الأحد، 6 فبراير 2022

العامل الجغرافي في المادية التاريخية


 

العامل الجغرافي في المادية التاريخية

 

   في رسالته إلى يوسف بلوخ المؤرخة بـ 21 سبتمبر (أيلول) سنة 1890، ينفي فريدريك انجلز الاتهام الموجه له ولماركس بالقول أن العنصر الاقتصادي هو العنصر الحاسم الوحيد : " ولذا فإذا شوه أحدهم هذا الموقف بحيث يقول أن العامل الاقتصادي هو العامل المقرر الوحيد فإنه يحول تلك الموضوعة إلى عبارة مجردة، فارغة، لا معنى لها "[1] .


   يشير انجلز في هذا النص إلى إشكالية ربما يعاني منها الكثير من الكتاب والباحثين المنتسبين للماركسية، عبر تأكيدهم على دور العامل الاقتصادي دون البحث في تأثير العامل الجغرافي وما يمكن أن يؤدي إليه من تأثير على العامل الاقتصادي والعوامل الاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية .

   والواقع أن أقطاب الماركسية لم يهملوا في كتاباتهم الإشارة إلى دور العامل الجغرافي وأهميته، ففي رسالته لكارل ماركس، المؤرخة 6 يونيو (حزيران) 1853، أشار أنجلز بشكل غير مفصل إلى تأثير هذا العامل في تطور نمط الإنتاج : " لكن كيف حدث أن الشرقيين لم يتوصلوا إلى الملكية العقارية، حتى في شكلها الإقطاعي ؟ أظن أن مرد ذلك بصورة رئيسية إلى المناخ، مأخوذاً في علاقته بطبيعة التربة، وعلى الأخص بتلك الرقع الصحراوية العريضة التي تمتد من الصحراء عبر الجزيرة العربية وإيران والهند وبلاد التتر حتى أعلى الهضاب الآسيوية "[2] .

   أما ستالين فقد كان أكثر تفصيلاً، حيث ذكر في كتابه " المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية " ضمن أجابته عن تساؤل مطروح : ما هو أثر الوسط الجغرافي في التطور الاجتماعي ؟ ألا يكون الوسط الجغرافي القوة الرئيسية التي تحدد هيئة المجتمع وتعين طابع نظام الناس الاجتماعي، وتقرر الانتقال من نظام إلى آخر ؟ هنا يجيب ستالين بشكل حاسم : " تجيب المادية التاريخية على هذا التساؤل بالنفي . فالوسط الجغرافي هو، دون جدال، أحد الشروط الدائمة والضرورية لتطور المجتمع، ومن المؤكد أنه يؤثر في هذا التطور، فهو يعجل أو يبطيء سير التطور الاجتماعي، ولكن ليس هذا التأثير حاسماً، لأن تطور المجتمع وتغيراته تجري بصورة أسرع بكثير من تطور الوسط الجغرافي وتغيراته . فقد تتالت على أوروبا خلال ثلاثة آلاف سنة، ثلاثة أنظمة اجتماعية مختلفة هي المشاعية البدائية، والرق، والنظام الإقطاعي، بل تعاقبت في شرق أوروبا، في أراضي الاتحاد السوفيتي، أربعة أنظمة، أما شروط أوروبا الجغرافية فلم تتغير قط خلال هذه المرحلة نفسها . وإذا كان قد طرأ عليها بعض التغير فهو طفيف جداً، حتى أن الجغرافيين يهملون التحدث عنه . وهذا مفهوم، لأن حدوث تغيرات لها شيء من الخطورة في الوسط الجغرافي يحتاج إلى ملايين السنين، بينما تكفي بضع مئات السنين أو حوالي ألفي سنة لحدوث تغيرات هامة جداً في نظام الناس الاجتماعي "[3] .

   ويخلص ستالين إلى النتيجة النهائية لهذه المقدمة : " أن الوسط الجغرافي لا يمكن أن يكون السبب الأساسي أو السبب الحاسم للتطور الاجتماعي إذ أن ما يبقى دون تغيير تقريباً، خلال عشرات الألوف من السنين، لا يمكن أن يكون السبب الأساسي لتطور شيء معرض لتغييرات أساسية خلال بضع مئات السنين "[4] .

   في العموم فإن ما ذكره ستالين صحيح من كون العامل الجغرافي ليس المؤثر الحاسم في مقابل العامل الاقتصادي المتغير بشكل أكثر سرعة وما ينتج عنه من أنظمة اجتماعية، لكن ثمة ملاحظتين حول آراء ستالين :

   الأولى فيما يتعلق بقوله : " الوسط الجغرافي هو، دون جدال، أحد الشروط الدائمة والضرورية لتطور المجتمع، ومن المؤكد أنه يؤثر في هذا التطور، فهو يعجل أو يبطيء سير التطور الاجتماعي "، وهو ما أتفق معه فيه بكل تأكيد، في مصر، على سبيل المثال، سنجد أن صورتها الجغرافية قد منحتها عدة تميزات؛ ففي مؤلفه " شخصية مصر " يشير الدكتور جمال حمدان إلى أن الصحراوان الشرقية والغربية لم يكتفيا بعزل مصر جغرافياً وإنما أكدتا كذلك على وحدتها كما أدتا لطرق وصهر الوطنية المصرية، وتحويلها إلى كتلة واحدة متصلة لا انقطاع فيها نظراً لعدم وجود أي موانع طبيعية تمثل فاصلاً ما بين السكان المصريين كنهر الراين الذي يفصل بين الشعبين الفرنسي والألماني أو نهر الدانوب الذي يفصل بين الشعبين الروماني والبلغاري[5] .

   ويرى الدكتور جمال حمدان أن هذا الوضع الجغرافي قد سمح لمصر بسرعة الانتقال لمرحلة التشكل كأمة موحدة سياسياً وذات حكومة مركزية قوية[6]، من ناحية أخرى فإن البيئة الفيضية لمصر تقوم على الزراعة وتعتمد في الري على نهر النيل، وهو بحسب طبيعة واديه ليس مصرفاً طبيعياً للمياه بل هو مستنقع إسفنجي ملاري مشبع، وبديهي أنه لا يمكن للمصريين القيام بالزراعة إلا بعد تصريف المياه الذي يعتمد على جهد جماعي ضخم حتى يتم إعداد الأرض للزراعة الجديدة، وبعدها يحتاج المصريون إلى توصيل المياه للحقول عبر إنشاء شبكة كبيرة من الترع والقناطر والسدود[7] .

   وهنا يشير الدكتور جمال حمدان إلى الدور الهام الذي تقوم به الدولة في تنظيم حصول الناس على مياه، حيث أن زراعة الري إذا تركت بلا ضابط يمكن أن تضع مصالح الناس المائية في مواجهة بعضها البعض مواجهة متعارضة دموية، ذلك أن كل من يقيم على أعلى الماء يستطيع أن يسيء استعماله إما بالإسراف أو بحبسه تماما عمن يقع أسفله، كذلك يمكن للمحاباة والتحيز أن تسخو بالماء لمن تريد وتقبضه عمن تريد[8]، ومن ثم كان الدور الأول للدولة هو تنظيم حصول المزراعين على المياه بقدر مقبول من العدل والحياد، هذا بالإضافة لدورها الأمني في حماية الوادي من غارات البدو المستمرة والأطماع الخارجية مما منح كيان الدولة المصرية ومؤسسة الجيش المصري سلطة وأهمية قوية لدى جماهير المصريين[9] .

   إذن فقد أدى الموقع الجغرافي لمصر إلى لعدة نتائج :

1-  صياغة طبيعة النشاط الاقتصادي السائد (نمط الإنتاج) .

2-  صياغة السلوك الاجتماعي المتبادل بين المصريين عبر سرعة صهرهم كأمة موحدة، والتعاونية في العمل .

3-  أدى تأمين مصر ووادي النيل من الناحيتين الشرقية والغربية عبر الصحراء التي مثلت العازل من أي هجوم عسكري، باستثناء بعض الغارات التي كانت تقوم بها القبائل البدوية، ومن المؤكد أن هذا المانع الطبيعي ساهم في تركيز الجهود العسكرية المصرية على جبهات محددة كساحل البحر المتوسط وجنوب وادي النيل .

4-  التأسيس لحكومة مركزية صارمة ومؤسسة عسكرية قوية، وكلاهما تحظيان بقدر كبير من الشرعية لدى الجماهير المصرية تقترب من التقديس، نظراً للأدوار التي تقوم بها في رعاية نشاطاتهم الاقتصادية وتوفير الأمن اللازم لأدائها . 

5-  صياغة السلوك السياسي المتبادل ما بين الجماهير والدولة، وقد انتبه الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى هذه الخصوصية في السلوك السياسي للمصريين تجاه الدولة والحاكم والتي تبلغ درجة كبيرة من الاحترام، وفي المقابل مدى حرص الدولة ورأسها على أداء واجباتها الأساسية دون إهمال : " وليس في ممالك الدنيا لصاحبها النفوذ الحقيقي على الزراعة والفلاحة إلا صاحب مصر فانه لا يجد في إهمالها فلاحه، وبقدر نفوذه على إدارة الزراعة يكون له نفوذ على الأهالي، وأما في غير مصر من البلاد التي ريها بالمطر فليس للحكومة عليها ولا على قلوب أهلها كبير تسلط "[10] .

   فصياغة طبيعة النشاط الاقتصادي، والتأثير في التطورين الاجتماعي ثم السياسي، بل وفي الرؤية الأمنية للمؤسسة العسكرية والسلوكيات الاجتماعية المتبادلة بين الجماهير وبينهم وبين الدولة، هي ذاتها القدرة على إبطاء أو تسريع التطور التي أشار إليها ستالين دون تفصيل .

   وبالنسبة لمصر، فبقدر ما ساهم الوسط الجغرافي في التطور الاجتماعي والسياسي حتى تأسست الأمة المصرية الأولى ودولتها الموحدة، فقد أضعف وأبطأ كذلك الفعل الثوري لاحقاً نظراً لهذه المساهمة الضخمة التي تقوم بها الدولة في الحياة اليومية للجماهير والتي تساهم في تأمين مصدر عيشهم الأساسي، وبالتالي تبدو التطورات في التاريخ المصري دائماً كنشاط دولة أو كتطور من أعلى، بينما في الدول الأخرى ذات المعطيات الجغرافية المختلفة لا تقدم الدولة كما لا تحتاج الجماهير لنفس هذا القدر من المساهمة الفاعلة وبالتالي فالفعل الثوري الاجتماعي تجاه الدولة يكون أكثر حضوراً وسرعة .

   أما الملاحظة الثانية فهي ما يتعلق بقوله : " أن حدوث تغيرات لها شيء من الخطورة في الوسط الجغرافي يحتاج إلى ملايين السنين، بينما تكفي بضع مئات السنين أو حوالي ألفي سنة لحدوث تغيرات هامة جداً في نظام الناس الاجتماعي "، وهنا قد نتفق معه جزئياً، مع التحفظ على اتخاذ الوضع الأوروبي كمعيار، ولكن في كل الأحوال ثمة عوامل أخرى ربما تؤدي إلى تغيرات جغرافية وبالتالي تؤثر تماماً على النشاط الاقتصادي وربما على مصير المجتمعات ذاتها .

   في رسالته لكارل ماركس، المؤرخة 6 يونيو (حزيران) 1853 انتبه فريدريك انجلز لهذه القضية، في تعليقه على خراب الزراعة الهندية نتيجة إهمال البريطانيين : " أن مناطق كاملة كانت مزدهرة في يوم من الأيام بارت في الوقت الحاضر وذهبت سدى (تدمر والبتراء وخرائب اليمن ومناطق من مصر وإيران وهندستان) . وإنها تفسر حقيقة أن حرباً مدمرة واحدة يمكن أن تقفر بلداً من السكان لعدة قرون وتجرده من حضارته بمجموعها "[11].

   إن ما يقوله انجلز في هذا النص هو أن الأحداث السياسية قد تؤدي لتغيرات جغرافية مؤثرة على الأوضاع الاقتصادية واجتماعية، وربما كان الدليل الأبرز هو إشارة الجغرافي السكندري كلوديوس بطليموس الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، لبحيرة كبرى في وسط جزيرة العرب يعتمدون عليها في حياتهم، ومن المؤكد أن هذه البحيرة لم يكن لها وجود منذ الفترة التي سبقت ظهور الإسلام، وإن كنا لا نعرف سبب جفافها، وقد تكون الأحداث السياسية التي شهدتها الجزيرة العربية منذ القرن الثالث الميلادي وحتى ظهور الإسلام دور في هذا التخريب[12]، وهو ما يمكن أن يقال كذلك حول منطقة وبار بالدهناء، والتي كانت حتى القرن الثاني الميلادي وربما بعده كذلك من المناطق المشهورة بالخصب، ولكنها تحولت لمناطق صحراوية في الفترة السابقة على الإسلام[13] .

   لقد نظر ستالين إلى التغيرات الطبيعية دون أن يضع في اعتباره العامل البشري الذي يمكنه في بعض الأحيان المبادرة بهذه التغيرات المؤثرة عبر الحروب والتخريب، وإن كنت اتفق معه بشكل عام في بطيء التحول الجغرافي الطبيعي لكن من الضروري الوضع في الاعتبار دور المساهمة البشرية والتي، كما يقول انجلز، قد تؤدي لتحولات مهمة وسريعة لها تأثيرها الضخم لاحقاً .

أحمد صبري السيد علي

المنصورة

6 فبراير 2022



[1] فريدريك انجلز . مراسلات ماركس وانجلز . ترجمة / فؤاد أيوب دار دمشق للطباعة والنشر . الطبعة الأولى . دمشق 1981 . ص495 .

[2] م . س . ص 86 .

[3] ستالين . المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية . بدون ذكر المرتجم . طبعة دار دمشق للطباعة والنشر . دمشق (بدون ذكر سنة الطبع) . ص 64، 65 .

[4] م . س . ص 65، 66 .

[5] جمال حمدان . شخصية مصر . دراسة في عبقرية المكان . طبعة دار الهلال . القاهرة 1994 . ج2 ص 461، 463 .

[6] م . س . ج2 ص 469 .

[7] م . س . ج2 ص 538 .

[8] م . س . ج2 ص 538 .

[9] م . س . ج2 ص 540 .

[10] م . س . ج2 ص 543 .

[11] فريدريك انجلز . مراسلات ماركس وانجلز . م . س . ص 86 .

[12] مؤنس بخاري . اكتشاف أكبر بحيرة مائية في اليمن والجزيرة العربية . دراسة بموقع نيوز لاين https://www.newsline-ye.com . منشور بتاريخ 3/8/2021 . شوهد بتاريخ 6/2/2022 . متاح من الرابط : https://www.newsline-ye.com/news36149.html . من الضروري الإشارة إلى أن بعض الباحثين يؤكد أن الموقع الصحيح لهذه البحيرة هو اليمن وليس وسط الجزيرة .

[13] جواد علي . المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . نشر جامعة بغداد . الطبعة الثانية . بغداد 1993 . ج1 ص 151 .

هناك تعليقان (2):

Arabi Bin Adam يقول...

متميز كالعادة … كلما قرأت لستالين كلما تأكد أنه أكثر ما ينقصه هو الديالكتيك كما وصف انجلز من قبل أولئك اللذين لا يعظمون من الجانب الاقتصادي على كل العوامل الآخرى دون النظر في العلاقات الجدلية بين المادة والفكر

أحمد صبري السيد علي يقول...

تسلم وتعيش يا رب .
ممكن توضحلي رأيك اكتر بخصوص ستالين