الثلاثاء، 29 سبتمبر 2020

التنظيم السري لجماعة إخوان الصفا

التنظيم السري لجماعة إخوان الصفا

 

   قام إخوان الصفا بتأسيس جهاز سري دعوي لتحقيق أغراضهم الدينية والسياسية، ولم يتحدث الإخوان بالتفصيل عن درجات الدعوة التي اشتهرت بها التنظيمات الباطنية بسبب مرحلة السرية التي كانوا يمرون بها، وإن كانوا قد أوردوا بعض المعلومات في الرسائل عن تنظيمهم السري، جاءت في إطار مناقشات مع رؤساء دعاتهم حول طبيعة وخصائص الدعوة، ورؤيتهم لطرق إعداد الدعاة، وكيفية اجتذاب المستجيبين، للكيفية التي تدار بها فروعها البعيدة عن القيادة الأساسية وأسلوب تربية واستخدام العناصر المنتمية للجماعة .

 

   الدعوة :

   توجد عدة نصوص بالرسائل اشتملت على تعليمات أصدرها الإخوان لدعاتهم في الأقاليم، حملت بعض مميزات الأسلوب الدعوي الذي اتبعه إخوان الصفا والذي تميزت به الحركات الباطنية الشيعية التي ظهرت قبل تكون الإسماعيلية في أواخر القرن الثاني الهجري، كالالتزام المتشدد بالسرية في طرح العلوم الباطنية، والتدرج في طرح العقائد على المدعو . 

   ويحمل هذا النص عدة توجيهات أرسلها إخوان الصفا إلى دعاتهم تشدد على أهمية مراعاة السرية في الدعوة وعدم إظهار العلوم الباطنية للجماعة أمام غير المنتمين إليها :

” ينبغي إخواننا، أيدهم الله، حيث كانوا من البلاد، أن يكون لهم مجلس خاص يجتمعون فيه في أوقات معلومة، لا يداخلهم فيه غيرهم، يتذاكرون فيه علومهم، ويتحاورون فيه أسرارهم”(1) .

   ويبدو أن ما يقصده الإخوان من عبارة " ويتحاورون فيه أسرارهم "، ليس الإشارة إلى العلوم الباطنية السرية، وإنما إلى ما يناقشة رؤساء الدعوة من نشاطاتها الدعوية وتحركاتها السياسية والعسكرية، خاصة مع استخدامهم لكلمة " يتحاورون " التي لا تبدو متناسقة مع الغرض العلمي الظاهري من العبارة .

   كما يوضح هذا النص، وجود مجلسين من مجالس الدعوة، الأول عام يشترك فيه أبناء الطوائف الأخرى المخالفة لإخوان الصفا في المعتقد، والثاني خاص لا يحضره سوى أبناء الدعوة . هذا التقسيم لمجالس الدعوة يشير إلى وجود تقسيم للأغراض والأفكار المطروحة في المجلسين، فمن المؤكد أن المجلس العام لم تكن تثار فيه أي أفكار مذهبية أو سياسية واضحة تماماً، ويبدو أن دعاة الجماعة كانوا يستغلونه في توجيه انتقادات خفيفة للأوضاع السياسية، والاقتصادية، وتأثيراتهما على الوضع الاجتماعي، والقيام بنوع من تشكيك المدعو في عقائده الأصلية، ثم القيام بتلقينه لاعتقادات الجماعة عن طريق التدرج مراعاة للاختلافات الطبيعة بين المتلقين للدعوة، سواء في نطاق الانتماء المذهبي والطبقي، أو في درجة الوعي والقدرة على التلقي، أو في سرعة التقبل للعقائد المطروحة :

” واعلم يا أخي أن الأنبياء يستعملون في خطابهم الناس ألفاظاً مشتركة المعاني، لكيما يفهم كل إنسان بحسب ما يحتمل عقله، لأن المستمعين لألفاظهم وقراء تنزيلات كتبهم متفاوتون في درجات عقولهم : فمنهم الخاص، ومنهم العام، ومنهم بين ذلك، فالعامة يفهمون من تلك الألفاظ معاني، والخاصة يفهمون معاني أخرى أدق وألطف . وفي ذلك صلاحٌ للجميع، لأنه قد قيل في الحكمة " كلموا الناس على قدر عقولهم" ”

” وأما نحن فقد بذلنا مجهودنا في هداية الضالين وإرشاد التائهين وتنبيه الغافلين، وخاطبنا كل قوم وصنفٍ منهم بما هو أصلح له أن نخاطبهم به في رسائلنا”(2) .

   أما المجلس الخاص، فيشمل المستجيبين الذين تلقوا العقائد الأساسية للجماعة وحصلوا على ثقة الدعاة، وقد ذكر إخوان الصفا الخطبة التي تتلى على المستجيب المستحدث، وهي تشمل الكثير من حقائق أهداف الجماعة العقائديـة أو السياسـية،حيث يصبح المستجيب، بناء على اجتيازه للمراحل السابقة، مؤهلاً لتقبل هذه الأهداف .

   ويمكن التخمين _ بناء على النصين السابقين لإخوان الصفا _ أن هذان المجلسان ينقسمان في داخلهما إلى مستويات متفاوتة، تعتمد على العناصر السالفة، فالمدعو المنتمي إلى إحدى الفرق الشيعية أو المنتمي إلى طبقة النخبة والتي اهتمت بدراسة الفلسفة، سوف يستغرق مرحلة أقل من المدعو المنتمي إلى مذاهب أخرى ترفض الأساسيات التي يعتمد عليها الإخوان في صياغة عقيدتهم، ومن المرجح أن المجلس الأول كان يضم طلاب متبايني الانتماءات المذهبية والطبقية مما يجعل من المستبعد جمعهم في مجلس واحد في حين تختلف الطريقة المستخدمة في دعوة كل مجموعة من هذه الانتماءات، وثمة أدلة تؤكد وجود هذا التنوع، فقد أشارت الرسائل إلى قيام إخوان الصفا بتقسيم المجتمع إلى طبقات اجتماعية، وتنوعات مذهبية وعلمية، وقد التزم إخوان الصفا بمخاطبة كل من هذه الانتماءات على حده وبأسلوب مختلف(3) .

   الدعاة :

قسم إخوان الصفا دعاتهم إلى درجات، وإن كانوا لم يشيروا إلى أي منها صراحة بالرسائل _ وهو تصرف متوقع من حركة سرية _، إلا أن بعض نصوصهم ذكرتها ضمنياً، وهي تبدأ بدرجة الحجة التي لا يصل إليها إلا إثنى عشر رجلاً يبدو أنهم رؤساء الدعوة وممثلوا الإمام في الأقاليم، حيث وصفتهم الرسائل بمساعدي الناطق ومبلغي رسالته :

إن العلم موجود، قائم بسبعة أشخاص فاضلة، كائنة في سبعة أوقات، يظهر مع كل واحد منهم، إذا ظهر في زمانه، أقام لإبلاغ رسالته، وبيان موعظته، وتعليم آياته وصفات معجزاته إثنى عشر رجلاً من أجلة أصحابه، وأقاربه، وأهل بيته، ليبلغوا عنه ما أرسل به إلى أمته  (يقصد الحجج)، ويعينوه في إظهار دعوته”(4) .

   ويمكن الاستنتاج أن إخوان الصفا قد قسموا العالم إلى إثنى عشر جزيرة تقابل الإثنى عشر حجة، وهم بذلك يلتزمون بالتقاليد التنظيمية للحركات الباطنية خاصة المباركية(5) . ومن البديهي أن يلي الحجة مجموعات من الدعاة المكلفين بمساعدته في نشر الدعوة بالبلاد المكونة للجزيرة، وقد أشارت الرسائل أن معيار الثروة والانتماء الطبقي هو الأساس في تقسيم  المجموعات البشرية التي يقوم الداعي بالعمل في أوساطها :

” واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس . وقد ندبنا لكل طائفة منها أحداً من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه، لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم، وليكون عوناً لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله سبحانه، وإلى ما جاءت به أنبياؤه، وما أشارت إليه أولياؤه من التنزيل والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعاً”(6) .

   ويبدو أن الفرق الشيعية عامة والإثنى عشرية على وجه الخصوص، بالإضافة إلى طلاب الفلسفة قد تم استثنائهم من هذا التقسيم الطبقي ربما لإدراك إخوان الصفا أنهم يمثلون القاعدة الأساسية للمستجيبين وتخصيص دعاة للعمل في أوساطهم، وقد ظهر مدى تعويل إخوان الصفا على هاتين الطائفتين بالذات من خطابهم لكل منهما خطاباً خاصاً في الرسالة الـ 48 من رسائلهم(7) .

   ومن الملاحظ أن الإخوان قد استخدموا كلمتين للتعبير عن أتباعهم  (إخوان، وأصدقاء) ويبدو أن المقصود من الكلمتين مختلف، فقد استخدم إخوان الصفا كلمة " إخوان " للتعبير عن المستجيبين فعلاً للدعوة منذ فترة أطول نسبياً من المستجيبين المستحدثين ” واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم مـتفرقين في البـلاد“ في بعض الأحيان، واستخدمت في أحيان أخرى للدلالة على الدعاة ” وقد ندبنا لكل طائفة منها أحداً من إخواننا ممن ارتضيناه في بصيرته ومعارفه، لينوب عنا في خدمتهم بإلقاء النصيحة إليهم بالرفق والرحمة والشفقة عليهم، وليكون عوناً لإخوانه بالدعاء لهم إلى الله سبحانه، وإلى ما جاءت به أنبياؤه، وما أشارت إليه أولياؤه من التنزيل والتأويل لإصلاح أمر الدين والدنيا جميعاً ”.  كما استخدمت للتدليل على الشخص المستهدف للدعوة :

   ” ينبغي لك، إذا أردت أن تتخذ صديقاً أو أخاً، أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير”(8) .

   واستخدموا كلمة " أصدقاء " في نفس الغرض السابق، وفي بعض الأحيان للتدليل على المستجيبين الأحدث زمنياً في مجالس الدعوة :

   ” وهكذا ينبغي لإخواننا إذا وجدوا صديقاً بهذا الوصف، ينبغي لهم أن يغتنوا ذلك ويعرفوا إخوانهم  الباقين”(9) .

   ومن الممكن الاستنتاج أن استخدامهم للكلمتين كان عاماً، إلا أنه في أحيان أخرى كان يحمل معاني خاصة تشير إلى درجات تراتبية في الدعوة، فالأخ هو الداعي المكلف بالعمل في أوساط طبقة أو طائفة معينة، وهو أقل من درجة الحجة، أما الصديق فهو المستجيب الذي قضى فترة زمنية كبيرة في مجالس الدعوة .

   ويبدو من نص الإخوان ” واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد“ أن كل مجموعة من الدعاة بين الطبقات والطوائف الشيعية وطلاب الفلسفة في مدينة واحدة كانوا يشكلون تنظيماً يخضع بالطبع لرئاسة الداعي الأكثر علماً أو الأقدم في مجال الدعوة، ويخضع هذا الداعي بدوره لرئاسة حجة الجزيرة مباشرة .

   وتوضح رسائل الإخوان أن الاتصال بهم ومعرفة شخوصهم لم يكن متاحاً للجميع، بما فيهم الدعاة، ويبدو أنه كان حكراً على درجة الحجج الإثنىعشر :

” وأما هذه الرسالة (الرسالة الخمسون) فقد وسمناها بالسياسة والرياسة لتحمل نفسك على موجبها وتقرأها على من يخصك من إخواننا الكرام _ رحمهم الله _ وتذاكرهم في أوقات نشاطك ونشاطهم فإنك لا تخلو من فوائدها ....

فلما وصلت أيها الأخ السعيد إلينا، واطلعت علينا، وامتحناك بحيث نراك كما يمتحن مثلك ممن يصل إلينا ويرد علينا، فرأيناك صابراً نعم العبد لله عز وجل، ....فرأيناك وكان بالله توفيقنا بما رأيناه بإلهامٍ منه لنا ووحي إلينا في رؤيا صادقة أراناها بمنه أن نجعلك داعياً إلينا، ودالاً علينا، ومبشراً بظهور أمرنا وانكشاف سرنا من رأيته من إخواننا وأهل ملتنا، إذ كانوا لا يقدرون على ما قدرت عليه”(10) .

    يبدو النص كوثيقة تعيين لأحد الحجج، فالمهمات التي كلف بها هذا الداعي هي خاصة بالحجج الإثنىعشر المساعدين للناطق والإمام حسب قول إخوان الصفا ” إن العلم موجود، قائم بسبعة أشخاص فاضلة، كائنة في سبعة أوقات، يظهر مع كل واحد منهم، إذا ظهر في زمانه، أقام لإبلاغ رسالته، وبيان موعظته، وتعليم آياته وصفات معجزاته إثنى عشر رجلاً من أجلة أصحابه، وأقاربه، وأهل بيته، ليبلغوا عنه ما أرسل به إلى أمته( يقصد الحجج)، ويعينوه في إظهار دعوته”، والفقرة الأولى من النص أكثر توضيحاً للتراتبية الدعوية في تنظيم إخوان الصفا، فعبارةلتحمل نفسك على موجبها وتقرأها على من يخصك من إخواننا الكرام”، تشير إلى الدعاة التابعين لهذا الحجة الحديث التعيين . كما يدلل النص على الصعوبات التي كانت تقابل الدعاة المرشحين للترقية إلى درجة الحجة، والذين سيملكون خصوصية الاتصال بقيادة الدعوة مباشرة . ومن الممكن أن تكون عبارة ” وامتحناك بحيث نراك كما يمتحن مثلك ممن يصل إلينا ويرد علينا” دالة على وجود جهاز أمني خاص بالتنظيم مخصص لمراقبة ممارسات الحجج وكبار الدعاة وتقديم تقارير خاصة بالدعاة المرشحين لتولي منصب الحجة إلى قيادة الجماعة، تحسباً لأي محاولة لاختراق التنظيم من قبل السلطة العباسية .

   وقد اعتقد إخوان الصفا أن الداعي لابد أن يكون ملماً ببعض العلوم التي تساعده في عرض عقائده وأفكاره بطريقة صحيحه وتشكيك المستهدفين للدعوة في صحة عقائدهم القديمة ثم إقناعهم بعقائد إخوان الصفا :

” وينبغي أن تكون مذاكرتهم أكثرها في علم النفس، والحس والمحسوس، والعقل والمعقول، والنظر والبحث عن أسرار الكتب الإلهية، والتنزيلات النبوية، ومعاني ما تضمنها موضوعات الشريعة وينبغي أيضاً أن يتذاكروا العلوم الرياضيات الأربـعة، أعني العـدد والهندسة والتنجيم والتأليف . وأما أكثر عنايتهم وقصدهم فينبغي أن يكون البحث عن العلوم الإلهية التي هي الغرض الأقصى”(11) .

   ومن الممكن الاستنتاج أن هذه العلوم كانت تلقى على الدعاة بالتدريج حسب الأهمية المباشرة، وحسب ترتيب إخوان الصفا فإن العلوم الأربعة الأولى هي الأكثر أهمية بالنسبة للداعي، وفي المرحلة الثانية يتم تدريس العلوم الرياضية الأربعة، مع تقسيم العلوم الإلهية وأسرارها إتقان هذه العلوم كان هو المعيار في ارتقاء الداعي إلى الدرجة التالية لدرجته في مراتب الدعوة .

   

   المستهدفون للدعوة

   قسم إخوان الصفا المستهدفين للدعوة إلى خمس طبقات : الأولى : طبقة الملوك والأمراء والوزراء والعمال والكتاب، وهي الطبقة الأرستقراطية الإقطاعية الحاكمة ؛ والثانية : طبقة الأشراف والدهاقين والتجار والتناء ؛ والثالثة : العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، والرابعة : الصناع والمتصرفين وأمناء الناس(12) ؛ والخامسة : الفقراء وأهل البلوى(13) ؛ واعتبر الإخوان أن طلاب الفلسفة والفرق الشيعية أحد المستهدفين للدعوة بالإضافة إلى هذه الطبقات الاجتماعية، ومن الواضح أن الشيعة المقصودين هم الكوادر الحركية والمتعلمة بالذات القابلين لتفهم الفكر الفلسفي للإخوان والقادرين على قيادة الجماهير المنتمية للمذهب .

   وقد وضع الإخوان تصوراً، أخلاقياً وعقائدياً، لتحديد الشخص الصالح لاعتناق الدعوة والانخراط في تنظيمها السري لخدمة أهداف الجماعة .

   ينصح إخوان الصفا الدعاة بالتشدد في اختيار من يستهدفون دعوتهم إلى أهداف الجماعة :

” واعلم أن الخطب في اتخاذ الإخوان أجل وأعظم خطراً من هذه كلها لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدين والدنيا جميعاً، وهم أعز من الكبريت الأحمر وإذا وجدت منهم واحداً فتمسك به، فإنه قرة العين، ونعيم الدنيا، وسعادة الآخرة، لأن إخوان الصدق نصرة على دفع الأعداء، وزين عند الأخلاء، وأركان يعتمد عليهم عند الشدائد والبلوى”(14) .

   ولذلك فهم يرون ضرورة أن يتحرى أحوال الشخص الذي يريد ضمه إلى الدعوة :

” ينبغي لإخواننا _ أيدهم الله _ حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقاً مجدداً، أو أخاً أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره، ويجرب أخلاقه، ويسأل عن مذهبه واعتقاده، ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أم لا”(15) .

   يحذر إخوان الصفا دعاتهم من استهداف هذه مجموعات من الناس لن تخدم أهداف الدعوة :

” فإذا رأيت الرجل معجباً صلفاً، أو نكداً لجوجاً، أو فظاً غليظاً، أو مماحكاً ممارياً، أو حسوداً حقوداً، أو منافقاً مرائياً، أو بخيلاً شحيحاً، أو جباناً مهيناً، أو مكاراً غدراً، أو متكبراً جباراً، أو حريصاً شرهاً، أو كان محباً للمدح والثناء أكثر مما يستحق، أو كان مزرياً لنظرائه، أو كان مستحقراً لأقرانه والناس، ذاماً لهم، أو متكلاً حوله وقوته، فاعلم أنه لا يصلح للصداقة وصفوة الأخوة، لأن هذه الأخلاق والآراء والعادات مفسدة لاعتقاده لإخوانه : وذلك إن من يختر المطالبة بما لا يجب له، لا تسمح نفسه ببذل ما يجب عليه”(16) .

   حيث اعتبر الإخوان أن اتصاف المدعو بهذه الأخلاقيات لن تمكنه من الاقتناع بما يريده الداعي . وتجعل من محاولاته لجذبه إلى الجماعة نوعاً من العبث :

” وهكذا الحسود واللجوج والغضوب تمنعه هذه الأخلاق عن الإذعان للحق، وهكذا اللجاج والتكبر يمنعان عن قطـع الجدال والخلاف، وكذلك الفظاظة والغلظة تمنعان من العذوبة والسهولة، والشراسة والغضب يهيجان على المكابرة . وبالجملة كل هذه الأخلاق مفسدة للمودة، ومخالفة لصفو الأخوة”(17) .

   كما حذر الإخوان دعاتهم من محاولة استهداف أصحاب بعض المعتقدات المنغلقة :

” واعلم أن في الناموس أقواماً يتشبهون بأهل العلم ويتدلسون بأهل الدين، لا الفلسفة يعرفونها، ولا الشريعة يحققونها، ويدعون مع هذا معرفة حقائق الأشياء، ويتعاطون النظر في خفيات الأمور الغامضة البعيدة، وهم لا يعرفون أنفسهم التي هي أقرب الأشياء إليهم، ولا يميزون الأمور الجلية، و لا يتفكرون في الموجودات الظاهرة المدركة بالحواس المشهورة في العقول، .... أعاذنا الله وإياك، أيها الأخ، ممن فيه هذه الصفات الذميمة، ومن شرهم فإنهم أعداء فاحذرهم”(18) .

   وعقب نجاح الداعي في اجتذاب الشخص المستهدف، وحضوره   _ أي المدعو _ لأول مجلس دعوي عام للمستجيبين تقرأ عليه خطبة توضح تماماً الهدف السياسي لهذا التنظيم :

” اعلموا أيها الإخوان، أيدكم الله وأيانا بروح منه، وهداكم للحق، وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير، وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر، وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من غرور الشيطان، ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان إنه ودود منان .

واعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، وإذا بلغت إلى أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، وأستأنف في الأخرى القوة والنشاط والظهور والانبساط، وجعل كل يوم يقوي هذا ويزيد ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم ويتمكن الحادث المتأخر .

.... فهكذا حكم أهل الزمان في دولة الخير ودولة الشر : فتارة تكون القوة والدولة وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة تكون القوة والدولة وظهور الأفعال لأهل الشر، كما ذكر الله، جل ثناؤه : " وتلك الأيام نداولها بين الناس " الآية .

وقد ترون أيها الإخوان، أيدكم الله وإيانا بروح منه، أنه قد تناهت قوة أهل الشر وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط والنقصان”(19) .

   وقد شملت الخطبة توجيهات تنظيمية من إخوان الصفا للمستجيبين عن الشروط التي يجب توافرها فيهم حتى ينجح تنظيمهم في إقامة دولتهم :

” واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام فضلاء يجتمعون في بلد ويتفقون على رأي واحد ودين واحد ومذهب واحد ؛ ويعتقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم وفيما يقصدون من نصرة الدين وطلب الآخرة، لا يعتقدون سوى رحمة الله ورضوانه عوضاً .

فأبشروا أيها الإخوان بما أخبرناكم، وثقوا بالله في نصرته لكم، إذا بذلتم مجهودكم، كما وعد الله تعالى : " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "”(20) .

   إن هذه الخطبة تبين أن المستهدفين لدعوة إخوان الصفا كانوا يلقنون في البداية الأهداف السياسية العامة لهذه المجالس التعليمية، إلا أن المراحل التالية كانت تشهد إطلاع بعضهم على الأسرار التنظيمية بالتدريج، ويبدو أن ثمة عهد كان يؤخذ على المستجيب قبل انخراطه في الجماعة كما تدلل هذه العبارة ” ويعتقدون بينهم عهداً وميثاقاً”، رغم أنه لم يرد نص لهذا العهد في الرسائل إلا أن الواضح أن هذا العهد كان يؤخذ على المستجيب قبل مع حضوره لأول مجلس كمستجيب لدعوة الجماعة .

   وقد وضع الإخوان منهجية في تلقين المستجيبين الجدد لأفكارهم وعقائدهم، وفي مرحلة لاحقة برنامجهم السياسي، واعتمدت هذه المنهجية على إثارة فضول المستجيب عن طريق قراءة الأجزاء الأولى من الرسائل، ثم محاورة المستجيب في محتوى الأجزاء التي ألقيت أمامه دون إعطائه إجابات حاسمة(21)، وقد اعتبروا أن إثارة الفضول والتشويق يدفع المستجيب إلى الحرص على الاطلاع والانخراط في نشاطات الجماعة :

” ليكون تحريضاً لإخواننا على التمهر فيه والشوق إليه، لأن بالشوق إلى الشيء يكون الحرص على الاطلاع عليه  والمعرفة به”(22) .

   وتعتمد المرحلة لتالية في إطلاع المستجيب على قيام الداعي بتهذيب نفسه _ المستجيب _ وترويضها وتطهير أخلاقه، ومن ثم إطلاعه على الأسرار الحكمية مع الاحتفاظ بالنمط التدريجي(23)، ومن ناحية أخرى فقد استخدم الإخوان أسلوب عقد مجالس منتظمة للدعوة وتلاوة الرسائل ومؤلفاتهم الأخرى على المستجيبين والتواصل معهم في الإجابة على تساؤلاتهم العقائدية والفلسفية(24)، في ربط المستجيب بالدعوة، فكرياً ثم سياسياً كمرحلة لاحقة، وسرعة تحصيله وتلقيه لأفكارهم وعقائدهم، تمهيداً لإدماجه في نشاطاتها .   

 

   إدارة التنظيم :

   احتوت نصوص إخوان الصفا على بعض التفصيلات الخاصة بإدارة تنظيمهم، ولابد من التفرقة في هذه الجزئية بين التنظيم الأمني، المكلف بمهام مراقبة ورصد عمل التنظيم، والذي كان يحوي العناصر ذات الكفاءة الخاصة في الجماعة وأصحاب المناصب الهامة في الدولة العباسية المنتمين سراً إلى الجماعة(25)، وبين التنظيم السري العادي والذي كان يدار بدرجة من السرية أقل من نظيره السياسي ؛ رغم أن النوعين كانا يخضعان لقيادة واحدة(&)(26) .

   وتدلل الرموز التي استخدمها إخوان الصفا في مرسوم تعيينهم لأحد هؤلاء الحجج، أن ارتقاء الداعي إلى درجة الحجة يتوقف على تطوره في هذا التنظيم من الناحية الحركية إضافة للتعليمية في آن :

” وسلوكك في طريق وعر، وارتقاءك على جبال يصعب على غيرك طلوعها، وهبوطك في أودية لا يسهل على غيرك الهبوط فيها، فكنت ما بين جبل ترتقيه، ووحش مهلك تتقيه، ومهمه داثر شاسع تخشى أن تضل فيه”(27) .

   وقد استخدم الحجج أسلوب التمويه في إدارتهم للدعوة، حيث أصدر إخوان الصفاء بعض الأوامر التنظيمية لحججهم بالحرص على سرية موقع إقامتهم وإظهار الزهد والفقر والمجاهدة الروحية، وعدم إظهار أي قدر من العلم أو العمل بالأمور الفقهية والشرعية :

” وقد اخترنا لمقامك موضعاً تسكن فيه وتأوي إليه لا تصل فيه إليك أيدي الظالمين ....

فإذا أنت وقفت على ما نلقيه إليك في هذا الفصل فاعتمد عليه واسكن إليه، فإذا صرت إلى حيث كنت قبل وصولك إلى حيث وصلت، فابن لك داراً من القناعة، وشيد بنيانها وارفع حيطانها واجعل بابها من الزهادة، واجعل حاجبك عليها الفقر، واجعل وطاءك وغطاءك ترك القنية إلا ما تسد به الجوع وتستر به العورة .

واعلم أن هذه الدار إذا سكنتها أمنت من قطاع الطريق واللصوص ومصادرة السلطان وحسد الإخوان، وقل جارك وبعد على الناس مزارك، فإذا بنيت هذه الدار على هذه الأركان فليكن مقامك فيها على وجل وخوف من التواني عن شيء من إقامة السياسية النفسانية، وأن تتغافل عن عمل الأعمال الناموسية، وليكن مقعدك في هذه الدار في صدرها بعد إحكامك جميع أمرها”(28) .

   تشير تحذيرات الإخوان إلى حرصهم على تأمين موقع إقامة الحجة وابتعاده عن أي وسيلة قد تستخدم في التجسس عليه ومراقبة تحركاته، عن طريق الزيارة أو الجيرة، مما يعني أن يكون محل إقامة الحجة منعزلاً بحيث يستخدم الزهد كحجة لتبرير هذا الانعزال، كما حذر إخوان الصفا الحجج من ممارسة الشعائر الناموسية كالصلاة أو الصيام حتى لا يكتشف أمر الحجة عن طريق اكتشاف طريقة أداءه لهذه الشعائر في حالة وجود أحد عملاء الدولة العباسية بين الدعاة(&).

   وتثير عبارة ” فإذا صرت إلى حيث كنت قبل وصولك إلى حيث وصلت” نوعاً من الفضول لغموض المعنى المراد من إيرادهـا، وقد يكون هذا التوجيه خاصاً بتوجه هذا الحجة لتولي مسؤولية الجزيرة التي تلقى فيها تدريباته قبل أن يصل إلى هذه الدرجة .

   وقد عالجت قيادة جماعة إخوان الصفا في سلمية مشكلة الاتصالات التي تتم بينها وبين فروع الدعوة الإثنىعشر، بالإضافة إلى الاتصالات التي تجري بصفة دورية بين الحجج ودعاتهم المنتشرين في المناطق وبين الطبقات الاجتماعية المختلفة، عن طريق استخدام شفرة سرية في كتابة الرسائل(29) :

” لما تحقق عندنا، وقام في وهمنا وتصورنا بأنفسنا، أنه لابد أن تقع رسالتنا في يد غير أهلها، أو من عساه يرفضها وينكرها بجهله، إذا خفيت عليه معانيها، وجب لنا وصلح علينا أن نخفي ما نريد أن نكشفه، ونستر ما أردنا أن نوضحه، بعلامات تنغلق معانيها، ويعتاص قفلها، ويتعسر مفاتحها، إلا على من هو أهلها، ومن استجاب إليهم، ورغب في صحبتهم من غيرهم، فليس يعسر عليه شيء من ذلك، ورأينا أن نكتب ما نريد أن لا يشرك إخواننا في الوقوف عليه غيرهم، بحروف ركبناها، وكلمات نظمناها(30) .

   واعتقد أن الشفرة التي أرفقها الإخوان مع هذا النص لم تكن معلومة سوى للحجة وقيادات الدعوة في كل جزيرة، حيث أنهم هم المعنيين بالمراسلة مع القيادة سواء في الجزيرة أو في سلمية .

بالنسبة للجهاز الأمني فيبدو أنه كانت له فروع في كل جزيرة تخضع للقيادة المباشرة من الحجة، وربما كان حرص إخوان الصفا على سرية موقع حججهم لهذا السبب ؛ إن المهمة الأساسية للجهاز الأمني الخاص بالحجة هو حمايته عن طريق مراقبة تصرفات الدعاة والاطلاع على أدق أسرارهم، إضافة لمراقبة المستجيبين المنخرطين في الجماعة، وبالتأكيد فإن أعضاء هذا الجهاز لم يكونوا معروفين داخل التنظيم إلا للحجة :

” اعـلم أيها الأخ أن سياسية الأصحاب لا تكون إلا بعد المعرفة بهم والاطلاع عليهم ومعرفة أحوالهم، أن لا يخفى عليك من أمرهم صغيرة ولا كبيرة، لتسوس كل واحد منهم السياسية التي تليق به ديناً ودنيا .. واحرص أن تباعد بين معرفتهم بك وبينهم لئلا يطلعوا عليك كما اطلعت عليهم، فيأتوك من حيث أمنت، لأنه ليس كل من يصاحبك يحق لك أن تثق به، ولا تطمئن إليه لأن كثيراً ممن يصحب الأنبياء إنما تكون صحبتهم لهم لوقوع الحيلة بهم، ومرادهم منهم الإطلاع على أسرارهم ليكشفوها ويظهروها لمن لا يعرفها وهم المنافقون”(31) .

   أما كيفية التعامل بين الحجة والدعاة وبين هؤلاء والمستجيبين داخل التنظيم السري، فتنقسم إلى قسمين الأول : التعامل المباشر مع الدعاة المتصلين بالحجة، وقد تناولها الإخوان في نصوص خاصة :

” فيجب أن تظهر لهم القرب بالبعد، واللين بالغلظة، والأنس بالوحشة، والكرم بالشح، والانبساط بالانقباض، والرحمة بالسخط، والوعد على الجميل، والوعيد على الذنب، وقبول التوبة باللين، والموعظة بإلقاء العلم إليهم بمقدار ما يحتملونه وبحسب ما يستوجبونه”(32) .

   وهي توجيهات تنسجم مع تشددهم السابق في تأمين شخوص حججهم، كما يبدو أن هذه التوجيهات عامة لكل من يتولى موقعاً قيادياً في تنظيمات الجزر من الحجج أو الدعاة .

   وقد ورد في الرسائل عدة توجيهات أخرى للحجج وقيادات الخلايا الطبقية والمذهبية من الدعاة، حول طرق عمل التنظيم، ففي الرسالة الجامعة يوجه إخوان الصفا دعاتهم إلى ضرورة أن الاجتماع بالمستجيبين له مرة كل إثنىعشر يوماً، في مكان آمن(33)، وبالتأكيد أن هذا المكان سوف يكون في منطقة خالية خارج التجمعات السكانية المعادية لهم، كما يمكن الاستنتاج بوجود مراقبة لهذا المكان طوال الإثنىعشر يوماً السابقة على الاجتماع لمعرفة حجم المترددين عليه، وأيضاً وجود مراقبة شاملة لعناصر أمنية من الجماعة لهذا المكان طوال فترة الاجتماع، تفادياً لحدوث هجوم مفاجئ من السلطة ضد المجتمعين .

   وقد شددت هذه التوجيهات على ضرورة حضور كافة المستجيبين، وعدم التخلف عن هذا الاجتماع إلا لعذر خارج عن السيطرة، كما شددت على ضرورة قيام قائد الخلية بإجراء امتحان قاس العناصر المستجيبة الحاضرة للاجتماع(34)، ولم يوضح النص المقصود بالامتحان، ولكنه بالتأكيد خاص باختبار مدى ولاء المستجيب للجماعة، ويبدو أن جدول أعمال هذا الاجتماع كان يشمل تناول العلوم الخاصة بالجماعة، إضافة لمناقشة وضع الخلية في المنطقة، والتكليفات الدعوية والسياسية، بالإضافة إلى التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للمستجيبين .

   القسم الثاني : التعامل الغير مباشر مع الدعاة والمستجيبين . وهو خاص برعاية المشاكل الاقتصادية والاجتماعية للدعاة والمستجيبين، ومشكلتي الفقر والجهل على وجه الخصوص .

   يؤكد إخوان الصفا على ضرورة القضاء على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية لأفراد الجماعة من أجل رفع مستوى استيعابهم للعلوم الباطنية وأدائهم للمهمات السياسية التي يكلفون بها :

” فإذا عرفت منهم أحداً وآنست منهم رشداً عرفنا حاله وما هو بسبيله من أمر دنياه وطلب معايشه وتصرفه في حالاته لكي نعرف ذلك ونعاونه على ما يليق به من المعاونة، فإن كان ممن يخدم السلاطين ويتصرف في أعمالهم، أوصينا إخواننا ممن يكون بحضرة السلاطين والملوك بالنيابة عنه والنصيحة له وحسن الرأي فيه لدى الملوك والسلاطين والوزراء . وإن كان من أبناء التناء والدهاقين والأشراف وأرباب الضياع، أوصينا إخواننا ممن يتولى عمل السلطان بصيانته وحسن معاونته في ملته وكف الأذية عنه، وقبض أيدي الظالمين عن البسط إليه . وإن كان من أبناء أصحاب النعم وأرباب الأموال عاوناه بحسب ذلك . وإن كان من الفقراء المحتاجين واسيناه مما آتانا الله من فضله ....

واعلم أننا لا نستعين بأحد من إخواننا على أمر الدين قبل أن نبذل له من المعاونة على أمر الدنيا، فإن كان مستغنياً عن معاونتنا فذلك الذي نريد له، وإن كان محتاجاً إلينا فذلك الذي نريد منه، حتى إذا كفيناه ما يهمه من أمور دنياه، وأفرغ لنا قلبه وأجمع لنا رأيه واستغنى عن ذلك بقوة نفسه وتمييز عقله وصفاء جوهره ....”(35) .

   ويبدو أن قيادة الجماعة كانت على وعي بأهمية العامل الطبقي ومدى تأثيره في ولاء وحماسة أبناء الجماعة، وبالتالي فقد حاولت بناء مجتمع الأخوة داخل الجماعة حرصاً على عدم قيام نزاعات طبقية داخل التنظيم قد تهدد بتفتته :

” واعلم أنه ليس من جماعة يجتمعون على المعاونة في أمر من أمور الدين والدنيا أشد نصيحة بعضهم لبعض، ولا أحسن من معاملة إخوان الصفا . وذلك أن كل واحد منهم يرى ويعتقد أنه لا يتم له ما يريده من إعلاء إلا بمعاونة أخيه، وكل واحد منهم يريد ويحب لأخيه ما يحب ويريد لنفسه وكذلك يكره له ما يكره لنفسه”(36) .

   وبالتالي فقد فرض قادة الجماعة على أتباعهم الأثرياء المساهمة في مساعدة الفقراء :

” فينبغي لإخواننا، ممن رزق المال والعلم جميعاً، أن يؤدي شكر ما أنعم الله، جل وعز، به عليه بأن يضم إليه أخاً من إخـوانه ممن قد حرمهما الله جميعاً، ويواسيه من فضل ما آتاه الله تعالى من المال، ليقيم به حياة جسده في دار الدنيا، ويرفده ويعلمه من علمه لتحيا به نفسه في دار الآخرة”(37) .

   والواقع أن إخوان الصفا _ رغم إدراكهم لأهمية العامل الطبقي _ لم يكن من ضمن أولوياتهم القضاء تماماً على التمايز الطبقي فيما بين أعضاء الجماعة، وإنما كانوا حريصين على توفير نوع من التكافل الاجتماعي بين الأفراد حرصاً على تماسك جماعتهم مع عدم المساس بالتمايز الطبقي القائم بين طبقتي التجار والكادحين :

” وينبغي للأخ ذي المال أن لا يمن على الأخ ذي العلم بما يواسيه من ماله، ولا يحتقره لفقره، .... وينبغي للأخ ذي العلم والحكم أن لا يحسد أخاً ذا مال له”(38) .

 

   كيفية تربية كوادر الجماعة واستخدامها :

   وضع إخوان الصفا في رسائلهم تصوراً لكيفية تربية وتدريب وتنشأة كوادرهم واستخدامها، واعتقد أن هذا التصور مع كونه يمثل سياسة عامة للاستفادة من المستجيبين، إلا أنه خاص بأبناء المستجيبين، الذين استهدفت قيادة الجماعة تنشأتهم على أفكار وعقائد الجماعة وتدريبهم على أساليبها التنظيمية، في محاولة لتفريخ الكثير من الكوادر القادرة على تحقيق أهدافها .

   قسم إخوان الصفا عمر الإنسان إلى أربعة مراحل، وأوضحوا نوع التدريب الذي يجب أن يتلقاه في كل مرحلة عمرية حتى يصل في التنظيم إلى درجة الحجة ؛ تبدأ المرحلة الأولى من سن 15 _ 30 ويطلق على أبناء هذه المرحلة أسم الإخوان الأبرار الرحماء :

” واعلم أيها الأخ البار الرحيم أن قوة نفوس إخواننا في هذا الأمر الذي نشير إليه ونحث عليه على أربعة مراتب : أولها صفاء جوهر نفوسهم وجودة القبول وسرعة التصور .... وهي القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات، الواردة على القوة الناطقة بعد خمس عشرة سنة من مولد الجسد، .... وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأبرار الرحماء”(39) .

   في هذه المرحلة يبدأ الدعاة في تلقين الشباب العلوم التقليدية كعلوم القرآن والتشريع(40) بالإضافة إلى أفكارهم وعقائدهم المباشرة حول الموقف من آل البيت، وطبيعة وضعهم الإمامي في الإسلام، والمرويات النبوية المؤكدة لهذه الرؤية وتنشأتهم عليها، ومن الممكن أن يشمل دورهم تلقي تدريبات قتالية لاستخدامهم في القيام بعمليات عسكرية ؛ وتعد هذه المرحلة بمثابة التأسيس العام .

   المرحلة السنية الثانية تبدأ من سن 30 _ 40 والتي تشهد ارتقاء الشاب أولى درجات الدعوة حيث يتحول من متلقي إلى أستاذ للمرحلة الأصغر وتلميذ في مرحلته، كما يتولى قيادة إحدى المجموعات الفرعية التي يكلف بالدعوة في أوساطها ومن الممكن أن يكلف بمهمات عسكرية :

” وفوق هذه المرتبة مرتبة ذوي السياسة وهي مراعاة الإخوان وسخاء النفس وإعطاء الفيض بالشفقة والرحمة والتحنن على الإخوان، وهي القوة الحكمية الواردة على القوة العاقلة بعد ثلاثين سنة من مولد الجسد .... وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الأخيار الفضلاء”(41) .

   ويشير نص الإخوان أن المتعلم في تلك المرحلة يبدأ أولى خطواته في تلقي العلوم الخاصة بهم، بعد إتمامه بالعلوم والمعارف الرئيسية.

   المرحلة السنية الثالثة تبدأ من 40 _ 50  يتحول الداعي في هذه المرحلة إلى المواجهة الفكرية _ غير الظاهرة _ مع المخالفين ورياسة الدعوة في نطاق إحدى الطبقات، ومن المفروض أن يكون قد أتم دراسة الشريعة في تلك المرحلة، كما يكون منخرطاً في التنظيم السري حيث يتولى قيادة إحدى المجموعات الطبقية الرئيسية في الجزيرة :

” والمرتبة الثالثة فوق هذه وهي مرتبة الملوك ذوي السلطان والأمر والنهي والنصر والقيام بدفع العناد والخلاف، عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر، بالرفق واللطف والمداراة في إصلاحه، وهي القوة الناموسية الواردة على النفس بعد مولد الجسد بأربعين سنة، .... وهم الذين نسميهم في رسائلنا إخواننا الفضلاء الكرام”(42) .

   المرحلة الرابعة من 50 سنة إلى النهاية، وهي المرحلة الأخيرة حيث يتم ترقية الداعي إلى درجة الحجة التي يجمع فيها ما بين العلوم الشرعية والفلسفية، ويحظى بالتعرف على القيادة التنظيمية للجماعة عقب تزكيته من قبل الجهاز الأمني الأكبر للتنظيم والذي يتولى مراقبة ممارسات الحجج في الجزائر($) :  

” والرابعة فوق هذه وهي التي ندعو إليها إخواننا كلهم في أي مرتبة كانوا وهي التسليم وقبول التأييد ومشاهدة الحق عياناً وهي القوة الملكية الواردة بعد خمسين سنة من مولد الجسد”(43) .

   إن هذا الترتيب ربما يشير في شكله العام إلى درجات معينة للدعوة، ونوعيات الدراسة التي يتدرج فيها المستجيب حتى يصل إلى درجة الحجة، إلا أنه يؤكد امتلاك قيادة إخوان الصفا لرؤية طويلة المدى حول كيفية تفريخ قيادات وكوادر تمتلك قدرات علمية ومهارات تمكنها من مواجهة المخالفين والمعارضين لأفكارها .

 

       نتــــــــائـــــــج

لقد قامت جماعة الإخوان بتأسيس تنظيمها لأغراض سياسية، واتخذت التعليم ونشر أفكارها الفلسفية التنويرية كوسيلة وغطاء في آن لتحقيق هذه الأغراض، ويبدو ذلك واضحاً من إقامة دعاتها لمجلسين علميين، أحدهما علني والآخر سري  .

   تـميز هذا التنظيم بالتدرج في قيادته والتي تبدأ من الحجج الإثنى عشر الذين يتولون قيادة الدعوة في الإثنى عشرة جزيرة، حسب تقسيم الحركات الباطنية للعالم، مروراً بالدعاة الذين يتولون الدعوة في الأوساط الطبقية إضافة إلى الأوساط الشيعية وطلبة الفلسفة، ويندرج تحت هؤلاء دعاة أقل علماً للدعوة بين الطبقات المختلفة في المدن والقرى التابعة للجزيرة، وأخيراً يأتي المستجيبين في نهاية هذا التشكيل.

   إن تشكيل الدعاة على أساس طبقي تدليل على سبق الإخوان إلى إدراك أهمية عامل الصراع الطبقي في تشكيل التوجه السياسي _ وأحياناً العقائدي _ لدى الجمهور، وبالتالي فقد راهنوا على الاستفادة من هذا العامل بالإضافة إلى عوامل السخط الأخرى التي كانت منتشرة في الدولة العباسية، ومع ذلك فلم يبدو أنهم كانوا يضعون في خططهم أي نوع لإزالة التمييز الطبقي بين أتباعهم، وإنما كثفوا جهودهم لتحقيق أكبر قدر من التكافل الاجتماعي، وتقليل الفارق الواسع بين من يملك ومن لا يملك حرصاً على تماسك الجماعة وعدم انتقال الصراع الطبقي الذي يشهده المجتمع العباسي إلى أفرادها.

   إن تشكيل الدعوة بهذا الترتيب قد يثير بعض الشكوك حول العلاقة بين إخوان الصفا والإسماعيلية، بسبب اختلاف درجات الدعوة عند الإخوان عن درجات الدعوة لدى الإسماعيلية حسب ما هو مشهور في كتب الفرق التي تؤكد تكونها من سبع درجات، ثم أصبحت تسعاً بعد قيام الدولة الفاطمية .

   والواقع أن المصادر الفاطمية لم تشر إلى هذه الدرجات الدعوية المزعومة في كتب الفرق، بل أن الداعي المطلق علي بن الوليد أنكرها صراحة في رده " دامغ الباطل وحتف المناضل " على أبو حامد الغزالي :

” إن ذكر هذا المارق " الغزالي " لهذه المراتب التسع وتعداده لها، ممن لم يحكه أي من الفرق في تصنيف، ولا ذكره أحد من العلماء في وضع ولا تأليف”(44) .

   وإن كان التدرج في الدعوة تصرفاً طبيعياً . وقد كان المستشرق الروسي إيفانوف محقاً في رفضه لهذه الدرجات التي أوردتها كتب الفرق :

” لقد أحاط بحقيقة الدعوة الفاطمية كثير من الارتباك وسوء الفهم . ولأسباب ظاهرة، نرى الأمور المتعلقة بتنظيمها وعملها قد أخفيت، ولا يوجد في الأدب الفاطمي أية أخبار مفصلة عنها . وقد كان هذا الكتمان ذاته سبباً في أن رواة العصور الوسطى قد أطلقوا العنان لخيالهم، فهم يصفون مراتب الدعوة التي لم توجد قط، والتعاليم المتعلقة بكل منها، ويقولون لنا كيف أن الدعاة البارعين أو الرسل، كانوا يتقربون من المسلم المخلص، ويستدرجونه إلى الإلحاد، ثم ينتهون به إلى الكفر. والمدهش في ذلك هو أن كثير من الباحثين الغربيين قد صدقوا هذا القصص بإيمان ساذج”(45) .

   والواقع أن الطريقة التي نظم بها إخوان الصفا جماعتهم  تتشابه تماماً مع التنظيم الإسماعيلي، فقد قام الإسماعيليون الأوائل بتقسيم الأرض إلى إثنىعشر جزيرة بعدد الحجج الإثنى عشر(46)، ويتلوا كل حجة في الترتيب خمس دعاة متنوعي المهام، يبدؤون من مساعد الحجة حتى الداعي المأذون المحصور($) . ولا يوجد أي تعارض بين هذا الترتيب العشري للدعاة الإسماعيليين وبين طريقة التنظيم الطبقية التي اتبعها الإخوان _ حيث من الممكن أن تتواجد كل هذه الدرجات الدعوية، باستثناء الحجة، داخل التنظيم الطبقي الواحد _ رغم أن هذا الترتيب يضيف رتبة للدعاة تسبق رتبة الحجة وهي رتبة ” الباب”، والتي تلي رتبة الإمام، وهي رتبة لم يتحدث عنها الإخوان وإن كانوا لم ينكروا أيضاً تواجدها، وهو ما يستفاد من النص ” أقام لإبلاغ رسالته، وبيان موعظته، وتعليم آياته وصفات معجزاته إثنى عشر رجلاً من أجلة أصحابه، وأقاربه، وأهل بيته، ليبلغوا عنه ما أرسل به إلى أمته( يقصد الحجج)، ويعينوه في إظهار دعوته” حيث أشار فقط إلى وظيفة الحجج الإثنى عشر، مما يدع مجالاً للاعتقاد بوجود رتبة سرية أعلى ملاصقة وحاجبة للإمام المستور _ كما يشير أسمها _ وتكون مسئوليتها التعامل مع الحجج، وإدارة الدعوة .  

   

   هوامش

(1) إخوان الصفا _ الرسائل _ القاهرة 1996 _ جـ 4 ، صـ 41 .

(2) م . س _ جـ 4 ، صـ 122 ، 242 .

(3) م . س _ جـ 4 ، صـ 41 .

(4) أحمد بن عبد الله ـ الرسالة الجامعة . تحقيق/ مصطفى غالب ـ بيروت 1984. صـ 285 ، 286 .

(5) النوبختي _ فرق الشيعة _ ت/ هبة الدين الشهرستاني _ بيروت (بدون تاريخ) . من صـ 69 إلى صـ 75 .

(6) إخوان الصفا _ م . س _ جـ 4 ، صـ 165 .

(7) م . س _ جـ 4 ، من صـ 177 ، حتى صـ 181 , من صـ 195 حتى صـ 197 .

(8) م . س _ جـ 4 ، صـ 44 .

(9) م . س _ جـ 4 ، صـ 151 .

(10) م . س _ جـ 4 ، صـ من 250 إلى 253 .

(11) م . س _ جـ 4 ، صـ 41 .

(12) م . س _ جـ 4 ، صـ 165 .

(13) م . س _ جـ 3 ، صـ 430 .

(14) م . س _ جـ 4 ، صـ 44 .

(15) م . س _ جـ 4 ، صـ 43 .

(16) م . س _ جـ 4 ، صـ 46 .

(17) م . س _ جـ 4 ، صـ 46

(18) م . س _ جـ 4 ، صـ 50 ، 51 .

(19) م . س _ جـ 4 ، صـ 187 .

(20) م . س _ جـ 4 ، صـ 187 ، 188 .

(21) نادية جمال الدين _ فلسفة التربية عند إخوان الصفا _ القاهرة  1  983 _ صـ 350 .

(22) م . س _ صـ 350 .

(23) م . س _ م . س _ صـ 350 ، 356 .

(24) م . س _ صـ 351 إلى 355 .

(25) م . س _ جـ 4 ، صـ 188 .

(26) م . س _ جـ 4 ، صـ 260 .

($) الرسالة الخمسون حيث يلاحظ اهتمام الإخوان بضرورة أن يتتبع الحجة كل ممارسات الدعاة وهو ما يؤكد وجود جهاز أمني خاص به لهذا الغرض .

(27) م . س _ جـ 4 ، صـ 253 .

(28) م . س _ جـ 4 ، صـ 254 .

($) ذكر الشيخ المفيد في ترجمته للإمام موسى بن جعفر الكاظم، رواية حول محاولات العملاء العباسيين الاستدلال على انتماء بعض موظفي الدولة للمذهب الشيعي سراً عن طريق مراقبتهم أثناء أدائهم للشعائر كالصلاة أو الوضوء، وقد اضطر الإمام الكاظم إلى أن يأمر أحد أتباعه السريين في الجهاز الوظيفي العباسي بأن يؤدي شعائره الدينية على مذهب الدولة سواء أداها منفرداً أو أمام الجمهور .*

·      المفيد _ الإرشاد _ ت/ مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث _ بيروت 1993 . جـ 2 ، صـ 228 ، 229 .

(29) فؤاد معصوم _ إخوان الصفا، فلسفتهم وغايتهم _ دمشق 1996 _ صـ 84 .

(30) أحمد بن عبدالله _ م . س _ صـ 236 ، 237 .

(31) م . س _ جـ 4 ، صـ 260 .

(32) م . س _ جـ 4 ، صـ 260 .

(33) فؤاد معصوم _ م . س _ صـ 82 .

(34) م . س _ صـ 82 .

(35) م . س _ جـ 4 ، صـ 166 ، 167 .

(36) م . س _ جـ 4 ، صـ 126 .

(37) م . س _ جـ 4 ، صـ 52 ، 53 .

(38) م . س _ جـ 4 ، صـ 54 .

(39) م . س _ جـ 4 ، صـ 173 ، 174 .

(40) نادية جمال الدين _ م . س _ صـ 309 ، 310 .

(41) م . س _ جـ 4 ، صـ 174 .

(42) م . س _ جـ 4 ، صـ 174 .

(43) م . س _ جـ 4 ، صـ 174 .

($) الرسالة الخمسون من الرسائل وخاصة صـ 260 .

ليست هناك تعليقات: