الاثنين، 23 يونيو 2014

نظرة يسارية لسماحة السيد (قده)




   خمس سنوات مرت على رحيل سماحة السيد محمد حسين فضل الله (قده) ، ولا أعتقد أن محبيه قد افتقدوه بالفعل ، ومازال الكثيرين منهم حريص على أداء الصلاة في مسجد الإمامين الحسنين بالضاحية الجنوبية حيث كان يلتقيهم دائماً ، ثم إلقاء نظرة وقراءة ما تيسر من القرآن الكريم على مرقده أسفل المسجد . كمحاولة متشبثة منه للبقاء دائماً بين جموع الجماهير التي قام بدوره الكبير في تنويرها وإنهاض وعيها الديني والاجتماعي والسياسي خلال سنوات طويلة .

 
   لا يمكن القول أن سماحة السيد فضل الله (قده) يمثل شخصية تقليدية أو معتادة في الوسط العلمائي الإسلامي ، الذي مازال بكل أسف يرفض تجاوز الرؤى القروسطية التقليدية للدين باعتبارها الأصدق مادامت الأقرب زمنياً لصدور النص الديني ، متجاهلاً حقيقة وجود المؤثرات السلبية والإيجابية على نظرة هؤلاء العلماء للنصوص ، كونهم غير معصومين . وربما كانت هذه السلبية المتوارثة لدى علماء الدين هي ما جعلت سماحة السيد شخصية غير عادية في هذا الوسط ، حيث يعد من القليلين ، إن لم يكن الوحيد ، الذي تمكن من تجاوزها وأدرك الفارق الحقيقي بين قدسية النص الإسلامي ، وبين قراءة العلماء السابقين وتفسيرهم له ، لذلك تميزت فتاواه في شئون المحدثات بكونها الأكثر وعياً بالواقع والأكثر مرونة معه ، دون تقديم أي تنازلات تمس أصالة النص الديني أو تجعله مرهوناً للحداثة وخاضعاً لها . هذا المنهج المتوازن في الفتوى يعد ميزة سمحت لمقلدي السيد ومحبيه أن يكونوا في حالة تصالح مع التطورات العصرية التي يشهدها المجتمع وفي نفس الوقت مسلمين قادرين على ممارسة تدينهم دون تقديم تنازلات أو السقوط في أزمة الصدام بين الواقع والدين ، تلك التي خلقتها بمنتهى التعسف التيارات الدينية الرجعية .
   كانت معرفتي الأولى بالسيد فضل الله عبر كتابه الرائع " الإسلام ومنطق القوة "[1] والذي صدر في أثناء صدام المجتمع المصري مع الجماعات الدينية الرجعية ، وكمثقف يساري تابعت باستغراب شديد التحليل الواعي لسماحة السيد للأخلاقيات الإسلامية في استخدام القوة أثناء النضال السياسي : " الحركة التغييرية في الإسلام ، لا تبتعد عن أخلاقياتها وقيمها الكبيرة ، بل تظل مشدودة إلى الخط الإسلامي العريض في كل خطواتها ، في استقامة واقعية ، لا تشل الحركة ، أو توقفها ، لأن أخلاقية الممارسة تتحدد بحدود مبدأ الأهمية الذي يحكم قانون التزاحم في الأشياء فإذا أرادت الحركة أن تقتحم بعض الحدود المحظورة أخلاقياً ، فإن من الممكن أن يرتفع المنع أو الحظر عن تلك الحدود والأشياء ، إذا تعرضت الحركة للخطر ، أو توقفت سلامة الهدف الكبير على القيام به "[2] ، وهو ما يبدو متعارضاً للغاية مع منطق هذه الجماعات المسماة بـ " الإسلامية " حيث لم تتورع في لجوئها للعنف ضد السلطة عن الاعتداء على الجماهير المسالمة واللجوء حتى لسرقة المحلات التجارية للمسيحيين لتمويل عملياتها مبررة هذا الفعل بكونهم كفار وأعداء للإسلام[3] .
   كان شعوري بالاستغراب ناتج عن مدى وعي سماحته وإخلاصه للنص الإسلامي المقدس وما يرمي إليه سواء في الإشارة القريبة أو الغايات الأبعد ، وخروجه عن إطار محاولات التبرير أو مصادرة النص لمصالح خاصة حزبية أو شخصية وهو ما اعتدنا على سماعه من قبل الكثير من علماء الدين وأثار حالة سلبية تجاههم لدى المصريين[4] . كما كان السيد فضل الله من علماء الدين القلائل – في هذه الفترة - الذين أدركوا قيمة القوة الإجتماعية التي تعتمد على تراجع شعور الإنسان بفرديته ووعيه بالرابطة الإجتماعية التي تشده إلى الآخرين[5] .
   ومع متابعتي للإنتاج الفكري الصادر عن سماحته (قده) في السنوات اللاحقة ، تأكدت أن مثل هذه الرؤى التقدمية ليست طارئة أو متماشية مع وضع قائم ، وإنما معبرة عن شخصية تمتلك تجربة ثرية أنتجت طرحاً ثقافياً ومشروعاً إنسانياً ضخماً لا يمكن تحجيمه في الإطار الديني أو الطائفي أو حتى الوطني ، مما سمح له بالتواصل الفكري والإنساني مع الآخر ، باحثاً عن الأرضيات المشتركة التي رآها صالحة لتجاوز حدة التناقضات القومية والدينية والأيدلوجية التي مازال العالم يعيشها حتى الآن وأدت لحالة من المحاجزة والصدام بين المجتمعات المختلفة[6] .
   لقد كان نقد التراث والتاريخ الإسلامي ، والبحث عن مناهج جديدة تستفيد من التطورات العقلية العلمية والفلسفية التي توصلت إليها البشرية في العصر الحديث من أهم ما ميز مشروع السيد فضل ، وربما من أهم أسباب المحاولات الحثيثة لإسقاطه من قبل القوى الرجعية والانتهازية التي شعرت بالخطر على مكتسباتها في حال حصل هذا المشروع على الانتشار الذي يستحقه . في الجزء الثالث من كتاب " الندوة " وضع السيد فضل الله منهاجاً جديداً في نقد المروية الإسلامية يعتمد على وثاقة الرواية وليس وثاقة الراوي : " إن لنا منهجاً في عملية حجية الرواية ، وهو أننا لا نعتمد وثاقة الراوي ، بل وثاقة الرواية . إننا ندرس الرواية في مضمونها : هل فيها ما يغري الراوي بالكذب أو ليس فيها ما يغريه بذلك ، فإذا رأينا أنه ليس ثمة ما يدعو للكذب في هذه المسألة فإن ذلك يثبت لنا الوثاقة ، كما لو أن أحداً أخبر بقضية معينة وهو ليس بالرجل الثقة لكننا نرى أن لا مصلحة شخصية له في الإخبار بذلك ، فلا تتصل القضية بجو سياسي يريد دعمه ، ولا هي تتصل بجو سياسي يريد تهديمه "[7] .
   هذا الرأي للسيد فضل الله ، بالاهتمام بمضمون الراوية والبحث في الخلفيات الخاصة بالراوي ومؤثراتها على روايته ، بعيداً عن الشهادة له بالوثاقة أو غيرها ، يمثل تجاوزاً ثورياً ضخماً لكل التقاليد القروسطية التي حكمت رؤيتنا للإسلام وتاريخه وتراثه ، وأدت لتمرير معظم السلبيات الاجتماعية التي تحولت تدريجياً لأحكام راسخة في الفقه إعتماداً على وثاقة الرواة الذين لم يتخلصوا – بكل تأكيد - في مروياتهم من الخلفيات الإجتماعية والسياسية التي ارتبطوا بها ، ومما يدعو للأسف أنه لم يتم الاهتمام بمناقشة هذا المنهج الجديد لسماحة السيد الذي يدعم رؤية ثورية للإسلام من الناحيتين الأصولية والتاريخية ، لكن المؤسسات الدينية الإسلامية بتنوعاتها المذهبية لا تبدو جاهزة لتبني هذه الحالة التقدمية ، بينما تعاني من التأثير المبالغ فيه للتقليدية[8] .
   ويمثل الحوار والبحث عن الالتقاء مع الآخر لإيجاد المشتركات ركناً آخر من أركان مشروع السيد فضل الله ، وقد أسس بالفعل للحوار بين المسلمين والمسيحيين عبر كتابه " آفاق الحوار الإسلامي المسيحي "[9] ، لكن الجديد الذي أنفرد به سماحة السيد في كتاب " أسئلة وردود من القلب " ، هو دعوته للحوار بين التيارين الإسلامي والماركسي لإيجاد مواقع اللقاء ، وتحديد مواقع الافتراق ، مؤكداً أن الإسلام والماركسية يتفقان على تصوير المشكلة ، ومثل هذه الدعوة التي صدرت مع بداية تسعينات القرن الماضي ، تعد سباقة بالنسب للوسط العلمائي الإسلامي الذي اعتاد النظر بشكل سلبي وساخط للماركسية واليسار عموماً ، وذلك بالرغم من أن كلاهما ينحاز بوضوح للكادحين والمستضعفين .
   لم يكن تميز رؤية السيد فضل الله متمثلاً في إبراز الحالة الثورية للإسلام ، فأبسط قراءة منهجية للتراث الإسلامي يمكنها كشف هذه الحقيقة ، وقد أكدتها الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني (قده) في سبعينيات القرن الماضي ، لكن التجديد الحقيقي يبرز بوضوح في إبراز الحالة الحضارية والإنسانية لهذا الدين ، القادرة على التواصل مع الآخر ، حتى لو كان غير منتمي إلى الإسلام من الناحية الدينية ، ودمجه في مشروع وهدف موحد . وهي الحالة التي طالما تنكرت لها المجموعات الرجعية ساعية لفرض وجهاً بدائياً وهمجياً لا ينتمي لهذا الدين سواء عقائدياً أو تراثياً .
   لقد مثل السيد فضل الله (قده) نموذجاً لعالم الدين الحقيقي الذي طالما حلم به المثقفون والتقدميون في العالم الإسلامي ، بكل تجربته المتنوعة ، وتواصله الرائع مع الواقع ، وإنخراطه اليومي في حياة الجماهير وهمومها . بما يحقق الفارق الحقيقي بين عالم الدين الذي يدرك تماماً جوهر التعاليم والسلوكيات والقيم الدينية ويسعى بمنتهى الوعي لتطبيقها على أرض الواقع ، وبين رجل الدين الذي يحترف ويتكسب من الممارسة والوعظ الديني دون وعي أو شعور بقيمته أو بالمدلول الجوهري لتعاليمه وقيمه .
   إن العالم العربي والإسلامي وحتى العالم الكادح بشكل عام ، لا يحتاج فقط للاحتفال بذكرى سماحة السيد ، رغم أنه مازال حاضراً بكل نتاجه الفكري ، وحتى الفقهي والأصولي ، بقدر ما يحتاج إلى طرح مشروعه الحضاري والإنساني للنقاش البناء كأحد الخطوات للتغلب على ما نعانيه من رجعية دينية وثقافية ، ومحاجزات طائفية وقومية أضعفت كثيراً من واقعنا .

أحمد صبري السيد علي
23 يونيو 2014



[1] صدر الكتاب سنة 1985 ، لكنني طالعته في سنة 1997 أثناء دراستي بالجامعة .
[2] السيد محمد حسين فضل الله . الإسلام ومنطق القوة . طبعة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . بيروت 1985 . ص255 .
[3] لا يقصد السيد فضل الله بمصطلح " الحركة " المعنى المرتبط بالمجموعة السياسية المحددة ، وإنما يشير إلى التحرك الجماهيري المناضل بشكل عام في اتجاه تحقيق الهدف الكبير للكفاح ، ويشترط من أجل التجاوز على بعض الأخلاقيات هو تعرض هذا التحرك الجماهيري الضخم للخطر .
[4] يتناقل المصريون مجموعة نكات ومواقف ساخرة من رجال الدين بشكل عام مسلمين ومسيحيين ، وتتنوع ما بين تناقض ممارساتهم وسلوكياتهم مع تعاليم الدين ، أو تغير فتاواهم ومواقفهم تبعاً للسلطة الحاكمة ومصالحهم ونهمهم الكبير على الطعام .
[5] السيد فضل الله . م . س . ص 98، 99 .
[6] في كتابه السياسة الدينية والدول العلمانية ، اعترف سكوت هيبارد بأن النخب العلمانية بدأت منذ عام 1968 في التجاوز على تقاليد الحداثة وتبني سياسات وشعارات دينية رجعية بهدف جعل الصوت الانتخابي للكادحين قائم على الانتماء الديني وليس على الاعتبارات الاقتصادية ، بما يعني الرغبة في تمرير قرارات اقتصادية معادية لمصالح هؤلاء الكادحين وداعمة للرأسمالية . (سكوت هيبارد . السياسة الدينية والدول العلمانية (مصر والهند والولايات المتحدة الأمريكية) . ترجمة / الأمير سامح كريم . طبعة عالم المعرفة . عدد 413 . الكويت 2014 . ص 13)
[7] السيد محمد حسين فضل الله . الندوة . إعداد / عادل القاضي . طبعة دار الملاك . بيروت 1998 . ج 3 ص 446 ، 447 .
[8] اعتمدت على هذا المنهج في نقد المرويات التاريخية في كتابي غير المطبوع " إنتفاضة الوصفاء " ، وكتابي " الجذور الطبقية لثورة الإمام الحسين " المطبوع في بيروت بدار الحمراء سنة 2009 .
[9] يعد هذا الكتاب جديداً للغاية في رؤيته بالرغم من أن الحوار الإسلامي المسيحي كمقولة أصبحت منتشرة إلى درجة الابتذال بين الإعلاميات العربية بشكل عام ، لكن أحداً لم يفكر في صياغة هذا الشعار بصورة جدية سوى سماحة السيد كونه يمثل جزء من مشروعه الحضاري ، بينما يمثل للآخرين واجهة دعائية لا أكثر .

ليست هناك تعليقات: