ، وقد لاحظ أن مشاركات أعضاء المجموعة من الملحدين لا تتجاوز حد السخرية اللاذعة من الطرح الديني المتواجد ، دون تقديم أي بديل فكري حقيقي في مواجهته ، وبعد عدة مناقشات معهم حول قضايا دينية مختلفة ، فوجئت بكونهم لا يمتلكون أي ثقافة دينية حقيقية ، وتقتصر معرفتهم بالدين على ما يتم الترويج له في المواقع السلفية لا أكثر ، لكن الأكثر أهمية هو أنهم بشكل عام كانوا غير قادرين على احتمال المناقشة ومارسوا بدورهم القمع على الكاتب[3] لمنعه من إكمال طرحه .
   إن النتيجة التي يمكن التوصل إليها من هذا العرض هي عدم إرتباط الإلحاد في مصر بأي منظومة فكرية أو فلسفية يمكن أن تجعله قائماً على قدميه في مواجهة أي مناقشة علمية مع الآخر أياً كان إنتمائه ، وإنما تقوم الظاهرة الإلحادية بالأساس على الغضب الإجتماعي من تدني الأوضاع الاقتصادية والقمع السياسي والديني القائم كنتاج لها ، فهي إذن مجرد ردود أفعال ساخطة من حيث جوهرها ، ثم يجري عقلنتها عبر إضفاء بعض النظريات عليها لتبرير خروج الملحد عن المنظومة القيمية للمجتمع والتي لم يتمكن من تحقيق استفادة واضحة منها .

أحمد صبري السيد علي
11 مارس 2014


[1] هذا الرقم حصلت عليه من الصديق (م . ح) وهو من الذين اعتنقوا المسيحية ثم تراجعوا مرة أخرى إلى الإسلام ، وقد استند فيه إلى حالات التعميد التي تابعها في إحدى الكنائس البروتستانتية الكبرى بالقاهرة . وجدير بالذكر أن حالة هذا الصديق ليست الوحيدة في التراجع للإسلام مرة أخرى .
[2] قام باستطلاع الرأي مركز ابن خلدون في أكتوبر 2006 وكانت نتيجته مفاجأة مؤلمة لدى الساسة المصريين والتيارات السلفية ، فقد جاء السيد حسن نصرالله في المركز الأول برصيد 1205 صوت في استطلاع أهم عشرين شخصية في العالم والشرق الأوسط ، تلاه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد برصيد 996 ، بينما جاء أسامة بن لادن في المركز الرابع ، والشيخ مهدي عاكف مرشد جماعة الاخوان في المركز السابع ، الشيخ يوسف القرضاوي في المركز العاشر ، والرئيس المصري حسني مبارك في المركز الحادي عشر ، وجاء الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز في المركز الخامس عشر .
[3] تم طردي من المجموعة أثناء مناقشة قضية العبودية ، وقد حاولت أن أوضح لهم أن العبودية كانت تمثل نمط إنتاج قائم لا يمكن القضاء عليه بمجرد القرار ، وإن كان الإسلام سعى للتقليل من تواجده عبر تحرير العبيد واعتباره كأحد وسائل التقرب إلى الله ، كما أشرت للحديث المروي عن النبي (ص) : شر الناس من يبيع الناس . ولم يتقبل صاحب الصفحة وأعضائها هذه الدلائل بصدر رحب .

نشر هذا المقال في موقع بينات بتاريخ 12 مارس 2014

ليست هناك تعليقات: