الخميس، 4 يوليو 2013

استثناءات السيد فضل الله


يلحظ الكثيرون أن مقلدي سماحة السيد محمد حسين فضل الله من الشيعة يمتلكون قدراً من الزهو خاصة في تناولهم لسيرة السيد الراحل وكفاحه في العراق ولبنان من أجل ترسيخ مبدأ المقاومة . 

 
والواقع أن السيد فضل الله يعد من القلائل الذين لا يثرثر أتباعهم كثيراً عن مآثرهم الشخصية وما يؤدونه من صلوات وتهجدات ، بقدر ما يتحدثون عن ما قدمه للمجتمع ككل من مؤسسات للرعاية الاجتماعية وطروحات فقهية وفكرية وتاريخية سعت لترسيخ وتدعيم عملية التطوير الحضاري لاوضاع هذا المجتمع .
ربما لم يقبل السيد فضل الله ان يكون كنظائره في كل العالم وكل الديانات مجرد عالم دين يكتف بالقاء العظات الممجوجة على أذن اتباعه بالاضافة لبعض المساهمات في منح الاعطيات للفقراء ، لكنه سعى لقدر أكبر من المساهمة الاجتماعية عبر طرح منظومة نظرية وعملية في آن لما يمكن ان يقدمه عالم الدين من دور بارز وإيجابي ، حوله لنموذج ربما لا يمكن تكراره بسهولة .
ولهذا السبب لا يتحدث مقلديه كثيراً عن فتاواه بقدر ما يتحدثون عن رؤيته السياسية للاوضاع في العالم ، ونظريته التاريخية في بعض القضايا ، وربما منهجه في تلقي المرويات ونقد الرجال ، وتفسيره الجديد في اسلوبه للقرآن الكريم والذي ربط الكلام الإلهي بحركة الواقع بعد أن عانى المسلمين كثيراً من التفسيرات المتأثرة بالرؤى القروسطية وترفض الخروج من إطارها . 
لقد كانت بداية تعرفي على منهج السيد فضل الله في منتصف التسعينات عبر كتابه الرائع " الإسلام ومنطق القوة " والذي ناقش فيه بذهنية تقدمية ارتباط القوة بحركة المستضعفين في المجتمع ، كما أشار إلى المحيط الأخلاقي لاستخدام القوة .
وقد كان من الغريب بالنسبة لي في هذا الوقت ان يمتلك أحد علماء الدين هذا الأفق الرحب في قراءة النصوص ، وفي وعيه بأهمية حركة المجتمع وتطوراته والصراع ما بين المستضعفين والمستكبرين والذي يفرض ، بحسب الكتاب ، لجوء المستضعفين للقوة من الناحيتين السلوكية والعملية ، وربما كان مكمن الغرابة هو الصورة التي كان يتم بها تصوير علماء الدين الشيعة بها في مصر خلال هذه الفترة ، حيث سعت التيارات السلفية المدعومة من نظام مبارك لمنح الشعب المصري صورة كاريكاتورية مشوهة لهم ، تقوم على التناقض ما بين الآراء الهزيلة المضحكة التي نسبت إليهم وبين العنف والتطرف في مواجهة الآخر كما قيل آنذاك . وبالنسبة للسيد فضل الله (قده) فلم يكن يعرف عنه سوى أنه الأب الروحي للمتطرفين الشيعة في لبنان .
لاحقاً قرأت العديد من المؤلفات التي طبعت لسماحة السيد وخاصة رؤيته التاريخية لقضية الاعتداء على الزهراء (ع) ، ونقده الرائع لهذه الحادثة عبر التأكيد على منح الاعتبار للاوضاع والأعراف الاجتماعية التي كانت متواجدة في هذه الفترة في محاكمة المرويات المتنوعة للحادثة ، بالاضافة لرؤيته الخاصة للمرجعية الدينية ، ومطالبته للحركة الإسلامية بضررة اللبننة بمعنى الوعي بخصائص الوضع في لبنان .
في كتابه أسئلة وردود من القلب اتخذ سماحة السيد مبادرة قد يكون هو الوحيد بين علماء الدين الذي تبناها ، حيث دعا لحوار إسلامي – ماركسي يحاول أن يجد مواقع اللقاء . ويحدد مواقع الافتراق ، ليتفاهم الإسلاميون والماركسيون على ما يمكن أن يتعاونا في كثير من المواقع السياسية ، أو بعض المواقع الاقتصادية وذلك انطلاقاً من اعتقاده بالاتفاق بين الاسلام والماركسية على توصيف المشكلة بحسب مقولة الإمام علي بن أبي طالب (ع) " ما رأيت مالاً وفيراً إلا وبجانبه حق مضيع " .
وبقدر ما تعبر هذه المبادرة عن الخلفية الاجتماعية للحركة الاسلامية في الوسط الشيعي والمنحازة بشكل تلقائي للكادحين في أغلب ادبياتها انطلاقاً من كون التشيع بالاساس كان يمثل ايدلوجية الكادحين في العصور الوسطى بالاضافة للطبقة التجارية الصغرى ، وبالتالي فوجود عناصر تلاقي كثيرة ووثيقة بين الإسلاميين الشيعة وبين الماركسيين يبدو طبيعياً ، فإن تجاوز سماحة السيد عن عناصر الخلاف التي كانت قائمة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بين الإسلاميين والماركسيين في لبنان إلى الدعوة لحوار بين الطرفين والتأكيد على عناصر الاتفاق بينهما مثل طرحاً جديداً وجريئاً للغاية على الساحة العربية ، ناهيك عن ما حمله العرض من سعة أفق عبر البحث عن توحيد القوى في مواجهة الاستغلال والامبريالية الرأسمالية التي مارست دوراً متوحشاً في لبنان .
على أن ما كان ملفتاً ومثيراً للغرابة بالنسبة لي هي ما تميزت به فتاواه الدينية من انسجام مع واقع المقلدين وحركتهم في المجتمع ، وهي ميزة غير معتادة في العلاقة التقليدية المعروفة بين المسلمين بشكل عام ورجال الدين ، حيث تصطدم الفتوى غالباً بالواقع الذي يعيشه المسلم في حياته العملية وتفرض عليه المعادلة المؤلمة بالنسبة له فإما الالتزام بالدين وإما الإلتزام بمسئولياته ، وتفضيل ايهما على الآخر سيمثل مشكلة بكل تأكيد .
كانت فتاوى السيد فضل الله تجمع ما بين ميزتين قلما اجتمعتا لدى عالم دين ، فهي من ناحية تعكس وعياً واضحاً بالتطورات الحياتية اليومية للمؤمن العادي ، كما تعكس كذلك الوعي بجوهر النص والأجواء الاجتماعية والتاريخية التي يتحرك من خلالها ، وما يفرضه من استنتاجات . ومن ناحية أخرى تتمسك بالمناهج والأساليب المتبعة في استنباط الأحكام ، وتبدي رصانة ظاهرة في التعمل مع النصوص دون أي محاولة للشطح وتحميل النص أكثر مما يحتمل أو محاولة تطويعه للحاضر .  
قد مثل سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (قده) حالة استثنائية واعية داخل الواقع المشوه بالكامل مع العالمين العربي والإسلامي ، التي تعبأت بفعل الرجعية والتخلف بكل عناصر الكراهية الطائفية والاقصاء للآخر ، وبقدر ما تمكن سماحته من التجاوز على هذه العقبات ، لكنه في المقابل وحتى وفاته منذ ثلاث سنوات ظل يدفع ثمن هذا الوعي الذي حرص على نشره إلى درجة اعتباره من قبل البعض معادياً للزهراء (ع) ، وهو شطط في المواجهة يثير الشفقة أكثر مما يثير السخرية .
يبقى سماحة السيد وما قدمه للفكر والمجتمع الإسلاميان قيمة لا يجب ان يسمح بنهايتها او توقفها عن الابداع ، أو حتى الانقلاب عليها من الداخل عبر منحها صفات تقديسية غير واقعية ، وإنما يجب الحفاظ عليها من قبل تلامذته ، عبر نشر ذات الوعي وتطويره عناصره ورؤيته لمختلف القضايا المحيطة .

أحمد صبري السيد علي
باحث تاريخي  4 يوليو 2013  - 23 شعبان 1434 هجرية 

ليست هناك تعليقات: