الثلاثاء، 3 يونيو 2014

الفساد ودوره في الانهيار الاجتماعي


   توجد العديد من العوامل التي تساهم بدرجات متنوعة في الانهيار الذي قد يصيب مجتمع ما عبر سقوط منظومة قيمه ومثله العليا وابتذال سلوكياته ومعتقداته وتحويلها لمجرد ممارسات شكلية ومظهرية .

 



   إلا أن الفساد يمثل المرحلة النهائية لأي مجتمع والتي يدرك الباحث التاريخي أنها تكون السابقة مباشرة على لحظة الانفجار والتي قد تصبح كذلك لحظة الثورة الاجتماعية في حال توفر لها عقيدة ثورية وقيادة ثورية .
   لقد كان الفساد ، وخاصة في جانبه الإداري ، يمثل في بعض بلدان العالم العربي الإشارة لسيادة الرأسمالية الطفيلية والتي نظراً لكونها غير منتجة ، فهي في حاجة دائمة للإبقاء على الفساد الإداري وإتساع رقعته بشكل تدريجي من أجل تسهيل قدرتها على الحركة والربح السهل ، وفي المقابل هناك إقتصاد كامل لهذا الجانب من الفساد والذي يتحول رواده تدريجياً لأثرياء بدون جهد ينضمون للطبقة الطفيلية نتيجة مهارتهم في التلون وقدرتهم على غض الطرف عن مخالفات أو تزوير أوراق .
   في التاريخ الإسلامي ، استمرت الدولة العباسية ، رغم كل سلبياتها ، قادرة على إحكام سيطرتها بكل العالم الإسلامي رغم اتساع رقعته ، إلا أن المرحلة الثانية من التاريخ العباسي ، والتي بدأت مع عهد الخليفة المتوكل ، شهدت توغل الجهاز الإداري للدولة الذي أثرى رواده وتحولوا إلى ملاك كبار للأراضي نتيجة فسادهم[1] وهو ما أدى لظهور التذمرات الكبرى ضد الدولة العباسية لعل أشهرها ثورتي الزنج والقرامطة وساهمت في إضعاف الدولة وسقوطها تحت سيطرة مواليها من الديلم والترك .
   في مصر وقبل ثورة 25 يناير تكرر مشهد مشابه ، فقد كان الفساد الإداري قد أصبح مشرعاً في الواقع العملي ، وكان على كل مواطن ينوي الدخول إلى مبنى أي إدارة حكومية أن يضع في اعتباره ميزانية خاصة للمجاملات التي يحتاجها لإنهاء أي أوراق أو حاجة له دون مشاكل أو تعقيدات روتينية يجيد الموظفين اختلاقها بنفس درجة إجادتهم لإيجاد الحلول السريعة لها ، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الدولة قد اتبعت نظام المصالحة مع الفاسدين السذج الذين يتم أكتشافهم ، فيتم السماح لهم بإعادة ما سرقوه مقابل إطلاق سراحهم ، وهو ما أطلق عليه (إجراء المصالحه) .
   وحتى في الاتحاد السوفيتي ، والذي تكونت سلطاته بناء على تجربة ثورية كانت مواجهة الفساد الرأسمالي جزء من برنامجها ، لكن في أعقاب وفاة ستالين ، تحولت الدولة للخضوع لسيطرة مجموعة من كبار الموظفين الانتهازيين الذين قفزوا على مبادئ ثورتهم ، ولم يعبأوا بترهل الجهاز الإداري لهذه الدولة العظمى مادام يؤدي ذلك لزيادة ثرواتهم ، وهو ما أدى في النهاية لانهيار هذه التجربة الضخمة .
   إن إنتشار الفساد بتنوعاته ، وتحوله إلى أداء يومي اعتيادي وغير ملفت للنظر مع ما يسببه من ضغوط قاسية على المواطنين ، يمثل إشارة واضحة لتفكك المجتمع ، وإضمحلال قيمه وتصاعد التناقضات الإجتماعية داخله وإقتراب إنفجاره في مواجهة الطبقة المسيطرة ، أو على الأقل المجموعة الحاكمة سياسياً .
   ويبقى التساؤل عن كيفية مواجهة الفساد كنتيجة ووسيلة للتخلي عن اقتصاديات التصنيع والاقتصاد التخطيطي . ففي التجربة الثورية الصينية وأثناء حكم ماو تسي تونج اشعل ثورة البروليتاريا الثقافية في مواجهة أقطاب الفساد في الدولة والقوى الانتهازية والتحريفية داخل الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ليو شاو تشي ، وتمكن بالفعل من التخلص منهم وإعادة تجديد الحيوية الثورية للشعب الصيني مرة أخرى ، وهو ما تم تكراره مرة أخرى في أعقاب الثورة الإسلامية في إيران وتحت قيادة الإمام الخميني مع بعض الاختلاف في التفاصيل[2] .
   ومع أن التجربتين الصينية والإيرانية ربما لا يمكن استنساخها نتيجة خصوصية وطبيعة كل دولة ، كما لا يمكن كذلك استنساخ زعماء ومؤثرين بمستوى الإمام الخميني وماو تسي تونج ، إلا أنه على الأقل من الممكن الاستفادة منهما وإعادة طرحهما بما يتناسب مع خصوصيات الوضع في الدول الأخرى وطبيعة ثقافتها وتراثها . لكن يبقى ، على كل حال ، التأكيد على أن مواجهة الفساد لا يمكن أن تتم عبر القرارات الإصلاحية وإنما عبر الاحتجاجات الجماهيرية القادرة على إجبار الجميع بالتراجع والانصياع لإرادتهم  .

أحمد صبري السيد علي
3 يونيو 2014



[1] يعود فساد الجهاز الإداري للدولة العباسية إلى تحول الدولة للخضوع تحت سيطرة العسكر التركي في أعقاب ثورة بابك خورمدين ، وهو ما دفع الخلفاء العباسيين لشراء ولاء الجنود الاتراك بمنحهم مساحات شاسعة من الأراضي ، ولم يكن الاتراك يمتلكون الخبرة الحضارية الكافية للاعتناء بالأرض الزراعية نظراً للطبيعة الرعوية للشعب التركي في هذه الفترة ، وبالتالي فقد عانت الزراعة حالة من الاضمحلال في هذه الفترة وهو ما أدى لتراجع موارد الدولة بشكل عام ، وضعف مركز الخليفة العباسي وقدراته الرقابية ، ومثل هذه الظروف هي ما تسمح للفساد بالنمو عموما نتيجة تغلغل العناصر الانتهازية لمواقع القرار فيه .
[2] طالب الامام الخميني في خطاباته الشعب الايراني بضرورة الانتباه لتغلغل الفاسدين والانتهازيين إلى الجهاز الحاكم والمواجهة الحاسمة معهم : كونوا مراقبين يقظين وعندما تشعرون بأول خطورة تغلغل هبّوا للمواجهة ولا تمهلوهم، والله معينكم، وحافظكم .

ليست هناك تعليقات: