الجمعة، 18 سبتمبر 2020

قطة عمياء حكمة السير تحت السماء !! ( حلقات نقاشية حول الأساطير )

قطة عمياء

حكمة السير تحت السماء !!

 

( حلقات نقاشية حول الأساطير )

 

هذه حلقات نقاشية حول الأساطير بكل ما يمكن أن تثيره من جدل وأفكار وآراء حول طبيعتها وأصولها وتاريخها المعلن أو المخبوء وعلاقاتها بإشكاليات الوجود وأفكار الزمن والتناهي والمطلق والطبيعة والرموز والظواهر الكونية المختلفة ، وما يمكن أن تطرحه من تماس مع قضايا الوعي والمعرفة واليقين والشعور والعقيدة .

 

هذه الحلقات النقاشية لا تبغي سوى إعادة التساؤل حول بعض المفاهيم الموروثة ومحاولة إيجاد بدائل واستفهامات تتيح إمكانية المعرفة والتواصل مع مختلف مظاهر الوجود بعيدا عن أطر وقيود المناهج البحثية والأكاديمية المختلفة .

 

المشاركون

 

أحمد صبري ـ كاتب وباحث في التاريخ

 

محمود سامي ـ كاتب وناقد

 

ممدوح رزق ـ كاتب وباحث في الفلسفة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

( أنا لست صامتا

 

بسبب الكبرياء

 

لا ، ولا بسبب العناد

 

يكون السكون .

 

إن قلبي يتمزق مني

 

وأنا أفيق

 

لما أنا عليه

 

وأدرك مهانة المآل )

 

بروميثيوس

 

( 1 )

أصل الأسطورة

 

مناقشة لجذور الأسطورة

 

أحمد صبرى : أعتقد أن الأسطورة تعتمد على واقع تأملي أو تاريخي .. أوسياسي  اجتماعي ، اقتصادي بدرجة ثانية . تخضع الحالة التأملية لخلفيات نفسية تتمثل فى التساؤلات القلقة الخاصة بالوجود ومحاولات البحث عن إجابات لها ، وهى تساؤلات موجودة داخل كل انسان .

 

ممدوح رزق : بشكل كبير أعتقد أن هذه هى القضية الأساسية التى يجب أن نركز عليها ، وهى كون الأسطورة تمر من مرحلة محاولات التفسير للطبيعة الى مرحلة أن تصبح رد فعل لا شعورى وبديهي لأزمات الوجود التى تتمثل فى  الأسئلة الميتافيزيقية التى تدور حول الهدف من الوجود وماهية الزمن وما وراء نشأة الطبيعة والكون .

 

محمود سامى : ماالفرق بين أن تكون الأسطورة محاولة لتفسير الطبيعة وبين أن تكون رد فعل لأزمات الوجود ؟

 

ممدوح : محاولات التفسير البدائية مرت بمرحلة الرغبة فى الاكتشاف والإحاطة بما وراء الغموض الذى يكتنف جميع الأشياء وانتهت بعجز الإنسان عن صنع تفسير يقيني يجيب على التساؤلات المتعلقة بالحياة . ومن هنا نشأ رد الفعل كبديل للعجز أمام سطوة الوجود وغياب اليقين والخوف من المصير النهائى للفرد .

 

محمود  : الرغبة فى الاستكشاف أعتقد أنها أكثر ملائمة لرغبة الإنسان البدائى فى تفسير الظواهر الكونية المحيطة به .. الضئيل أمامها . أما وصوله إلى وضع تفسير يقينى تبعه رد فعل مجازا .. أمام سطوة الوجود .. أتساءل من أين جاءت هذه المسافة الفارقة التى أوصلته لذلك ؟

 

ممدوح : سؤال لماذا كان هناك وجود أصلا وما تبعه من أسئلة لاحقة عن العلاقة بين الطبيعة المتناهية للفرد فى مقابل اللا متناهي الكوني والهدف من الحياة وما قبلها وما بعدها جميعها أسئلة مستقرة فى اللاوعي الإنساني منذ الفرد الأول وحتى الفرد الأخير . ولكن الفرق أن الإنسان البدائي أعتقد أن محاولاته لتفسير الظواهر الطبيعية والكونية سوف تجعله فى النهاية يجيب بشكل تلقائي على جميع الإشكاليات المستقرة فى أعماقه حتى وإن بدت غير واضحة ، اعتقد أنها ستمنحه الاطمئنان أو السعادة ولكن الذى حدث هو أن جميع المحاولات البدائية لم يكتب لها النجاح فى الإجابة على أسئلة كيف ومتى وأين ولماذا بمعناها المطلق الذى يتناول الإنسان كمخلوق فى ذاته مواجها الغموض الميتافيزيقي .

 

أحمد : من الممكن أن أضيف أن التساؤل الرئيسي للإنسان كان وجوديا إلا أن الإجابة وهى بالتأكيد غامضة شملت محاولات لتفسير بعض الظواهر الطبيعية كتدليل على قدرات الآلهه التى حمّلها الإنسان البدائي مسئولية الخلق والإيجاد والمعاناة . فالواقع أن الأساطير القديمة لم تحاول تفسير الظواهر الطبيعية وإنما ناقشت طريقة إيجادها من قبل آلهه مفترضين .

 

محمود : هناك أساطير ظهرت فى مراحل متأخرة حاولت مرة أخرى مواجهة الظواهر الطبيعية .. هل يعني ذلك وجود انتكاسة فى الوعي البشرى ؟

 

ممدوح : عجز الانسان عن إجابة التساؤلات المتعلقة بوجوده كفرد ضعيف فى مواجهة قوى لا مرئية وغير محددة تتحكم فى مصيره ومقدرات حياته .. عجزه هذا لن يتوقف بل هو مستمر منذ الإنسان الأول وحتى الإنسان الأخير ومحاولاته للسيطرة على الطبيعة كان بديلا لهذا العجز وتكريسا له .

 

أحمد : لابد من التفريق بين التساؤل والاستكشاف ، بالنسبة للظواهر الطبيعية فإن سعي الانسان كان فطريا لاستغلالها مما دفعه لاستكشاف قوانين حركتها . هذه المحاولة كانت  تتوقف بمجرد اعتقاده بتوصله إلى هذه القوانين وبالتالى لم يحاول تخليد استكشافه على هيئة أسطورة ، أما بالنسبة للأسئلة المتعلقة بأسرار الوجود ومن ضمنها أسرار وجود هذه الظواهر فبسبب فشله فى التوصل إلى إجابات يقينية فقد قام بتداول إجاباتها الساذجة على هيئة أسطورة .

 

ممدوح : محاولات الانسان فى ترويض الطبيعة ولو بشكل فطرى لا تنفى انعكاسا هاما هو أنه كلما ازدادت محاولات الانسان فى ترويضها فانها تجعله أكثر خوفا وضآلة أمام الاشكاليات الكامنة فى لاوعيه والتى تتعلق بوجوده وما يتبعها من غموض .

 

محمود : يرى ( يونج ) أن تقدم عقول الناس كان سببا للظن بأن تلك الحكايات عن اللآلهه كاجابة عن تلك التساؤلات مرتبطة بموروثات قديمة مبالغ فيها .. هل هذا يقلل من قيمة الأسطورة التى حاولت فى ذلك ؟

 

أحمد : أعتقد أن ( كارل يونج ) كان يشير إلى الأساطيرالتي تتناول أحداثا تاريخية بالغت فى وصف قدرات خارقة لبعض الأشخاص .

 

ممدوح : هناك بعض الكتابات التي تتحدث عن كائنات إنسانية أثبتت امتيازها وتم وصفهم بالآلهه أو أبناء الآلهه أو أنصاف الآلهه .. والسؤال هنا ماذا يعني هذا الامتياز ؟ .. أريد أن أطرح فكرة ما تفترض أن عهد الأساطير كان بداية ملائمة ومنطقية لتاريخ  العالم القائم على حتمية الشر وهذا يعني بالضرورة إمكانية نشوء مفاهيم التآمر الذي استغل احتياج الإنسان للمعرفة ، مع الأخذ فى الاعتبار أن التآمر فى حد ذاته كان أحد وسائل الدفاع عن العجز أمام العالم .

 

أحمد : يمكننا تقسيم الأساطير الى مرحلتين .. الأولى : مرحلة ما قبل التدوين وهذه المرحلة تتميز بالتأمل التلقائي وعفوية انتشار الأسطورة . الثانية هى مرحلة ما بعد التدوين حيث شهدت تكون الوحدات السياسية الخاضعة لطبقة مسيطرة كما شهدت إخضاع الأسطورة لإشراف المؤسسة. حيث قامت الطبقة المسيطرة بتحريف الأسطورة وخلق آلهه متعددة لخدمة أغراضها في حيازة الثروة والنفوذ السياسى كما حرفت سير الأحداث كي تصب فى خدمة مصالحها . وفى فترة لاحقة كان هناك تحريفا آخر نشأ تحت ضغط التناقضات الداخلية للطبقات المسيطرة .. حيث تتوزع المؤسسات بين الأطراف المتصارعة .

 

محمود : طبيعة الإنسان .. أي إنسان يسعى للسيطرة ويحاول جاهدا فى كل زمان ومكان أن يجد أو يصنع آلية تتناسب مع أغراضه .. الآن آليات السيطرة إعلامية جبارة . الذهن البشرى الغير واعي ضئيل ومنساق أمامها .. ومن هنا فالأسطورة أسطورة ما بعد التدوين كانت آلية إعلامية ملائمة لطبيعة هذا العصر .

 

أحمد : على سبيل المثال فى روما القديمة كانت هناك بعض العائلات تبرر حيازتها للثروة والنفوذ السياسي لكونها تنتسب إلى أحد الآلهه أوإلى أحد المؤسسين العظام لروما والذين عُدوا من أنصاف الآلهه فيما بعد .

 

ممدوح : أريد أن أركز على منطق الزمن الذي هو بالتالى منطق التاريخ بمعنى أن طبيعة الزمن تسير دائما من الأقدم الى الأحدث ( الزمن حينما يتقدم إلى اللحظة الآتية يحمل بداخله القديم ( الموروث ) وهذا يعني تثبيت وخلود مفهوم التراكم .. التراكم الذى يعني تدعيم واحتفاء ورعاية القبح من خلال وسائل وآليات بديهية تضمن استمراره وتطويعه لملائمة الحقب الزمنية التي يعبر خلالها .

 

محمود : ماذا تقصد ببديهية استمرار وسائل القبح وآلياته عبر التاريخ ؟

 

ممدوح : البديهية هنا تعنى عجز الإنسان عن مواجهة العالم . الأمر الذي يفضي به إلى تزايد حدة إرادته الساعية باتجاه الحياة سواء اتخذت شكلا واعيا أو لاواعيا .. فمن هنا ينشأ الشر ويحتفظ بسمات بقائه من خلال ضعف الإنسان وضآلته وسعيه المحموم باتجاه اليقين الغائب .

 

محمود : أسطورة ما بعد التدوين هل أصبحت بشكل نهائي وحتمي أحد أهم الآليات لسطوة القبح ؟ وهل توجد أساطير تم نسجها بعيدا عن تلك الأسطورة؟

 

أحمد : أتصور أنه كانت توجد أساطير تسير في الاتجاه المعاكس .. إلا أنها لم تصمد بسبب عدم تبنى المؤسسات لها .. إن أغلب الأساطير التي شهدتها مرحلة ما بعد التدوين كانت عمدية فى طبيعتها وذات دوافع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية وربما دينية عندما يتم تحويل الدين من حقيقة إلى أيدولوجية تشرف عليها مؤسسات معينة من قبل السلطة .

 

ممدوح : هناك سؤال أرى أنه يحوي أهمية ملائمة لطبيعة هذا الموضوع ، وهذا السؤال هو هل الأساطير هى تمهيد وإعداد منطقى وبديهى لعصر انعدام الأساطير ؟ فإذا تصورنا أن عهد الأساطير يمتلك سمات تختص بضحالة الوعي الجمعي وعدم المعرفة والمواجهة الشرسة الغير متكافئة مع الطبيعة وغياب اليقين عن الإنسان البدائي والخضوع والضعف والجهل والتعذب بالضآلة و عدم وجود إجابات لأسئلة لا شعورية على نمط لماذا جئت ؟ ، من أين؟ ، إلى أين ؟ وهذا يمثل بدايات الشر الذى سوف يحدد فيما بعد وحتى وقتنا الراهن تاريخ الإنسان فى مواجهته للغموض الذي يكتنف وجوده .. أتصور أن عصر انعدام الأساطير هو النتيجة المنطقية لهذه البدايات ، وهذه النتائج تخلد عجز الإنسان عن إيجاد حلول للإشكاليات المتعلقة بكونه كيان يقاسي آلام الاختبار الوجودي الشرس الذى لم يكن له حرية خوضه إضافة إلى عدم قدرته على إيجاد بدائل حقيقية من سعيه الدؤوب لفك طلاسم الطبيعة .

 

محمود : أتفق مع ما قاله ممدوح فتبني المؤسسات الحاكمة لأسطورة ما بعد التدوين باعتبارها آلية ملائمة للتسلط والهيمنة على هذه الفرضية أرى أن العالم لن يصل إلى عصر انعدام الأسطورة وهذا لايعني أن تكون الأسطورة فى عصرنا الحالى متشابهة مع أسطورة ما بعد التدوين ، فإذا كانت الأسطورة السابقة ذات طبيعة تآمرية نشأت فى وجود انسحاق وجهل والشعور بالضآلة فإن أسطورة هذا اليوم لن تخرج عن هذا النطاق ، فعلى الرغم من الاكتشافات الهائلة فى مجال العلم إلا أنها لن تنفي شعور الإنسان بالخوف ، ومن هنا تتخذ الأسطورة شكلا متطورا ، أرى أن الأعلام مثلا هو أسطورة السلطة اليوم

 

ممدوح : الأسطورة بمفهومها التقليدي تعتمد أساسا على آليات الخيال الانساني ومدى قدرته على خلق عوالم مختلفة تتيح أكبر قدر من محاولات البحث عن المعرفة واليقين وهذا ما تفتقده ما يسميه محمود بأسطورة اليوم حيث أننا لو افترضنا أن الإعلام تحول فى أيدى المؤسسة الى أسطورة فإن هذا لا يفترض أى نوع من ممارسة النشاط التأملى الذى يقوم به الخيال وإنما اعتمد على التركيز بشكل مباشر ورئيسى على تجميل الواقع الحياتى المشوه الذى هو بدوره ينفى بآلياته المادية البحتة أى تصور عن ما هو غرائبى مثلا

 

أحمد : التاريخ هو ( تطور صور القبح ) ووجود الأسطورة بالمعنى الذى أشار إليه ممدوح انتهى مع بداية عصر التدوين والخضوع لسيطرة   المؤسسات ، إن هذه المرحلة من القبح صريحة إلى درجة دعتها إلى التنازل عن استخدام الأسطورة كأداة لتجميل الواقع المشوه واللجوء إلى الخداع كبديل أكثر قبحا يتلائم مع المرحلة .

 

ممدوح : أريد أن أنتقل إلى نقطة أخرى تتعلق بارتباط الأسطورة عند بعض الجماعات البشرية بعالم الأشباح والسحر والعقائد الدينية والروحية والطقوس الجنائزية أليست هذه العلاقة تطرح أمامنا تساؤل حول مفهوم القوى الغيبية التي تعتمد عليها هذه الجماعات فى ممارسة طقوسها وخلق أساطير لها علاقة بما هو كوني أو عقائدي ؟ .

 

أحمد : لابد من توضيح أن السحر وقصص الأشباح ارتبطت بوضع الأسطورة تحت وصاية المؤسسة ، إنها الوسائل التي استخدمها الكهنة لترهيب الناس وإقناعهم بالقوى الانتقامية التى سينزلها الإله المفترض عليهم فى حالة الامتناع عن تقديم القرابين مثلا  .

 

ممدوح : أنا أتحدث عن الجانب الروحي اللامادي الذي يرتبط بالأساطير القديمة لدى جماعات من البشر .. أعتقد أننا نستطيع أن نضع أيدينا على مواطن ثراء عالية الدلالة إذا حاولنا استكشاف المفاهيم والاعتقادات الروحانية التي كانوا يؤمنون بها ويمارسون من خلالها طقوسا تعبر عن رؤيتهم للكون وما هو ورائي فى الطبيعة .

 

أحمد : أتفق مع ممدوح فى ضرورة اكتشاف الاعتقادات الروحانية التي تؤمن بها هذه الجماعات .. فقط أود توضيح أن بعض الطقوس التى يمارسونها هي فعلا رد فعل عفوي ساذج على الأسطورة ، إلا أن أغلب هذه الطقوس هي في الواقع من صناعة الكهنة وتصب بالتالي فى مصلحة مؤسساتهم .

 

محمود : إن الأسطورة وخاصة التي تتصدى لإشكاليات الوجود وحتى التي تتناول مظاهر الطبيعة تعتبر تجسيدا حقيقيا لوعي الإنسان البدائي( هي واقعه)  حتى وإن كانت تقدم تصورات ساذجة لإنسان اليوم والأسطورة بالنسبة للإنسان الآن تجسيدا للاوعيه على الرغم من إنكاره لها على مستوى الوعي .

 

 

( 2 ) سمات الأسطورة

 

محمود : في البداية أرى تناقضا بين مقولتين خاصتين بالأسطورة .. فهناك من يرى أن الأسطورة منطقها اللا منطق وآخر يرى أنها رؤية استبطانية للأشياء . أتحفظ على عمومية الرأى الأول وإطلاقه لأن من شأنه أن يفقد الأساطير القديمة والتي كانت بمعزل عن التأثير السلطوى ـ والذى وقع فيما بعد ـ  طبيعتها ومنطقها حيث كانت تمثل الإجابة الأولى للعقل الإنساني عن هذا الإحساس بالتعجب والذي هو جذور الفلسفة ـ كما يرى أرسطو ـ  وإذا اعتبرنا أن أساس الأسطورة كوني فهي تصلح حينئذ على الرغم من بساطتها وما تحويه من غرائبية لأن تكون ديانة ما قبل الديانات وعلم ما قبل العلوم . لذا أعتقد أن الوجه الصحيح لمصطلح ( اللا منطق ) إذا أردنا تعميمه على الأسطورة فهو إطلاقه على مكوناتها من أبطال خارقين ومخلوقات وأماكن أسطورية خيالية حيث أن تلك المكونات تمثل فى الأسطورة اللامعقول

 بالفعل ، ولا يطلق على مضمونها فى الغالب والذي يمثل محاولات العقل الإنساني البدائي في إيجاد إجابات كما أشرت .

 

ممدوح : ما الذي جعل الأساطير تعتمد على كل هذه الأفكار المستندة على اللا منطق والغرائبية ؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تتلخص في مرور الوعي الإنساني بمراحل متدرجة من فهم العالم وبقدر ما كان الوعي الإنساني عاجزا عن مواجهة الغموض الذي يكتنف وجوده كان حجم الغرائبية المستندة على الخيال أكثر سطوة في إنتاج الأساطير . حيث أن عدم اكتساب الحواس الطبيعية مقدرة على فهم الظواهر المادية المحيطة والنفاذ إلى جوهرها قد أدى إلى محاولات خلق تفسيرات متخيلة لن نستطيع أن نطلق عليها استبطانا كاملا بقدر ماهي تصورات فقط ، وكلما اكتسبت الحواس لدى الفرد قدرة أكثر فإنه يتم الابتعاد تدريجيا عما هو متخيل والاقتراب من الفهم الموضوعى للعالم

( التفكير الاستبطاني للأشياء في ذاتها بمعزل عن أفكار الإنسان عنها ) .

 

أحمد : أعتقد أن الخوف وإدراك الضعف كان هو الدافع الأساسي للتفكير.. فالمصريين على سبيل المثال كانت أساطيرهم تعبر عن هذا الافتراض فذعر المصريين من الموت كان هو الدافع لإيمانهم البالغ بالبعث .. كان أملهم فى الواقع هو العودة المادية وليس العودة بالمعنى الذى تشير إليه الديانات السماوية .

 

ممدوح : هل ما يحدث من غرائبية داخل حكايات الأساطير هو تحريف كلي وشامل للواقع المادي بإعمال النشاط التخيلي أم أن هناك جزءا ما من هذه الغرائبية حدث فى الواقع بالفعل وتم نقله فقط كما هو فى شكل حكاية أسطورية؟

 

محمود : أختلف معك فى مقولة ( تحريف كلي وشامل للواقع ) في سؤالك لأنها تستلزم أن يكون الإنسان البدائي حال نسجه للأسطورة على وعي كامل بما يقوم به من تصورات كما أشرت أنت سابقا حيث أن تلك التصورات الساذجة فى أغلب الأحيان لها ما يبررها فقد سبق وأشرت أنت أيضا أن الوعي الإنساني قد مر بمراحل متدرجة في فهم العالم ترتقي كلما اكتسبت الحواس لدى الفرد قدرة أكثر في فهم الظواهر المادية فيتم الابتعاد تدريجيا عما هو متخيل والإقتراب من الفهم الموضوعي للعالم . كما أعتقد أن الأشكال المتعددة والمتنوعة من الغرائبية التي تتسم بها الأساطير بشكل عام ـ خاصة قبل أن تصبح أداة سلطوية ـ جاءت لإحداث حالة من التوازن بين الإنسان والطبيعة فأكسب البطل الأسطوري صفات خارقة للعادة ليصبح موضوعيا للإنسان البدائي العاجز والمنسحق والمتسائل فى هذا العالم في صراعه مع الظواهر الطبيعية الشرسة ومعادلها الموضوعي المخلوقات الأسطورية وذلك محاولة لصنع إنسان قادر في مواجهة القدر المحتوم الذي يواجهه ومن ثم محاولة صنع توازن بين الإنسان والطبيعة القاهرة .

 

ممدوح : إذا اتفقنا أن جزءا كبيرا من الأساطير تتحدث عن وتصور مواجهة الإنسان مع قوى الطبيعة الشرسة المتمثلة في تقلبات المناخ وظاهرة المد والجذر والوحوش المفترسة ........الخ . إذا اتفقنا على ذلك الأمر فإن الأساطير تمتلك جانبا كبيرا من الصدق الذي ليس له علاقة بأي نشاط تخيلي . ولكن المشكلة الحقيقية أن هناك الكثير من الأساطير تتحدث عن مخلوقات  نطلق  عليها ( كائنات خرافية ) هذه الكائنات لم يرها أي منا . فهل هي كانت موجودة في عصور سحيقة وانقرضت أو حدث تحول لتكويناتها الأمر الذي جعلها تتخذ هيئات وأشكال أخرى هي التي نراها اليوم ؟ أم أن هذه المخلوقات خرافية بالفعل لم يكن لها أي وجود أصلا وإنما كانت تساعد الإنسان فقط على محاولة إيجاد التوازن في الطبيعة ؟

 

أحمد : لقد نشأت الأسطورة لتعبرعن الأرق بالحياة والموت وبالتالي فقد كانت مساحة الخيال موجودة بحدود معقولة . لكن الانغماس في الغرائبية تم عندما أصبحت الأسطورة معبرا أساسيا عن السلطة والمعبد . إن الأساطير التي تحوي أكبر قدر من الغرائبية هي أساطير الصراع والتي سعت السلطة لترويجها في محاولة لتثبيت وصنع الآلهه التي تعبر عنها ومن النادر اكتشاف أي من الحكماء المصريين أو الفلاسفة اليونايين كان يؤمن بقدر من الأساطير الصراعية .

 

ممدوح : أتحفظ على المبالغة في ارتباط غرائبية الأساطير بأغراض الآلهه والنفوذ السياسي وامتلاك الثروة لأنه بالتأكيد ثمة أساطير تمتلك قدرا كبيرا من الغرائبية ليست لها أية علاقة بهذه الأغراض .

 

أحمد : لم أجعل الغرائبية حكرا على هذا النوع من الأساطير ولكنني أشرت إلى أنها الأكثر استخداما للغرائبية . فالغرائبية في هذا النوع تضفي القدر الأكبر من الهيبة والخوف من الآلهه .

 

ممدوح : أرفض رفضا قاطعا تعبير ( الأكثر ) الذي ورد فى كلام أحمد لأن الأساطير المعتمدة على الغرائبية التي لاتمتلك أغراضا سياسية كانت كثيرة  إلى الدرجة التي تجبرنا على رسم صورة ذهنية لماهية الحياة الطبيعية العادية جدا عند الجماعات التي عاشت فى أزمنة سالفة

 

أحمد : ومع ذلك فحتى هذه الأساطير ارتبطت بآلهه تؤذي وتقوم بالحماية وتلبي طلبات الاستنجاد . إن الغرض هو تدعيم إيمان الجماعات البشرية بهذه الآلهه .

 

ممدوح : وماذا نقول عن الرحلات البحرية والسفن التي كانت تجوب المحيطات واستكشاف الجزر واليابس والتعرف على أناس مختلفين يمتلكون هيئات غريبة والنقوش الحجرية على جدران الكهوف التي تصور طيورا وحيوانات غريبة وظواهرا سماوية غريبة لم نتعرف عليها أبدا . كل هذه الأشياء تنتمي إلى الفكر الاستكشافى وليس فكر السيطرة .

 

أحمد : بالنسبة لنقوش الكهوف فهي سابقة على نوع الأساطير التي أتحدث عنها أما فيما يخص الرحلات البحرية والسفن التي تجوب المحيطات فقد كانت خاضعة لحماية آلهه البحار وهذه الآلهه هي التي كانت تتدخل لإنقاذ هذه السفن عندما تتعرض للمحن .

 

ممدوح : إذن فإن هناك أساطير كثيرة غرائبية سبقت أساطير النفوذ السياسي على حسب ما ذكرت أنت وهذا يناقض تعبير ( الأكثر ) .

 

أحمد : بالنسبة للغرائبية في نقوش الكهوف فقد ذكرت من البداية أنها كانت موجودة ولكن بحدود معقولة .

 

ممدوح : إذا كنت لم تتعرف بعد على رحلات بحرية أسطورية واجه منفذوها اكتشافات لأشياء ومخلوقات غريبة فأنت بهذا تحجم التراث الأسطوري إلى مجرد فكر مؤسسي في حين أن كل الدلائل تثبت أن سعي الإنسان لاكتشاف العالم وفهمه كان غريزة بديهية وحتمية قبل نشأة أي مؤسسة.

 

أحمد : إن كلمة مؤسسة تعني الاستغلال ومنذ قيام المؤسسات فقد سعت لاستغلال الدين أو الآلهه بالإضافة إلى الأسطورة وكل ما هو خاضع للمؤسسة فقد تم استغلاله لتثبيت وضعيتها وما ذكرته عن كونها الأكثر غرائبية لا يعني أن الغرائبية منتفية فى الأساطير الأخرى ولكنني قلت أنها بحدود معقولة أومتزنة وليست مسرفة في غرائبيتها كأساطير ما بعد المؤسسات .

 

ممدوح : ومن أين نشأت الآلهه أساسا التي استغلتها المؤسسة ؟ . أليست الآلهه هي نتاج تصور جماعة لتفسير نشأة الكون ؟ . وهذا ما يؤكد كلامي في أن الأساس فردي وما نشأعن ذلك تاليا هو المؤسسة . والمؤسسة استخدمت الأساطير بشكل مفتعل ومظهري لأنه يخدم أغراضا نفعية أما غرائبية الأساطير في مرحلة ما قبل المؤسسات كانت فطرية متوهجة أشبه بالسحر والتفكير البدائي الذي تخلى عن أي غرض يحجم ثرائه ومن هنا فقدت الأساطير في عصر المؤسسات غرائبيتها الاستكشافية واستبدلتها بالغرائبية الموجهة.

 

أحمد : أنا لم أقل أن المؤسسة أنتجت آلهه أو أساطير وإنما قلت أنها استغلت الآلهه والأساطير  .

 

محمود : من خلال ما قدمتماه في نقاشكما أعتقد أن صفة الصدق التي أطلقها ممدوح على الأساطير التي تحدثت وصورت مواجهة الإنسان البدائي مع قوى الطبيعة الشرسة في محلها تماما إذ جاءت لتصف مضمون تلك الأساطير حيث أنها حينئذ تتصف بصدق المحاولة وذلك لأن الأسطورة القديمة تنم عن محاولات الإنسان البدائي في الإجابة على الأسئلة الخاصة بالوجود وبالكون والظواهر الطبيعية التي نشدها العلم فيما بعد .. حتى وإن كانت تلك الإجابات والتصورات المتخيلة ساذجة .. ولا نستطيع أن نطلق تلك الصفة

 ( الصدق ) على أحداث الأسطورة بشكل مطلق لكون تلك الأشكال الغرائبية التي وجدت فيها تحتمل الصدق والكذب .. وعلى هذا الأساس فإن ما جاء بها من غرائبية قد يرجع للعديد من المبررات :

1 ـ إما أن تكون مرجعها الأحلام البشرية والتي كانت تمثل ظاهرة إنسانية محيرة إلى حد بعيد للشعوب البدائية .. باعتبار أن الصور التي تظهر في اللاشعور و في الأحلام وفي رغبات النهار المقبل ـ وهي مدار الحلم غالبا ـ

 ( كما قال يونج ) ، ومن ثم كان اللاشعور الجمعي والأحلام الأرض الخصبة للنشاط التخيلي عند الإنسان البدائي .

2 ـ هناك احتمال أن بعض الكائنات والتي تم وصفها من قبل الأنثروبولوجيين

والمفكرين بأنها خيالية أسطورية كانت موجودة بالفعل ، لكنها انقرضت بسبب عوامل مناخية معينة . وبما أنها كانت غالبا ضخمة جدا أو شرسة فإنها كانت تبث الخوف والذعر عند الإنسان البدائي وتزيد من شعوره بالوحدة والعزلة والضعف فقام بوصفها كما رآها . وعلى هذا الأساس جاء تحليلنا لوجودها في تلك الأساطير لإعمال النشاط التخيلي لدى الإنسان البدائي .

3 ـ قد تكون كائنات موجودة بالفعل لكنها لم تكن شرسة ومن منطلق جهل الإنسان البدائي بطبيعتها وخصائصها وكيفية تصرفاتها أكسبها صفات غرائبية ليست موجودة بها .

4 ـ وقد تعود تلك الأشكال الغرائبية في الأسطورة لتلك النقاط مجتمعة..

أتفق مع ممدوح في الاختلاف مع أحمد في تأكيد الأخير على أن الغرائبية في أساطير ما قبل المؤسسات كانت بحدود معقولة وأن الغرائبية كانت أكثر سطوة وإسرافا في الأساطير المؤسسية . فما قاله ممدوح بأن الغرائبية في أساطير المؤسسات مفتعلة ومصطبغة لكونها تخدم أغراضا نفعية وأن الغرائبية في أساطيرما قبل المؤسسات فطرية ومتوهجة سليم تماما لأن ذلك الرأي أكثر منطقية من الرأي الآخر.. فالمفترض ووفقا لعملية التطور أن تقل مساحات الغرائبية في أسطورة المؤسسة قياسا بأسطورة ما قبلها لأن الإنسان قد وصل لمستوى معرفي أكثر من ذي قبل فيما يخص ظواهر الطبيعة ، ولكنني أرى أن ما أطلقتما عليه رحلات بحرية استكشافية كانت خيالا محضا وإعمالا للنشاط التخيلي ولا تستند على أرضية تاريخية حقيقية في الغالب وذلك لأن الإنسان البدائي لم يكن قد استطاع بعد أن يروض الطبيعة ويحقق قدرا من التوازن والشعور بالقوة ليقوم بتلك الرحلات  المزعومة .. وعلى هذا أؤكد على أنها جاءت وتشكلت بإعمال النشاط التخيلى البحت .

 

ممدوح : أريد أن ألخص وأحدد مجموعة أفكار ونقاط :

1 ـ أنه كانت هناك كائنات أو حيوانات غريبة لها وجود في أزمنة سحيقة وعلى الجانب الآخر كانت هناك كائنات أو حيوانات غريبة متخيلة .

2 ـ مادة الأساطير باقترابها من منطقة الأحلام لا يجب أن توقعنا في فخ أن هذه المادة بأكملها مستمدة كلية من هذه المنطقة .

3 ـ أكاد أجزم أن الأحلام عند الإنسان البدائي ـ  وعلى الأقل في مرحلة عدم اكتساب الحواس العادية لقيمتها المعرفية والشعورية ـ  سببت اضطرابا كبيرا لدى هذا الإنسان ـ هذا الاضطراب نشأ عن غياب مصدر هذه الصور الغريبة التي تحضر في ذهنه أثناء نومه وأكاد أجزم بشكل أكبر أن الإنسان البدائي افترض قوى غيبية شريرة مثلا حمّلها مسئولية إلقاء هذه الصور داخل رأسه .

4 ـ الإنسان في مرحلة وعي الحواس بالموجودات المباشرة أي وصوله لطريق حقيقي في محاولات تفسيرها اكتشف نوعا من الترابط بين ما يحدث في الواقع وبين ما يحدث في أحلامه الأمر الذي جعله يقترب من الطبيعة الأساسية لمادة الأحلام .

 

محمود :

 أولا : من خلال كلامي السابق أنا لم أزعم أن مادة الأساطير مستمدة بأكملها من منطقة الأحلام ولكن أخذت منها بعض الشئ ، ومن خلال كل ما قد قدمته من نقاط أرى أن هناك جملة واحدة توجز ما قلته وهي ( أن الأسطورة وسط ما بين الحلم واليقظة ) .. وهنا أضيف أن الأساطير وما بها من غرائبية تواجدت منذ فجر التاريخ وصاحبت مسيرة الإنسان باعتبارها تحكي النموذج الأمثل لكل عاطفة وكل قداسة وكل جمال معنوي أو مادي ومن ثم إكساب تلك الصفات المطلقة للبطل الأسطورى .. حيث اعتبر أن هذا البطل الأسطوري بتلك الصفات شكلا غرائبيا أيضا كتلك المخلوقات الغرائبية الشرسة ، وذلك لأن تلك النماذج المصنوعة كبروميثيوس وآلهه الكلام ( تير ) و ( ديومستس ) تؤكد أن الإنسان البدائي وبشكل لا شعوري يدرك نقص هذا العالم وقبحه ومن ثم صنع تلك الأبطال الأسطورية وتلك الآلهه أو أنصاف الآلهه المتصفة بالتضحية .

     

 

 

( 3 ) أنواع الأسطورة

 

محمود : هناك نوعا من الأساطير يطلق علىه الأساطير الكونية والتي تمثل شكلا من أشكال الحكاية عند الإنسان البدائي تجسد الحقيقة التي أحس بها في مواجهته للعالم .. على هذا الأساس أجد ما أكد كلامي السابق حول أن ما توصل إلىه الإنسان البدائي كان بداية للشعور الديني والإيماني باعتبار أنها حقيقة مطلقة لن تتغير ومن ثم اكتسبت الأسطورة بعدا دينيا جعلها ديانة ماقبل الديانات المعروفة .

 

ممدوح : ثمة سؤال أعتقد أنه يمثل جانبا جوهريا في الأساطير .. هذا السؤال هو : ماالفرق بين تصور الإنسان عن الشيء وبين رصد حقيقة الشيء في  ذاته ؟ .. أكاد أجزم أن الأساطير بأكملها تنتمي لفرضية تصور الإنسان عن الشيء وليس عن رصده في ذاته .. فتصور الإنسان عن أي ظاهرة في العالم تعني إسقاط الشعور الذاتي الفردي علىه الأمر الذي يجعل هناك تداخل في سطوة الانفعالات المختلفة والأحاسيس المبهمة وأيضا الموجهة بقصديات سابقة والمراوغة والخلط والإيهام وكل هذا يعني خلق غلاف أسطوري / خيإلى يحيط بالشيء وهذا الغلاف هو نتاج منظور / رؤية / انفعال / حس خاص لدى راصد هذا الشيء ، الأمرالذي يختلف تماما عن الاستكشاف المعتمد على فحص ظواهر الشيء بمعزل عن الإحساس الخاص / الذاتي ، الذي يؤدي بالضرورة لعدم وضع أغلفة خارجية تحيط بالشيء وإنما استخراج الماهية من الشيء في ذاته عن طريق تتبع / الرصد المحايد الموضوعي الذي يجعل من الإنسان مخلصا في بحثه عن الحقيقة سواء وصل إلىها أو لم يصل .

 

محمود : مما قلته أرى أن رصد حقيقة الشيء في ذاته يأتي متقدما بشكل منطقي .. لأن رصد الشيء في ذاته لن يتم إلا بعد محاولة الإنسان البدائي  ـ سواء بشكل موضوعي أم لا ـ  إلا بعد رصد جزيئات هذا  الشيء بشكل تفصيلي وحسي .  

 

ممدوح : لاحظ أن رصد الشيء في ذاته يحتاج إلى ملاحظة محايدة

 وموضوعية الأمر الذي لا يأتي إلا بعد أن تكتسب الحواس الطبيعية لدى الإنسان مقدرة خاصة على تجاوز الأطر الخارجية للشيء والنفاذ إلى أعماقها لاستخراج الحقيقة .

 

محمود : أتفق على ما قلته بالنسبة لكون الأساطير تنتمي بأكملها للشق الأول من سؤالك لأن من البديهي تماما أن رصد حقيقة الشيء في ذاته هي مرحلة  متقدمة جدا لدى الإنسان ووعيه بالعالم وما به ، وتجعل مرحلة رصد جوهر الشيء لا تنخرط تماما في أية تصنيفات أسطورية لأن هذا يبنى على وعي  متقدم وإحساس عميق بجوهر المادة .

 

أحمد : إن المرحلة الأولى من الأساطير السابقة لنشوء المؤسسة اتسمت فيها التفسيرات لدى الإنسان البدائي بالخوف أمام الظواهر الكونية أكثر من محاولة إدراك جوهرها ، فإن الغرض الأساسي لديه هو أن يكتشف هذه القوى المحركة للظواهر ومن ثم فبإمكانه عن طريق بعض الصلوات والذبائح القيام باسترضائها .

 

محمود : بالنسبة لما يسمى بأساطير الخلق والتي تندرج تحت عنوان الأساطير الكونية .. رأى البعض أنها ظهرت نتيجة لأحداث العنف والحرب بين الآلهه .. أرى أن هذا النوع متأخر جدا بالنسبة للأساطير حيث جاء وتأصل بشكل ما بعد قيام المؤسسات .. فهي أساطير ذات طابع نفعي في الغالب .

 

أحمد : لابد من توضيح أن معظم الأساطير التي تصور المعارك ما بين الآلهه تخضع في الأساس لحقيقة قيام صراعات عسكرية بين المدن التي تمثلها هذه الآلهه .

 

ممدوح : دعونا نفكر في المنحنى التصاعدي للأساطير بدءا من التصورات عن الأفكار الكبرى في العالم مثل الحياة والموت وخلق العالم / بدايته ، ونهايته وحتي هذه اللحظة التي نجلس فيها . لماذا لم تعد هناك أساطير الآن ؟

هذا الأمر مرتبط بسطوة الطرح المادي للعالم الذي لم يعد هناك بديلا  له خاصة ( الخيال / الأسطورة ) في استنتاج أو التوصل إلى فهم العالم .. الآن نحن نتعامل مع أطروحات العالم بالحواس معتمدين على إمكانية النفاذ إلى الجوهر متسلحين بالتخلي عن التصورات الخيالية التي أثبت تاريخها قصورا هائلا لفاعلىتها .

 

محمود : إذا عدنا لتساؤلك السابق .. ماالفرق بين تصور الإنسان عن الشيء وبين رصد حقيقة الشيء في ذاته ؟ أري أن الشق الأول من السؤال يمثل كما اتفقنا ( الأسطورة ) ، وأن ما جاء بها من ضعف وسذاجة في التصور كان نتيجة ـ كما أشرنا سابقا ـ  لمحدودية وعي الإنسان البدائي لضعف قدرته على استخدام حواسه الملازمة له منذ وجوده أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال أرى أن الانتقال البديهي لتطور وعي الإنسان بعد اكتمال مقدرته على إدراك القيمة الفعلىة للحواس والتي ساهمت في تأصيل وتعميق رؤيته الفلسفية والتي تتطور بشكل أو بآخر والتي من شأنها أن تجعل من وجود الأسطورة شيئا هزليا وغير منطقي ، وهذا لا يعني أن تطور الرؤية الفلسفية وعمقها قد وضع حلولا واجابات لما وراء المادة بشكل مطلق بل استطاعت أن تضع تصورات مرتبطة بالعالم المادي وارتباطه بعالم ماوراء المادة بشكل مجرد ومطلق .

 

أحمد : أعتقد أن من أهم الأسباب لاختفاء الأسطورة هو ظهور الديانات الكبرى وأقصد  الديانات ذات الكتب المقدسة فقد احتوت معظم هذه الكتب على الأساطير القديمة وبالتالي فقد فقدت هذه الصفة لتصبح حقائق كونية فوق التصور البشري العادي واتخذت نموذج المعجزة أو الكرامة . ومع ذلك فإن العقل الإنساني المفتقد إلى ما كانت تشيره الأسطورة في نفسه من تشويق مازال ينتج كل يوم الآلاف من القصص الأسطورية المشوهة عن الجنيات والزواج المختلط بين الإنسان والجن والتي تندرج تحت نطاق الخرافات والدجل .

 

محمود : ما المقصود بأن الكتب السماوية الكبرى احتوت تلك الأساطير لتفقدها صفاتها وتصبح حقائق كونية ؟

 

أحمد : أولا : لم أخصص الديانات السماوية تحديدا ولكنني قلت الديانات الكبرى وعموما فقد أوردت الكتب المقدسة قصة الطوفان وهي أساسا كانت أسطورة بابلية قديمة إلا أن رواياتها في الكتب المقدسة وبالذات القرآن اختصت بالحقائق الواقعية منها مما ألغى الجوانب الخيالية التي حرفت في أحداثها وتحولت بالتالي لحقيقة كونية .

 

ممدوح : احتواء الكتب المقدسة للأساطير كتب نهاية لما أطلق عليه

( التصور الخيالي المبالغ في غرائبيته لرصد ظواهر العالم )  بمعنى أن الأحداث التي تنتمي إلى مجال الأسطورة حولتها الديانات السماوية إلى تدعيمات خاصة لتقوية مفاهيم هذه الديانات الأمر الذي جعل هناك نطاقا غيبيا واسعا تم استيعابه تماما من قبل العقل الإنساني على أنه فرضيات غامضة لا تمتلك قواعد للفهم ومن هنا جاء مصطلح ( المعجزة ) مثلا .. عدم الفهم هذا امتد من مرحلة الأساطير إلى مرحلة احتواء الديانات للأساطير ذاتها مما كرس لغموض الأبعاد السرية التي قامت عليها أركان العالم مثل النشأة والإيجاد والنهاية مما أنتج بالضرورة أن يفكر الإنسان بطريقة ( سأصل إلى الحقيقة عن طريق ما أعرفه ) فحسب لأنه ما دون ذلك استطاعت الديانات بكفاءة في جعله معتما تماما والذي يمثل ( لاشعور العالم بطريقة ما ) .

 

محمود : اعتبار أن الكتب المقدسة بمجملها مثلت انتقال من الأسطورية إلى تدعيمات خاصة لتقوية مفاهيم هذه الديانات رأي يحتاج إلى تخصيص حيث أن التوراة مثلا ككتاب مقدس لم ينجح في احتواء الأساطير بالشكل الذي أطلقه ممدوح فهي من وجهة نظري نقلت أو احتوت العديد من الأساطير بنفس الغرائبية التي كانت موجودة في الأساطير السابقة ولم تخفف من حدتها .

 

ممدوح : المسألة بكل بساطة تتلخص في مجموعة نقاط محددة . أولا : أن الديانات تعاملت مع الأساطير على مستويين . المستوى الأول : هو إثبات الجانب الخرافي العبثي في الأساطير السابقة ، المستوى الثاني : هو اتخاذ الجانب الغرائبي الذي يتسم بقدر ما من الحقيقة في جعله أداة إعجازية تمنح العقيدة الرسوخ اللازم باتخاذ سبل الرهبة والدهشة واللامنطقية المنبعثة من مصدر غامض مجهول يمثل قوة خلاقة قادرة ولتكن ( السماء مثلا ) ، وهذا ما وفر للعقيدة أداءات تأثيرية على الجانب الروحي في الإنسان العادي الذي هو ضعيف تماما بحكم تكوينه الأساسي أمام الظواهر الغيبية والأحداث الغير معتادة والغير منطقية والغير مألوفة لذهنه وادراكاته العادية .. كل هذا ضمن بقاء الإنسان عاجزا ( لاحظ عدم حدوث تغيير في الأمر) أمام سطوة غياب اجابات لأسئلته الميتافيزيقية مما أدى إلى اعتماده على الحواس كنتيجة منطقية لإيمانه بعدم جدوى التصورات والخيالات الأسطورية في محاولة فهم العالم . وإذا كان الإنسان قد توصل بطريقة أو بأخرى لفهم العالم الذي يعيشه وما يندرج في ذلك من إشكاليات وتناقضات ....إلخ  فإنه سيظل عاجزا عن فهم ما وراء هذا العالم .

 

 محمود : أري أن الاتكاء على الحواس المادية واعتبارها هي المستقبل الوحيد للإجابات المرتبطة بالجوانب الغيبية ليس في محله تماما لأنها غير مستعدة لاستقبال تلك الإجابات حتي ولو التحمت تلك الحواس بوعي ناضج لن ينفي هذا عجزها المعرفي والشعوري لاستقبال الإجابات الغيبية .. أرى أن استقبال الإنسان لتلك الإجابات لن يتم عن طريق تلك الحواس .

 

ممدوح : الحواس لاشيء بدون قدرات معرفية وشعورية قادرة على النفاذ إلى جوهر الأشياء واستكشاف حقيقتها والأمر في ذلك درجات مختلفة بين البشر ذلك ما يتعلق فحسب بالعالم المادي . أما عن الغيبيات فلا تثق تماما بابتعاد المدركات الحسية للإنسان عنها بشكل حاد ولكن علاقة المدركات الحسية للإنسان بالحقائق الغيبية المخبوءة الغامضة هي علاقة السائر في الصحراء الشاسعة الفقيرة بمطر سري لن ينزل أبدا .. فهل تستطيع أن تقول في هذه اللحظة أن السائر في الصحراء لا يشعر بالعطش أو أنه لا يتوق إلى الماء ؟ .. هذا هو الإنسان وهذه هي حالته . كائن يشعر بالغياب لأشياء كثيرة يفتقدها حتى لو كانت هذه الأشياء مجهولة لديه إنما هو يشعر بالتأكيد بقسوة جهله لها لأنه في أمس الحاجة إليها .. خاصة أن طبيعة العالم المادي ناقصة في ذاتها بمعنى أنها لايمكنها أن تعطي الإنسان إشباعا أبديا وهو في حقيقته إشباع زائف يكرس لقسوة متراكمة لذا فسيظل احتياج الإنسان دائما لما هو غائب عنه أبديا أيضا .

 

محمود : سأعود لمناقشة الجانب الذي تعاملت الديانات فيه مع الأساطير على مستويين الأول : إثبات الجانب الخرافي العبثي في الأساطير السابقة ، والثاني : إتخاذ الجانب الغرائبي الذي يحمل في طياته قدرا ما من الحقيقة . في المستوى الثاني أود أن أطرح سؤالا : من أين جاءت التحريفات والتنويعات التي أصابت وشوهت أو غيرت الملامح ذات الأبعاد الحقيقية التي تكمن في الأسطورة ؟

 

ممدوح : هناك أغراضا كثيرة أسهمت في إحداث هذه التحريفات والتنويعات على الأساطير فمنها توجهات المؤسسات ، ورؤوس الأموال ، والتوجهات العقائدية وأيضا إنتاج حكايات مثيرة تخدم أغراضا مختلفة مثل التسلية والتشويق والإثارة والمتعة والتغييب والأهداف الاجتماعية والاقتصادية .. في الحقيقة هي كثيرة جدا .  

 

محمود : أري أن ماقلته ينطبق على مصطلح التحريفات أما بالنسبة للتنويعات فأرى أن باعثها مختلف بعض الشيء وأكثر رقيا في أحيان كثيرة وله العديد من الأسباب منها : المعالجة الأدبية القديمة ، حيث كان الفنانون في بعض العصور القديمة يعتمدون في إنتاجهم الشعري على الأساطير القديمة ويغيرون من نسيجها المختلف عما كان شائعا حينئذ عن طريق من يقوم بحكي الأسطورة ومن ثم إكساب الأسطورة بعدا إنسانيا وشعوريا أرقى بعض الشيء من الأسطورة الأصلية .. ثم يأتي آخر ويتناول نفس الأسطورة ليعالجها بشكل مختلف وإحساس مختلف . أجزم أن مصطلح التعريفات ينطبق على صناعة الأسطورة للأغراض التي أشرت إليها ، أما التنويعات فهي في الغالب ناتجة عن رقي في المشاعر في الإنتاج الشعري الذي يميز أصحابها عن الآخرين 

( كأوفيد مثلا ) الذي قام بتأليف كتابه ( مسخ الكائنات ) والذي اعتمد فيه على أساطير إغريقية قديمة قام بإعادة صياغتها بحس مرهف يختلف عن صياغتها القديمة . أري أن ما أصاب تلك الأساطير من تجديد كان غالبا بعيدا عن سطوة السلطة والدليل على ذلك أن العديد من مؤلفات ( أوفيد ) وقع عليها سخطا شديدا من قبل السلطة الحاكمة وتعرض صاحبها للتشريد والنفي .

 

أحمد : إن شبهة التعمد التي تشير إليها في ما يخص التنويعات غير واقعية فالواقع أن معظم هؤلاء الناقلون للأساطير لم يكن متاحا لهم أي نوع من الإضافات التي تقصدها .. هذه الأساطير كانت تتناول دور العلاقة ما بين العالم الإنساني وعالم الآلهه ، ومعظم أبطال هذه الأساطير تحول إلى أنصاف آلهه ، وبالتالي فلم يكن متاحا لهؤلاء الشعراء القيام بإضافات على أدوار آلهه مقدسة  إلا بإشراف المؤسسات .

 

محمود : لن يستطيع هؤلاء الشعراء على الرغم من تميزهم عن باقي المحيطين بهم أن يبتعدوا بشكل حاد عن تأثير السلطة أو العقائد المسيطرة في تلك الفترة . ولكن هذا لا يعني أنهم يعيدون الصياغة بلا فائدة وإلا يكون هذا العمل عبثي .

 

أحمد : إن التميز ربما يكون في تحويلهم لأحداث الأساطير إلى أنشودات ولكنهم لم يضيفوا أية تنويعات ، كما أن هذا العمل لا يعد عبثيا وإنما توثيقيا تسجيليا .

 

ممدوح : مساحة الإبداع تكاد تكون منعدمة في ما يتعلق بهذا الأمر بل أن الوضع كان أكثر سوءا حينما عمل هؤلاء ما نسميهم شعراء على خدمة أغراض السلطة فكانوا أبواقا لها .

   

   

 

 

 

( 4 ) علاقة الأسطورة بالأشكال الأخرى للثقافة

 

محمود : سبق وأشرت إلى أن الأسطورة في بدايات تكوينها كانت محاولة لفهم ظواهر الطبيعة والعالم المادي المحيطة بالإنسان البدائي وتعبيرا أصيلا لعجزه عن فهم طبيعتها ، وعلى هذا تجدر الإشارة إلى أن هناك علاقة ولو بدرجة بين الأسطورة والعلم .. حقيقة أن الأسطورة لم تستطع أن تقدم فرضيات حقيقية لتفسير ظواهر الطبيعة والتي استطاع العلم بعد ذلك ـ في مراحل حديثة ـ أن يكتشف بعض الحقائق المتعلقة بالعالم المادي وبالتالي فالأسطورة من جهة ـ بعيدا عن أهدافها الأخرى ـ كانت محاولة بدائية لفك طلاسم الظواهر المادية التي عجز الذهن البشرى عن تفسيرها حينذاك .

 

ممدوح : أعتقد أنه لولا إسقاط الإنسان لخيالاته وأحاسيسه وانفعالاته على مظاهر الطبيعة ما كان توصل إلى الفهم الموضوعي لجوهرها ( العلم ) . فمشاعر الإنسان البدائي الفطرية وتساؤلاته وتعامله الغير مقنن مع مختلف أشكال الطبيعة هي التي قادته في النهاية إلى وضع أسس للتعامل معها بناء على هذا الفهم .

 

أحمد : العلم مثل نوعا من رد الفعل على الأسطورة سلبا أو إيجابا ومن الملاحظ أن مراحل تطور العلم شهدت أيضا ضمور الأسطورة وبالتالي يمكننا القول بأن العلاقة بين العلم والأسطورة هي علاقة الضد .

 

ممدوح : لا يمكننا الفصل بين مرحلتي الأسطورة والعلم  فأنا أرى أن العلم هو التطور الطبيعى لمرحلة الأسطورة فما اكتسبه الإنسان من خبرات معرفية نتيجة لتساؤلاته وسعيه للفهم في عصر الأسطورة هو الذي جعله يؤسس لمرحلة التعامل مع الأشياء بشكل علمي .

 

أحمد : هذا التطور قاصر على الجانب المادي من الأسطورة بمعنى التساؤلات المرتبطة بالطبيعة المادية .. أما التساؤلات الكونية والوجودية فلم يستطع العلم الإجابة عنها وبالتالي ظلت الأسطورة لفترة قائمة بسبب ارتباطها بالجانب الكونى أكثر من ارتباطها بالجانب المادي الذي يمثل جانبا هامشيا في الأسطورة .

 

محمود : أؤكد على أن الأسطورة هي بداية العلوم الطبيعية ولكن وفقا لتصورات بدائية ارتكزت على عقل بشري غير قادر على تفسير ظواهر الطبيعة ثم انحرف دورها بفعل المؤسسات لربط الأسطورة بالدين القديم ورؤيته لكيفية تكون العالم المادي والوجود المفروض من المؤسسة ومن ثم كانت محاولة الأسطورة في بدايتها لتفسير ظواهر الطبيعة محاولة طبيعية وتلقائية متدرجة وفقا لتطور العقل البشرى وبعيدا عن سلطة المؤسسة . وبسيطرة المؤسسة على الأسطورة فرضت عليها حقائقها الخاصة

( المزعومة )  والتي لا يجب تجاوزها أو رفضها  .. مثلا : الكرة الأرضية ونشأتها كانت لقرون طويلة سطحا ممتدا لدى العديد من الديانات الأرضية والسماوية وخاصة المسيحية وكان المعارض لهذا التصور كافرا لدى المؤسسة ، وأعتقد أن تدخل المؤسسة في تكوين الأسطورة انتكاسة حقيقية لديناميكية العقل البشرى في تفسير الظواهر الطبيعية ولقرون طويلة كانت المؤسسة عائقا حقيقيا أمام العقل البشرى لفهم الظواهر الطبيعية .

 

ممدوح : ما أردت توضيحه فقط أن الإنجازات العلمية التي تمت في عصر العلم محدودة ويكفي أنها لم تجب على استفسارات الإنسان عن الكون ومن جانب آخر فحتى هذه المنجزات المحدودة ـ وليكن الطب مثلا ـ  تم التوصل لها نتيجة أرق الإنسان البدائي بما يحدث له من ظواهر غامضة في عصر الأسطورة وسعيه لفهمها  .

 

أحمد : لا أعتقد أن الأسطورة مثلت استفزازا علميا كبيرا لدى الإنسان فلم أقرأ أسطورة موضوعها الأساسي سبب وجود النار وإنما كانت تناقش مثل هذه الموضوعات في إطار التساؤلات عن الخلق مثلا . معظم الإنجازات العلمية اعتمدت على الاكتشاف ثم التساؤل .. أما الأسطورة فقد اعتمدت بالأساس على التساؤل .

 

ممدوح : التعامل مع المادة في الأساطير كان موجودا في أشكال رمزية واكتشاف الإنسان لأي منجز علمي مهما كان بسيطا سبقه شعور بالمشكلة وتصادف من خلال التجربة وجود حل لها بشكل ما .

 

أحمد : ما أردت توضيحه أن خط سير الأسطورة تعارض مع العلم .. على سبيل المثال بينما كان أرسطو يثبت علميا أن الأرض سطحية وظلت هذه النظرية هي السائدة في أوروبا حتى عصر النهضة كانت الأساطير اليونانية تشير إلى كروية الأرض .

 

محمود : على الرغم من وجود علاقة بين العلم والأسطورة الأول ضيق والآخر أكثر اتساعا في الإجابة على الإشكاليات الكبرى .. إلا أنه من وجهة نظري أن الإنجازات العلمية التي تحققت والتي سوف تتحقق ليس دورها الأصلي هو الإجابة على إشكاليات الوجود بل محاولة لإحداث درجة من درجات الصمود في مواجهة العالم ( تحقيق رغبات الإنسان واحتياجاته ومحاولة إشباعها ) .

 

ممدوح : أود التأكيد على ملحوظة سبق وأشرت إليها في فصول سابقة وهو أنه كلما حدث تطورا في العلم كلما شكل ذلك نوعا من الازدواج بين ابتعاد الإنسان عن فهم طبيعة الغموض الكوني وبين ازدياد سعيه المحموم في محاولة فهمه .

 

أحمد : بالنسبة لعلاقة الأسطورة بالتاريخ  يوجد تساؤل : هل يمكننا اعتبار الأسطورة مصدرا تاريخيا ؟ لابد من التفريق بين الأسطورة وبين الملاحم التي تحتوى على بطولات خارقة ( الإلياذة والأوديسا ) على سبيل المثال  ، والتي تمثل أحداثا حقيقية تم إكسابها صفات أسطورية .. والأخيرة هي فقط الصالحة لاعتبارها مصدرا تاريخيا ، أما الأولى فمن الممكن فقط استخلاص عن طريقها حجم الوعي وطريقة التفكير في العصر التي نشأت فيه .

 

محمود : أرى أن هناك فرقا بين الأسطورة والتاريخ  من حيث المكونات والأدوات فتكوين الأسطورة  ـ من وجهة نظري ـ هو نتاج نشاط ذهني تخيلي لأنها لو قدمت فروضا أو حقائقا ملموسة ( سواء كانت صحيحة أو خاطئة ) لما أصبحت أسطورة ، أما التاريخ فهو نتاج نشاط ذهنى مرتبط بالواقع وحركته .

 

ممدوح : لى تعليق على مقولة ( شتراوس )  بأن التاريخ ( نسق مفتوح ) والأسطورة ( نسق مغلق ) فإذا كان يقصد بالنسق المفتوح تعدد الدلالات والتأويلات وبالمغلق الدلالة الأحادية فإنني أرى أن هذه المقولة تتطلب مراجعة ذلك لأن طبيعة الأسطورة المعتمدة على الرموز هي التي تجعل منها نسقا مفتوحا أما التاريخ الذي لا يعتمد على الرموز بل تدوين الواقع المباشر  وتحليله فإن هذا ما يجعل للتاريخ نسقا لا أقول مغلقا ولكن ذو دلالات محدودة .

 

محمود : التاريخ كشكل علمي في تحليله للواقع له حدوده المرتبطة بالعالم المادي ، ولو صيغت أسطورة تعلقت بحدث تاريخي وقع بالفعل أو كان مختلقا  ولم يثبت صحته بالأثر المادي ذلك يبعد الأسطورة الملحمية وأساطير البطولة عن جوهر تكوين الأسطورة في الإجابة عن الإشكاليات الكونية وانغماسها في مرادفات وأحداث العلم المادي .. التاريخ من وجهة نظرى يشبه العلوم الطبيعية وإن اختلف في الأدوات ومناهج البحث العلمى في بعض الأحيان .. فالتاريخ مرتبط بتفسير حركة الواقع  والعلاقات في المجتمعات الإنسانية المختلفة ، أما العلوم الطبيعية لإيجاد وسائل لكيفية الحركة .

 

أحمد : أولا : من غير الممكن اعتبار التاريخ علم لكن يمكننا وضع التاريخ في مكانة وسط بين العلم والفن فهو يعتمد بالأساس على الحدس والتجربة الشخصية بالنسبة للمؤرخ  .. كما يعتمد من وجهة أخرى على المادة التاريخية والتي يمثلها كم من الخبرات الحياتية المسجلة . فالواقع لا يحتاج التاريخ لأثر مادي لاستنتاج الحدث ، وأود التعليق على مقولة أن مطالع التاريخ  تزامنت مع انتهاء الأسطورة فإذا كان المقصود بأن البدايات التاريخية شهدت سقوط الأسطورة فهي مقولة خاطئة . لقد دون الإنسان البدائي تصوراته حول الكون وحول الطبيعة في مراحل مبكرة لتخليد هذه التصورات .. فمحاولات حفظ الأسطورة أدت لنشأة التاريخ والذي اعتمدت عليه المؤسسة فيما بعد في تحويل الأسطورة إلى معتقد ، لكن هذا لايعني وجود تشابها بين التاريخ والأسطورة .. التاريخ هو تطور صور النشاط الإنسانى عموما لاستخلاص طبيعته الحقيقية وفلسفته ، ويسعى للإجابة عن مدى جدوى هذا النشاط أما الأسطورة فقد مثلت إجابة على تساؤلات بسيطة عن الكون والوجود ارتبطت بالخيال

والأحاسيس ، الأسطورة بهذا الشكل هي نشاط إنساني يرصده التاريخ لقياس مراحل تطور الوعي .

 

محمود : بالنسبة لعلاقة الأسطورة باللغة أورد ( ماكس مولر ) أن اللغة هي المفتاح الوحيد لفهم الأسطورة وأن الأسطورة لا تعدو أكثر من مظهر من مظاهر اللغة ( مظاهرها السلبية لا الإيجابية ) في حين أن ( كاسيرر ) أكد على أن جوهر كل شخصية أسطورية يمكن اكتشافه من اسم الشخصية . . أرى تعارضا واضحا وعميقا بين وجهتى النظر السالف الإشارة إليهما ، فماكس موللر اعتبر كما فهمت أن الأسطورة مجرد نشاط لغوي وهذا يتنافى مع أن نشأة وتطور اللغة كانت ضرورة ملحة للتعبير عن الأفكار والمشاعر الإنسانية . في حين أننى أتفق مع (كاسيرر) في حدود مقولته أنني من الممكن أن أضع يدي على جوهر كل شخصية أسطورية من مدلول اسمها ولكن في بعض الأحيان .

 

ممدوح : المفترض أن اللغة هي مسمى للشيء أى التدليل على وجوده من خلال منحه صفة أو صيغة تعبيرية للإشارة إليه . إذن الأسطورة من هذا المنطلق هي شيء يتم التعبير عنه من خلال المسمى أو الإشارة وعلى سبيل المثال أنه لو كانت هناك مفردات لغوية أخرى للتعبير عن محتويات الأسطورة لأشارت هذه المفردات المختلفة لنفس صور المحتويات . من هنا يمكن التأكد من أن اللغة هي وسيلة تعبير عن الشيء الذي لا يتغير . أما بالنسبة لمسألة تعبير اسم الشخصية عن جوهرها فإن هذا الأمر لا يمثل قانونا ملزما لكافة الشخصيات الأسطورية .

 

أحمد : إن الاسم الذي يطلق على الشخصية الأسطورية لا يعدو أن يكون محاولة لإثارة خيال المتلقي لتكوين صورة ذهنية لهذه الشخصية  . وبالتالي فهو يستخدم فقط أحد أبرز مظاهرها .. أما جوهر الشخصية فمن غير الممكن الاستدلال عليه من الاسم .  فمثلا الإله الزرادشتى ( أهورا مزدا ) يعنى الإله النور إلا أن جوهر طبيعة هذا الإله لا يمكن الاستدلال عليه دون الرجوع إلى ترانيم زرادشت أو كتاب ( الأفستا ) . لقد فهم الزرادشتيون المعنى بطريقة مادية فاعتقدوا أن النار هي مظهر هذا الإله وكان سبب هذا الاعتقاد وجودهم في مناطق تعاني من البرد القارس والظلام وهذا بالتأكيد لم يكن هو المعنى الذي قصد إليه زرادشت من كلمة النور والتي تشير إلى حكمة الإشراق والحقيقة . 

 

محمود : أعود مرة أخرى لمقولة ( ماكس مولر ) سالف الإشارة لها وذلك في وجود تعارض بين الجملة الأولى ( اللغة هي المفتاح الوحيد لفهم الأسطورة ) وهذا ما يؤكد دور اللغة في تصوير وفهم مضمون الأسطورة وأبعادها من خلال ارتداد الألفاظ إلى الذهن البشرى .. في حين أنه في الجملة التالية يؤكد على أنها ( لا تعدو أكثر من مظهر سلبي لا ايجابي ) وبالتالي ذلك يضعف تماما من قيمة الأسطورة ونشأتها وأنها مجرد هراء ذهني احتاج اللغة وألفاظها لنسجه ، ولذا أختلف معه أولا في أن اللغة سابقة على نشأة الأساطير لقدرتها على نقل الأفكار والمشاعر الإنسانية خارج كينونة صاحبها ولذا تكون هي الوسيلة الوحيدة لانتشار الأسطورة وتصوير أبعادها حتى لو كانت مرتبطة  فقط  للتصدى ورصد ظواهر الطبيعة التي أثارت الذهن البشرى  ، وبدون اللغة في تصوير الأسطورة ستكون مجرد حلم ( أو نشاطا ذهنيا خاصا  وغير قابل للتحرك خارج ذهن صاحبه ) .. أما أن تكون الأسطورة مجرد مظهرا سلبيا من مظاهر اللغة فذلك يجعل منها ومن نشأتها الأولى مجرد صنعة زائفة ، ولا أدعي أن اسم الشخصية الأسطورية على الإطلاق يعبر عن جوهر الفعل فتوجد أسماء لشخصيات أسطورية جاءت في مراحل متأخرة لا تعبر بالضرورة عن جوهر الفعل وطبيعته الخارقة  وذلك واضح في الأساطير المتعلقة بشخصيات تاريخية تم نسج أساطير حولها أو شخصيات مصنوعة ومختلقة .

 

ممدوح : مفهوم الجوهر لا يمكن تحديده عند أي انسان إلا من خلال إسقاط الدوافع والمشاعر والآراء الشخصية من الآخر . اللهم إلا من خلال رصد موضوعي  للنماذج البشرية العادية في الحالات الاستثنائية ودون إطلاق الصفات المحددة والملزمة للتعامل معها كنسق ثابت يمثل التعريف الجامع المانع باعتبار أن المسألة تشمل متناقضات هائلة  ومن هنا نتج كل هذا الاختلاف في تحديد الهوية الباطنية للفرد باعتبار أنها راجعة بالأساس للذهنية التي تناولت الأساطير . ومن هنا أؤكد على أن الجوهر الإنسانى ذو طبيعة مراوغة وشائكة لا يمكن تحديدها بالمسميات السهلة والمجانية وإنما بالتحليل الموضوعي الذي لا يمثله على الإطلاق اسم الشخصية الأسطورية .

 

أحمد : كونه ذو طبيعة مراوغة وشائكة لايمكن تحديدها بالمسميات السهلة والمجانية يعني أنه أكثر عمقا من هذا التصور المغرق في السطحية الذي وصفه به كلا من ( مولر )  و ( كاسيرر ) .

 

ممدوح : ذكر ( فرويد ) أن الأساطير هي تعبير عن الحياة الانفعالية للإنسان متخذة الأشكال الرمزية المقاربة لحالة الحلم ، ولكنني أود أن أناقش مجموعة من الأشياء .. على سبيل المثال : ماهي طبيعة المواد التي تكون الحياة الانفعالية للإنسان ؟ وما هي علاقتها بالأساطير ؟ وهل هذه المواد يمكن أن نطلق عليها بشكل تعميمي أنها تمثل مايكمن في أعماق أي فرد في العالم ؟ أم أنها تختلف من شخص إلى آخر ؟ . وهل أساس الحلم فردي ويتطابق مع أحلام الآخرين ؟ أم أن الحلم هو نسق واحد تختلف تفاصيله فقط من شخص إلى آخر؟ . أعتقد أن فرويد ذكر أن الأساطير تعبير عن حقيقة اجتماعية وليست شخصية تماما مثل الحلم . من خلال كل ما سبق أرى أن ( فرويد ) قد اقترب من فهم مهم جدا لطبيعة الأساطير في كونها تعبيرا عن أنساق الرغبات الموحدة لدى جميع البشر باختلاف تفاصيلها ولكنها تقود في النهاية إلى نتائج محددة ، ولكن أعتقد أن ( فرويد ) لم ينجح في توضيح ماهية هذه الأنساق المحددة أو النتائج التي تصب فيها الانفعالات المتشابهة لدى الأفراد ، وأعتقد أن هذا الأمر يقودنا إلى فكرة رئيسية ألا وهي ( هل هذا تأكيد على الوجود الفعلي للوعي الجمعي ؟ ) لو صح هذا التأكيد لتوصلنا إلى نتائج واضحة .. مثلا : أن البشر جميعهم يحلمون حلما واحدا مختلف الأحداث وأن هذا الحلم هو تعبير عن شيء واحد لا يتغير وأن الأساطير بدورها هي تعبير عن مجموعة من المشاعر الرئيسية تظهر في حكايات مختلفة .

محمود : ذكر (  فرويد )  أن أكثر الأشياء مشابهة لحقيقة الأسطورة على المستوى الاجتماعي هو الحلم على المستوى الفردي . أتفق معه في هذا التشبيه بشكلٍ عام ، ولكن ما هو حال الوعي الإنساني في الحلم وحاله في الأسطورة ؟ أرى اختلافاً بين المستويين فالحلم على المستوى الفردي ـ حتى وإن كانت بعض الكادرات ( الصور ) الموجودة به داخل الذهن البشري حال النوم ـ انعكاسا لمرادفات مادية تظهر في أشكال غرائبية ولا منطقية ولكن الذهن البشري حال الحلم يكون سلبياً في مواجهة تلك الأشكال ويكون مستسلماً ومنسحقاً أمامها حتى ولو كان منفعلاً بها انفعالاً كاملاً ( انفعال غير واعي ) . تختلف الأسطورة في ذلك على المستوى الاجتماعي حتى ولو أكدنا أنه على الرغم من اختلاف الأساطير في تفاصيلها إلا أنها مشتركة في خطوطها العريضة .. فالوعي الجمعي حال الأسطورة يكون في مواجهة مرادفات العالم وسعياً لإيجاد تصورات عن حقيقته - حتى ولو كانت تلك التصورات بدائية وغرائبية وغير ناضجة كالحلم تماماً - إلا أن الذهن ( الوعي الجمعي ) يكون إيجابياً وفاعلاً في صنع كادراته ورسم تفاصيل الأسطورة ويكون أكثر جرأة في محاولة رصد تلك المرادفات المادية وما فوق المادية ،

وبالتالي فالوعى الجمعي حال الأسطورة ( ديناميكي ) . أما الذهن البشري حال الحلم ( لا ديناميكي ) حتى و ولوكانا ( الأسطورة والحلم ) يؤكدان على نتيجة واحدة ومطلقة وهي الخوف والجهل ..... الخ من الوجود .

 

 

أحمد : من غير الممكن اعتبار النهاية الواحدة المشتركة ما بين الأسطورة والحلم تمثل تشابهاً على نفس المستوى الذي يشير إليه ( فرويد ) . الأسطورة هي نتاج مباشر للوعي الجمعي أما الحلم فهو نتاج يتدخل فيه الكثير من مراحل الخصوصية الفردية الأمر الذي يضعف تأثير الحلم في إنتاج الأسطورة . كما أود مناقشة تشابه آخر ذكره ( فرويد ) بين الحلم والأسطورة وهو انعدام الزمان والمكان في كليهما ..  هذا الرأي يتعارض مع مقولته عن كون الأسطورة حقيقة اجتماعية والتي تفترض ارتباطها بوعي الإنسان في زمان ومكان محددين ، الحقيقة أن الأسطورة ترتبط بزمان ومكان وتتخذ أشكال متطورة ومعبرة عن التطور الحضاري للإنسان والذي يعبر عن نفسه بإنتاج العديد من التساؤلات الجديدة التي يرى الإنسان أنه يجب عليه الإجابة عنها ، إلا إنها لا ترتبط كثيراً بالواقع الاجتماعي والذي يعبر عن أشكال اقتصادية وسياسية وعادات وتقاليد مختلفة من عصر إلى آخر ، هذه العناصر السابقة لا تؤثر بشكل جوهري في الأسطورة.

 

ممدوح : الخصوصية الفردية التي تتحكم في مادة الحلم البشري تصب في النهاية في خانة اللاوعي الجمعى وهذا ليست له علاقة بتأثير الأحلام في إنتاج الأسطورة فهذا موضوع آخر لأن الأسطورة تتخذ منطقا متشابها وليس متطابقا مع الأحلام في هذه المسألة . أما عن الواقع الاجتماعي فيمكن اعتباره هو الطبقة السطحية للتعبير عن جوهر مشاعر الفرد فالمسألة ليست لها علاقة بالأشكال الاقتصادية والسياسية لأنها مجرد أنساق وجدت للتعتيم على حقيقة تساؤلات الفرد الكونية .. وحتى لو تم الانطلاق منها لتشكيل المادة الأسطورية فهي كما يحدث في الفن والفلسفة مثلا تعد مدخلا يتم عبوره وتجاوزه للوصول إلى الدلالات الغير محددة بواقع معين ( المكان والزمان ) وهذا في رأيي ما جعل الأسطورة تتخذ كل هذه الأبعاد الميتافيزيقية والتي تتشابه بشكل كبير مع الأحلام ولا أقول مستمدة منها.

 

محمود : هناك مقولة ترى أن هناك اندماجاً كاملاً بين الفن والأسطورة .. وهذه مقولة تحمل في طياتها مجازفة كبيرة في تأصيل هذا الاندماج وما يحويه من ربط قاطع بينهما . فالأسطورة وإن كان وجودها منذ آماد سحيقة وكونها انعكاساً ملحاً يصور رؤية الإنسان البدائي عن مرادفات العالم المادي وقوى الطبيعة في إطار أشكال غرائبية ( لقصور الوعي ) ناتجا عن ضآلة الإنسان وانسحاقه في مواجهتها وإن كان الاندماج المزعوم ناتجاً عن خلط وقع فيه صاحبه بأن الرسوم القديمة الموجودة في الكهوف تعتبر أشكالاً فنية بالمعنى الحديث والتي أرى أنها  ـ من وجهة نظري ـ  لا تعتبر لوحات فنية ولا تعدو أكثر من انعكاس لأساطير تم رسمها على تلك الجدران أو مجرد تعويذة للحماية من قوى الطبيعة . ولم يكن هناك أي نزعة جمالية كامنة خلف تلك الرسوم وبالتالي يجب أن نفصل بين تلك الأشكال القديمة والفن بمعناه لأن الفنون أحد أبرز أدوراها الرئيسية هي تأصيل للقيم الجمالية وإحداث درجة من درجات التوازن بين الإنسان ( كمطلق ) والعالم .. وبالتالي فالفن بواعثه أرقى بكثير من الأسطورة لأن الإنسان ( المبدع ) حال إتمامه لأية عملية إبداعية يكون فيها أكثر فاعلية ومركزية وديناميكية على مستوى الوعي بخلاف الأسطورة التي لا تعتمد في الأساس على إحداث أو تأصيل قيم جمالية.

 

ممدوح : بداية أنا ضد اتصاف الأسطورة بقصور الوعي فالغرائبية عند الإنسان البدائي وجهله بقوانين الطبيعة وخوفه الناجم عن هذا الجهل كل هذا ليس شرطاً لأن ندعي أنه كان قاصراً في تصوراته عما وراء هذا الجهل وهذا الخوف . والمشكلة التي لمستها في حديث ( محمود ) تنقسم لجزئين أولهما : عدم الأخذ في الاعتبار أي ملمح عن تاريخ الفن ومراحل تطوره ، وثانيهما : أنه ليس هناك تعريفا قاطعا للفن يستبعد الأسطورة ويستبعد بالتالي النقوش التي وجدت على جدران الكهوف . أما فيما يختص بالنزعات الجمالية المرتبطة بالفن فأعتقد أنه لا يجب استخدامها كوصفة ثابتة أو كقانون ملزم

( بالمعايير المنتشرة لعصر ما ) وتطبيقها على جميع العصور المختلفة خاصة الأساطير .. فإذا كان الفن نابعاً من أرق ووعي خاص بالأشياء فإن طبيعة هذا الأرق وهذا الوعي هي التي تحدد سمة الفن الناتج عنهما ..  لذا فإذا كان يمكن اعتبار النقوش مثلاً لا تمت للفن طبقاً لمعايير معينة فإنها قد تتماس على الأقل مع روح الفن بشكل عام طبقاً لمعايير مرحلة الأساطير آخذين في الاعتبار كما سبق وذكرت تاريخ الفن ومراحله المختلفة . أما بخصوص القيم الجمالية للفن التي تحدث عنها ( محمود ) ولم يعتبر الأساطير جزءاً منها فإنه بالطبع لا يمكن أن تنكر القيمة الفنية للتعاويذ التي تستخدم للحماية والتي تحدث عنها كمثال ..  فقط إذا حاولت التواصل أو الاشتباك مع الهم الإنساني الذي يقف خلف هذه التعاويذ بمعاييره الخاصة وليس عبر قانون جاهز ، وبالنسبة لتعريف الفن بأنه وسيلة لإحداث التوازن بين الإنسان والعالم فعلى الرغم من أن هذا التعريف يأتي في سياق تعريفات لا حصر لها أخرى عن تأثير الفن فإننا لو التزمنا بالمعطيات المحدودة لهذا التعريف وطبقناها على الأساطير أو على الرسوم الجدارية فلن نستطع أن ننفي عنها هذه الصفة ( محاولة إيجاد توازن ) .

 

محمود : الإنسان البدائي حال رسمه على الجدران ( للثور مثلاً ) لم يكن الباعث لرسمه استهداف قيمة جمالية عن عمد بقدر استحضار هذا الثور بين يديه واخضاعه لسيطرة لم يكن قادراً في وقتها عن ممارستها عملياً ( عجز وقتي ) وبالتالي قد اختلف نسبياً مع ( ممدوح ) في قوله أن هناك تماس للأسطورة - على الأقل - مع روح الفن بشكل عام طبقاً لمعايير معينة وذلك لأن تلك الرسوم البدائية جداً والتعاويذ ؛ الإنسان المعاصر هو الذي أكسبها أو انتزع منها قيماً جمالية لم تكن أصيلة أو ملحة بالدرجة عند الإنسان البدائي  .

 

ممدوح :هناك مشكلة وهي أنك تتحدث من خلال قانون ثابت للفن وهذا أبسط إشكال يمكن ملاحظته عند من يتعامل مع الفنون بمعايير ملزمة

 وجاهزة  ..  كما سبق وذكرت بأن الباعث الرئيسي للفن هو أرق والمفترض أن يخرج هذا الأرق في شكل تعبيري .. لو حاولنا تناول الرسوم على الجدران من هذا المنطلق فإننا لن نقف عند حد إخضاع الأشياء للإنسان البدائي عبر رسمها على الجدران بل ستنجاوز ذلك إلى ما هو أبعد كالخوف مثلاً والرغبة في الإشباع أو على الأقل الفهم وهذه السمة هي التي تشكل المساحة الرئيسية للفنون المختلفة عبر التاريخ . أعتقد أننا سنكون أكثر موضوعية واقتراباً من روح الأساطير لو تخلينا عن السمات والوصفات الجاهزة التي تريد إخضاع الأساطير لمنطق ذهني وقالب ثابت تتشكل معاييره من معطيات عصر محدد وتتجاهل الروح الأصيلة للفنون جميعها والتي تظل موجودة وحاضرة عبر جميع العصور .

أحمد : لابد من توضيح أن نقوش الكهوف كانت مرحلة سابقة حتى على الأسطورة ، وقد حاول الإنسان عن طريقها التعبير عن ممارساته الحياتية ؛ إلا أن مجرد استخدامه لهذه الوسيلة يمثل دليلاً على مدى إلحاح القيم الجمالية لديه ؛ وإلا فإن مجرد التعبير اللفظي عن هذه الحياة كان كافياً . إن الفارق هو تطور الوسيلة وتطور التساؤل والذي يؤدي بالتأكيد لتطور طريقة التعبير واتخاذها أشكالاً مختلفة.

 

محمود : ما دليلك على أن نقوش الكهوف كانت سابقة على نشأة

 الأسطورة ؟ وهل الوعي الجمعي الذي اعتبرناه أرض خصبة لها مرتبط بنشأة الجماعة  وعلى هذا اعتبرت أن الأسطورة تالية للنقوش ؟

 

أحمد : لن أتحدث عن الأدلة التاريخية ؛ لكن أسلوب حياة الإنسان في الكهوف كان يمثل مرحلة عانى منها الإنسان من ضغوط السعي لإشباع حاجاته الضرورية ( الطعام ، الشراب مثلاً ) في كل لحظة، وبالتالي فإن تعبيره عن الأرق كان مرتبطاً بافتقاده اليومي لهذه الاحتياجات ، أما الأسطورة فهي تعبير عن أرق مستقر وهو بالتأكيد مرتبط باستقرار الإنسان واكتشافه للزراعة ، وفيما يخص الوعي الجمعي فإنه غير مرتبط بنشأة الجماعة فالنقوش التي اكتشفت في آسيا تتشابه كثيراً مع النقوش المكتشفة في أوروبا .

 

ممدوح : أريد أن أتعرض لقضية علاقة الأسطورة بالموسيقى فهناك تشابها بينهما من وجهة نظري يتعلق بالمصدر الذي تنطلق منه العملية الإبداعية لكلتيهما فثمة انفعال أو أرق بإشكالية ما يقف وراء إنتاج الأسطورة والموسيقى

ولكن أعتقد أن الفرق بينهما يكمن في الطبيعة المختلفة لذلك الإنتاج فبينما تمنح الأسطورة أبعادا معرفية لابد منها ـ حتى ولو كانت غير مباشرة ـ  فإن الموسيقى لا تعطي هذه الأبعاد المعرفية وإنما تعطي دلالة تجريدية تعبر عن مشاعر وانفعالات مبهمة حتى ولو اكتسبت تلك المشاعر دلالة معرفية عن طريق اسم المقطوعة الموسيقية مثلا فإنها تبقى في مستوى من المطلق غير محدد بواقع أو حدث معرفي مدرك في سياق الخبرات الحياتية .

      

محمود : إن اشتركت الأسطورة والموسيقى في الأرق والانفعال بإشكاليات الوجود فهل هناك سمات مشتركة بينهما تجعلهما تؤديان نفس الغرض وتكون العلاقة بينهما نابعة من ذلك التقارب واتحادهما في الغاية أم نتعرض لهما من حيث كيف تنشأ تلك الأسطورة وكيف تنشأ تلك المقطوعة الموسيقية ؟ ..  

قرأت أن السرياليين يضعون الفن التشكيلي والموسيقى ثم السينما في المقام الأول باعتبارهم أكثر رحابة في إعطاء مساحات لا نهائية للمبدع في التعبير عن ذاته والمشاعر الكامنة ( على مستوى الوعي واللاوعي أيضا ) أكثر من الاهتمام بمشاعر الآخرين وإقامة تصورات وخطوطا عريضة تبرز قوانين وجودية عامة وجارفة . لو صح أن الموسيقى كذلك بالنسبة للسرياليين فإنها بذلك تكون مختلفة عن الأسطورة من حيث النشأة والتكوين لأن الموسيقى ترتكز على ذات المبدع ولا تتجاوز انفعالاته وأرقه الشخصي والذي لا ندري هل سيكون جزءا من إشكاليات كونية عامة أم أرق مادي دنيوي دفعه

 للإبداع  ؟ أما الأسطورة فنتاج للعقل الجمعي الذي ألح في نسجها وترسيخها حتى وإن اشتركا في التعبير عن الأرق والانفعال بإشكاليات الوجود ..  فالموسيقى تعتمد على التجريد أما الأسطورة فتعتمد على الرمز أو دلالات لغوية غير مباشرة .

 

 

ممدوح : سبق وأن بينت من وجهة نظري أن الدافع للإبداع الحقيقي سواء بالنسبة للأسطورة أو للموسيقى مشترك فهما في النهاية نتاج وتعبير عن أرق مع اختلاف طبيعة هذا الأرق و تفاصيله التي تختلف من مبدع إلى آخر .. ولكن هناك اختلاف في طبيعة كلتيهما وهو نفس الاختلاف بين التجريد أو المطلق وبين ما هو معرفي . وصراحة فإنني أمتلك تحفظات لا حصر لها علي رؤية السرياليين للفن ووظيفته وتقسيمهم المجاني لأنواع الفنون ولقد أوضح ( محمود ) جانبا مهما من هذه التحفظات .. ولكنني أختلف مع

( محمود ) في أن الموسيقى ترتكز على ذات المبدع وفي نفس الوقت أتفق معه لأنني من الممكن أن أفترض مثلا مؤلف موسيقي أنتج مقطوعة موسيقية يريد أن يعبر بها عن أرقه الوجودي تجاه الموت ووضع في نغماتها مايحمل أفكاره عن ذلك الأمر .. أليس من الممكن في وقت ما وفي زمن آخر وفي مكان بعيد أن تستمع إلى هذه المقطوعة فتاة تعاني من مشكلة جفاء الولد الذي ترغبه وتجد أن هذه المقطوعة قد عبرت بشكل حقيقي عما يدور بداخلها من انفعالات ومشاعر تجاه هذا الأمر ؟ .. إذا إتفقتم معي في إمكانية حدوث ذلك فمن الممكن اكتشاف الفارق الذي سبق وتحدثت عنه بين ماهو معرفي وبين ما هو تجريدي . ولكن هذا لا يعطينا الحق في نفي الأرق عن صاحب هذه المقطوعة لأن هذه القضية تتعلق بطبيعة ذلك الفن وليس بطبيعة ممارسه مع الأخذ في الاعتبار إمكانية اقتران الموسيقى بأنواع أخرى من الفنون كالدراما مثلا التي حينئذ ستمنحها الأبعاد المعرفية التي تندرج في سياق الخبرات الحية في هذا العالم .

 

أحمد : لقد نشأت الموسيقى في المعبد عندما تحولت الأسطورة إلى دين لتعبر بشكل مستقل عن الجانب الانفعالي من الأسطورة، في حين تولى الشعر التعبير عن الجانب المعرفي وكذلك الرسم والمسرح توليا التعبير عن الجانب التجسيدي لها ... ومالبثت هذه الفنون ومن بينها الموسيقى أن استقلت فيما بعد في أغراضها عندما انتهت الأسطورة وإن احتفظت بطبيعتها. إن الأسطورة تحتوي على جانب من التجريد فهي ليست منطقية بالكامل وهذه الجزئية هي التي استقلت بها الموسيقى والتي تتلائم مع طبيعتها كفن يعتمد على الدلالات والمشاعر الانفعالية.

 

ممدوح : حينما تكون هناك تفرقة بين شيء وشيء آخر لابد أن يكون في أحد الشيئين ما يتناقض مع ما يوجد في الشيء الاخر وعلى هذا فليست هناك تفرقة بين التجريد والمنطق لأن كليهما ليسا ضد الآخر فالتجريد يعني الشيء المطلق الذي لا يُحدد بتعريف جزئي وهذا لا ينفي منطقيته التي تعني إمكانية حدوث الشيء الذي لم يُكشف عنه بشكل واضح في المُجرد وهذا الحدوث المنطقي الذي يعني إمكانية وضعه في نطاق حياتي أو يومي معتاد وملموس أو يمكن تخيله أو استنتاجه.

 

محمود : أتفق مع ممدوح فيما ذكره ، وقد اتفقنا من قبل على أن الأسطورة منطقها اللا منطق وأنها تعتمد على الغرائبية أما الموسيقى ـ وإن كانت تجريدية في حال انعزالها عن أي أشكال فنية أخرى ـ إلا انها مُمنطقة ( لها منطقها الخاص ) فبالرغم من أنها لا تقدم دلالات معرفية إلا أنها لا تعتمد منطقياً على الغرائبية، ولكن هناك سؤال ما المقصود من أن الأسطورة تحتوي على جانب من التجريد وبالتالي ليست منطقية بالكامل ؟ وما طبيعة هذا التجريد ؟ وهل التجريد يعني اللا منطقية ؟ .

 

أحمد : تعتمد طبيعة المنطق على التحديد المعرفي وبالتالي فالتجريد كما عرفه ( ممدوح ) لا يتفق مع المنطق لأنه موضوع في نطاق الاحتمال، ويمكن الإشارة إلى المثل السابق الذي ضربه ( ممدوح ) والخاص بالعلاقة بين أرق المؤلف الموسيقي والمشاعر التي انتابت الفتاة التي تعاني من جفاء الولد الذي ترغبه عقب سماعها للمقطوعة، الأمر ليس متعارضاً بحدة ولكنه أيضاً ليس متوافقاً، ولا أعرف ما معنى أن الموسيقى ممنطقة ؟ وفيما يخص أسئلة محمود حول المقصود من احتواء الأسطورة على جانب من التجريد، فهي ترتبط بالحالة الانفعالية للأسطورة وهذه الحالة لا تشبه الانفعال الذي تثيره الموسيقى وإنما استخدمت الموسيقى كوسيلة لإثارته بدرجة أكبر، وبالنسبة لطبيعة هذا التجريد داخل الأسطورة فهو ليس انفعالاً واضحاً مستقلاً عن نص الأسطورة وإنما هو انفعال مستبطن لأحداثها، وبالتالي فقد استخدمت الموسيقى في عرض الأسطورة بما يشبه الموسيقى التصويرية لإثارة أكبر قدر من الانفعال مع هذه الأحداث، وبالنسبة للسؤال الثالث : هل التجريد يعني اللا منطقية ؟ اعتقد أن التجريد مختلف ولكنه لا يعني اللا منطقية بنفس هذه الحدة.

 

ممدوح : أولاً لا زلت أركز على كونك تقارن بين شيئين غير متناقضين فالتجريد حينما يتخلى بطبيعته عن ما هو معرفي ( الجزئي ) فإن هذا لا يعني تخليه عن المنطق وبهذه المناسبة أرى أن المنطق بتعريفه الذي يعتمد على التحديد المعرفي كما أشرت تعريفٌ غير مناسب لأن المنطق من الممكن بالطبع أن يتناول شيئاً تجريدياً فلو ضربنا مثلاً عن هذا الأمر فيمكننا تناول مُطلق الخوف بشكل مجرد هل الخوف شيئاً غير منطقي ؟ هذا على الرغم من أنني لم أمنحه صفة التعريف الجزئي كالخوف من الأماكن العالية ولكنه حتى في طبيعته التجريدية يتسم بالمنطقية لأن الخوف في حد ذاته شيئٌ يمكن وضعه في إطار الخبرة الشخصية المعتادة . أما عن كون الموسيقى ممنطقة كما قال محمود فإن المقصود بها هي التعبير عن انفعال أو إحساس بشري إنساني ينتمي للخبرة التي تحدثت عنها على الرغم من وقوعه في دائرة التجريد إلا أن هذا لم يفقده منطقيته وهي باختصار ما ينتج عن تواصل المتلقي ( المنطقي ) مع النغمات وأعتقد أن المشكلة التي تضمنها حديث ( أحمد ) هي أنه خلط بين التحديد المعرفي والتجريد والمنطق باعتبارهم اشياء متناقضة ولكنني أرى أن المتناقض في الأمر هو المنطق والغرائبية فالغرائبية تمتلك معرفيتها ولكنها ليست منطقية ولمزيد من التوضيح أقول أن الشيء الغرائبي له معطيات هذه المعطيات جزئية ( معرفية ) ولكنها تحدث في إطار لا يدخل في نطاق الخبرة الذاتية للمتلقي .. فأفلام الخيال العلمي مثلا تعطيك تفاصيل

( معرفة ) ولكن هذه التفاصيل لا تقع في نطاق ما سبق إدراكه . أما عن علاقة الأسطورة بالتجريد فلا أعتقد أن أحمد قد اطلع على جميع الأساطير التي أنتجها العالم ليجزم بهذا اليقين بأن الأساطير تمتلك هذه الصفة التجريدية ومن هنا أود أن أقول أنه لدى أحمد مشكلة في تعريف التجريد أصلا لأن التجريد لا يعني مجرد إثارة أي نوع من أنواع الانفعال بل يعني ذلك الانفعال الغير محدد بجزئيات ملموسة وواضحة ( يمكن إدراكها أو تخيلها ) وهذه المشكلة قادت أحمد إلى مشكلة أخرى وهي خلط التجريد بالمنطق ( من حيث التعريف ) لأنهما ليسا ضديين بل من العادي جدا احتواء إحداهما للآخر، وأعتقد أنه قد تناسى ما قاله من قبل في نهايه حديثه حينما قال أن التجريد مختلف عن المنطق فإذا كانا بالفعل مختلفين فلماذا جعلتهما متناقضين فالاختلاف لا يعني التناقض .

 

محمود : عذرا أرى أن هناك التباسا واضحا عند ( أحمد ) في تناول أسئلتي وهذا ما تطرق له ( ممدوح ) ورفع عني الحرج وما زلت أؤكد على أن الموسيقى رغم تجريديتها لها منطقها الخاص فهي وإن كانت لا تمتلك دلالات معرفية وهي في معزل عن الأشكال الفنية الأخرى كالسينما والمسرح والدراما والغناء إلا أنها تحمل حالات أرق وألم في مواجهة إشكاليات الوجود وهذا الأرق والألم ـ ولو كان مشاعرا وأحاسيسا مجردة ـ إلا أنها منطقية وبديهية ومتفق عليها إنسانيا .. أنا خائف مثلا أو أشعر بألم قد تُثير مقطوعة موسيقية ما تلك المشاعر لي كمتلقي ( مستمع ) ولكنها بالتأكيد ليس واجبا عليها كفن له سماته الخاصة أن يقدم لي تفاصيل لهذه المشاعر والأحاسيس المجردة والمطلقة حتى وإن اختلفت من فرد لآخر وأيضا تختلف درجات تأثيرها من فرد لآخر .. لكنها كقانون عام يفرض نفسه بداهة ( منطقية رغم تجريديتها ) .

 

أحمد : أولاً لم أدع  وجود تناقضا بين المنطق والتجريد ولكن ادعيت وجود خلاف وبالتأكيد يوجد فارقا بين الاثنين، بالنسبة للمثل الذي ضربه ممدوح (الخوف) فهو شعور إنساني غريزي بغض النظر عن التفاصيل وبالتالي فعدم الاعتراف به منطقياً أو الاحتياج لتفاصيله يمثل مكابرة لشعور موجود بالفعل، ولكن المشكلة بالنسبة للدلالات التجريدية التي تثيرها الموسيقى تتمثل في أنها لا تمنح أي قدر من التأكيدات على كون الخوف كدلالة تلقاها المستمع هو بالضبط ما يريده المؤلف ، هناك احتمالية دائمة لعدم قدرة المستمع الشعور بأي شيء سوى الاسترخاء السلبي لنغمات المقطوعة الموسيقية وبالتالي فهو لم يحصل على أي شيء من هذه المقطوعة سوى استرخاء الأعصاب ولا يمكن الحديث عن منطقية الموسيقى في هذه اللحظة ، وبالتأكيد لم أطلع على كل الأساطير التي أنتجها العالم ولا يزعم أي إنسان أنه اطلع عليها ولكن ما أطلقه من أحكام بناء على ما تمكنت من الاطلاع عليه، وفيما يخص تعريف التجريد فليس لدي خلط ولكن ما لايضعه كلا منكما في اعتباره أن الموسيقى التي نتحدث عنها لم تمثل سوى بدايات الموسيقى التي نعرفها الآن وكان المطلوب منها في تلك الفترة هو مجرد المساعدة في توصيل الإيحاء بالخوف مثلاً  الذي تتضمنه أحداث الأسطورة أثناء تناولها في المعابد أثناء الصلوات الدينية أو على المسارح ، وفيما بعد حدثت اختلافات كثيرة بالتأكيد من حيث مضمون فكرة التجريد الذي تتعامل معه الموسيقى.

 

محمود : ( أحمد ) أورد وجود خلاف بين المنطق والتجريد في حديثه .. بالطبع المنطق والتجريد من وجهة نظري لا خلاف بينهما وإن افترقا نسبياً من حيث طبيعتيهما ، فإن المنطق يرتكز على تفاصيل وجزئيات ليصل إلى قانون أو مُطلق ، أما التجريد فينطلق مما هو مُتفق على كونه مُطلقاً بالفعل وبالتالي فالتجريد يناسب طبيعة الموسيقى كشكل فني وجب أن يكون كذلك لأنها ليست مثيراً معرفياً والتجريد لا يناسب باقي الأشكال الفنية الأخرى (نسبياً) أو بدرجات متفاوتة ؛ ويرى ( أحمد ) أن الموسيقى القديمة من حيث علاقتها بالأساطير ذات دوراً مساعداً في توصيل الإيحاءات (الخوف) مثلاً لدي سؤال ما الذي جعل الموسيقى في مرتبة الكومبارس بالنسبة للأساطير ؟ على الرغم من كون الموسيقى شكلاً فنياً أما الأساطير فقد تُحدث تماساً مع أشكالاً فنية .. ومن الذي تأكد من كونها - أي الموسيقى - قادرة على توصيل الإيحاءات حال ارتباطها بالأسطورة ؟ وما الذي أكد لك أن الموسيقى وصلت إلى ذروة دورها وغاياتها حال انسلاخها في مراحل متقدمة عن الأسطورة وبالتالي اكتسبت خصوصيتها بعد ذلك ؟ .. لي ملاحظة ـ  قد تبدو بعيدة عن الموضوع ـ الآن هناك مسرحا تجريبيا والمسرح التقليدي بطبيعة الحال يعتمد على الحوار أما معظم ما يُقدم في ما رأيته من المسرح التجريبي أرى انه تخطى اللغة باعتبارها حاجزاً بين العملية الإبداعية التي أحدثت هذا الشكل الفني الجديد وبين المتلقي واعتماد هذا المسرح على تقديم لوحات مكونة من الممثلين بدون لغة أو حوار ، وتتجه نزعة هذا المسرح نحو التجريد الأصيل في الموسيقى ( هذا من وجهة نظر أصحاب هذا الاتجاه في المسرح ) .

 

ممدوح : ( أحمد ) لا يزال يمارس الخلط بين المنطق والتجريد ولا يزال يفترض أن المنطق يمثل تناقضا مع التجريد متناسيا أن طبيعة فن الموسيقى هي التي تفرض تلقيا ( منطقيا ) من خلال ما تفرضه طبيعتها التجريدية وليس هناك أي وجود لعدم المنطق في ذلك الأمر ؛  وأريد أن أركز على كون المنطق نابعا في الأساس من  الغريزة التي شكلت قوانينا متعددة ومعقدة أصبحت هي ما نطلق عليه ( المنطق) ومن هنا فإن الخوف يعتبر مطلقا عاديا حتى ولو كان غريزة والغير مطلق هو تحديد نوعية الخوف وأسبابه ؛ وإذا كان هناك اختلاف بين مايقصده المؤلف الموسيقي وبين التصور الذي يتلقاه المستمع فإن هذا لا يعد غير منطقيا بل منطقي جدا إذا أرجعناه لطبيعة الموسيقى .. وعلى هذا فإن التجريد لا يعني عدم المنطقية وإنما يمكن أن نصفه بطريقة أكثر دقة ونقول : ( عدم إعطاء الدلالة الملزمة ) . واسترخاء الأعصاب أمر منطقي .. أتدري لماذا ؟ لأنه يقع في نطاق ما يمكن حدوثه ويقع في نطاق مجال التأثير الموسيقي العام الذي لا يرتبط في تلقيه بوجدان الموسيقي كفرض لا بد منه . ولدي علم بالتأكيد بأننا نتحدث عن نوعية الموسيقى التي التزم ( أحمد ) بالحديث عنها .. وهنا تساؤل .. ماذا يعني مضمون فكرة التجريد الذي تتعامل معه الموسيقى ؟ .

 

أحمد : كلمة منطق مشتقة من الـ (نُطق) وهو في مجمله مجموعة من المبادئ والقواعد التي تسمح للإنسان بضبط صياغة أفكاره، وبالتالي فإن مجال اهتمام المنطق هو طرق التعبير عن هذه الأفكار، وليس من الغريب أن أحد أهم قوانين المنطق هو قانون " الثالث المرفوع " والذي ينص على أن الحكم بصحة أمر من الأمور لا يخرج عن حكم : صائب " صادق " أو خاطئ " كاذب " ، وهو ما يستلزم أن يكون التعبير عن القضية المنطقية محدد وواضح في التعريف بها؛ وفيما يخص العلاقة بين التجريد والمنطق فربما لا يوجد تناقض بينهما من حيث كونهما يعالجان الأمور من زوايا مختلفة  ؛ ولكنهما يشتركان في مساحة ما وهي محل الاختلاف الخاصة بالتعبير عن الأفكار .. وبينما يسعى التجريد إلى التعبير عن جوهر الفكرة فإن المنطق يحاول الإلمام بسماتها سعياً لتقليص حجم الأفراد الذين تصدق عليهم (ما صدق) ، وبالتالي يكون الأمر أكثر وضوحاً وتحديداً ، فإيصال الفكرة بشكل تجريدي إذن يختلف عن التعبير عنها بشكل منطقي ، وكمثال قدم ( ماليفيتش ) أحد الفنانيين التجريديين سنة 1915 لوحة عبارة عن شكل مستطيل أسود على خلفية بيضاء ، وسُميت هذه اللوحة " رباعي الأضلاع " وذلك إشارة إلى أن جوهر هذا الشكل هو الأضلاع الأربعة التي يتكون منها ، هذه الطريقة في التعبير ليست منطقية ، فإن أول وصف لهذا الشكل عند المنطقيين هو أنه

 " مستطيلا " وليس " مربعا " مثلاً .. وهذا هو الفارق الأساسي .. إن طبيعة أي شيء ليست لها علاقة بالمنطق ... فالخوف كشعور طبيعي تشترك فيه معظم الكائنات الحية ليس خاضعاً لما هو منطقي أو غير منطقي ... فالمنطق هنا يتعلق بطرق التعبير عن هذا الشعور .. كما أن قولي أن التعبير الموسيقي تجريدي وليس منطقي لا يعني عدم واقعيته ، ولكن المقصود منه أنه لا يهتم بالسمات التي يجب على المنطق أن يسعى لتحديدها .. الموسيقى هي العالم الداخلي للإنسان ، أما المنطق فهو طريقة التعبير الإنساني الخارجية (ملفوظة أو مكتوبة) عن هذا العالم ، وأعود إلى أصل المُشكلة ، وهو وجه التشابه بين الموسيقى والأسطورة ، إن الأسطورة تتكون من جانب منطقي يسعى إلى التعبير عن داخليات أبطالها بوضوح وتحديد ، وتتكون أيضاً من جانب لا يهتم في تعبيراته بهذا التحديد، ومنذ اكتشف كُهان المعابد أن الموسيقى لديها القُدرة على توصيل الانفعال الباطني للأسطورة إلى الناس بطريقة تثير تفاعلهم معها أكثر مما يثيره السرد الذي يقوم به الممثلون في المعابد والمسارح العامة، قاموا باستخدامها لهذا الغرض ... ومع بدايات عصر النهضة كانت الأسطورة قد تراجعت إلى الخلفية ، وفي ذلك الوقت وتحديداً في القرن السابع عشر تمكنت الموسيقى بالقيام بدورها (المستقل هذه المرة) في التعبير عن الجانب التجريدي الداخلي للأسطورة ، فظهرت أعمال فاسكوبالدي وسباستيان باخ في القرن الثامن عشر ثم تطورت مع موزارت وبيتهوفن وفاجنر في القرنين

الـ 18، 19 ، ومن المعروف أن بعض الأشكال الموسيقية استوحيت من الأساطير (كالفوجه) وهي شكل موسيقي تتعدد فيه الأصوات لكن أحد هذه الأصوات هو الغالب على الأصوات الأخرى ، وهو اللحن الأساسي . بالنسبة للسؤالين الذين طرحهما (محمود) : ما الذي جعل الموسيقى في مرتبة الكومبارس بالنسبة للأساطير ؟ وما الذي أكد لي أن الموسيقى وصلت إلى ذروة دورها وغاياتها حال انسلاخها في مراحل متأخرة عن الأسطورة وبالتالي اكتسبت خصوصيتها بعد ذلك ؟ .. الواقع إن الإجابة على هذين السؤالين تكمن في التاريخ والذي يشير بوضوح إلى ما ذكرته مع توضيح أنني لم أذكر أن الموسيقى كانت بمثابة " الكومبارس " للأسطورة لكنني قلت أن استخدامها كان مقترنا بالأسطورة ، ويمكننا ملاحظة أن بداية الموسيقى المُستقلة عن أشكال السرد كانت في القرن الـ 17 كما ذكرت، أما سؤال ممدوح عن مضمون التجريد فالمقصود هو اكتشاف الإنسان لقدرته في التعبير عن عالمه الداخلي عن طريق التجريد بشكل مستقل " كالموسيقى " .. وأخيراً أعتقد أن ممدوح ومحمود ربما يشيران إلى كلمة " منطق " بمعنى مختلف عن ما أقصده بالمنطق كما وضع أرسطو أسسه منذ ألفي عام.

 

ممدوح : بالفعل فأنا أشير إلى المنطق الفني ( إذا صح التعبير ) وليس إلى المنطق المعتاد والمتداول الذي أثبت قصوره في نواحي لا حصر لها ، وكان من الطبيعي أن يكون الحديث مبنيا من البداية على ذلك طالما أننا نتحدث عن الموسيقى . فالمنطق في الفن يختلف بالتأكيد عن المنطق العام لذا فإنني أرى أن الطبيعة التجريدية للموسيقى تلائم منطقها الذي لا يفترض تحديد الدلالات الملزمة على المتلقي . وأود أن أقول بصراحة أن ما يسمى بالمنطق الفني ليس إصطلاحا ملزما وإنما هو مجرد إشارة للتعبير فقط عن خصائص كل مجال من مجالات الفنون ؛ وأود أن أشير إلى أنني أرى أن مثال اللوحة الذي ورد في حديث أحمد لايصلح لتناول قضية العلاقة بين التجريد والمنطق حيث أن موضوع اللوحة السابق ذكره أرى أنه كان مجرد لعبة  تعتمد على المفارقة بين الاسم والطبيعة أوالقانون المضاد لهذا التعريف بناء على المعطيات المتداولة لهذا الشكل ( المستطيل ) .

 

محمود : أنا متأكد من أن الموسيقى نشأت قبل أسطورة المعبد ( المؤسسة ) وبالاتفاق على أن الموسيقى منذ نشأتها الأولى وحتى الآن تعتمد على التجريد وأن أسطورة ما قبل المؤسسة أكثر حيوية وتجريدية وأنه من الممكن أن الموسيقى والأسطورة امتزجا ببعضهما البعض لإحداث حالة شعورية أو

لا شعورية قد تكون مقصودة أولا في مواجهة الإنسان البدائي لإشكاليات وجوده .

 

أحمد : لابد من توضيح أن احتمالات اكتشاف الإنسان البدائي المبكرة للموسيقى قبل نشأة المعابد ضعيفة جدا .. فالإنسان في هذه المرحلة كان مهموما ـ بشكل يومي ـ بتوفير احتياجاته الجسدية كالطعام والشراب .. وقد أشرت من قبل إلى أن إنتاج الأسطورة يمثل نوعا من الأرق المستقر ؛ وكذلك الموسيقى والتي نتجت في الغالب داخل المعابد أي في مرحلة تحول الأسطورة إلى الاستغلال من قبل الكهنة . إن ما يثير ضيق ( محمود ) هو أن الموسيقى في البداية استخدمت كعامل مروج للأسطورة المؤسسية الزائفة لكن هذه هي الحقيقة التي تمنحها لنا المكتشفات الأثرية ... وهنا أحب أن أشير إلى أن الجزء الأكبر من هذا السؤال سوف أجيب عليه أثناء مناقشتنا للعلاقة بين الأسطورة والدين .

 

ممدوح : بالنسبة لعلاقة الأسطورة بالأدب فأنا أرى أن المنشأ يكمن في الأرق الذي يتم التعبير عنه من خلال تصورات ورصد واستفهام ؛ وبهذه المناسبة فإنني أرى أن ( هربرت ريد ) قد جانبه الصواب في أشياء كثيرة حينما قال : ( أن الشعر يعيش بفضل لغته أما الأسطورة تحيا على المجاز ) فهو هنا لم يأخذ في اعتباره أن لغة الشعر ظلت ولمراحل طويلة وممتدة ومختلفة  تعتمد أساسا على المجاز بل أن الموروث الهائل للشعر لدى أمم عديدة كانت سمته الأساسية هي المجاز . . وكذلك فإنني لا أرى أن غرائبية الأساطير يمكن مقاربتها بالمجاز ( بمعناه اللغوي ) أما إذا كان

( هربرت ريد ) يشير إلى المجاز بمعنى ( الإحالة ) أي إسقاط المشاعر والأفكار على عوالم مفترضة فإن الأدب وخاصة الشعر يقترب من الأسطورة في هذه الناحية بشكل كبير ولو أنه كان من الأجدى أن يتم الحديث عن ذلك الأمر من جهة أن الأسطورة والشعر يعتمدان على المعطيات الدلالية المستنتجة من الموضوع وذلك من خلال ما يسمى بـ ( العالم الموازي ) أو

( العالم البديل ) حيث يتم التعبير عن الأفكار والمشاعر عبر آليات تعتمد على ( المسكوت عنه ) وهنا تكمن الدلالات لدى الأسطورة والأدب .

 

محمود : ذكر ( هربرت ريد ) أن النتاج الأدبي مغلق النهاية أما الأسطورة فعملية ذات نهاية مفتوحة . . أختلف معه كلية في تلك المقولة وبالاتفاق مع مقولة ( ممدوح ) أن الدلالات لدى الأسطورة والأدب تكمن في الاعتماد على المسكوت عنه وتجاوز الأنساق المعتادة ومحاولة الاقتراب من إشكاليات الوجود وإثارة الأسئلة حولها وليس هدفي هو التحدث عن أي من الشكلين أجدرمن الآخر في الرصد وطرح الأسئلة ، ولكن الجدير بالذكر أن النتاج الأدبي مفتوح النهاية بمعنى أنه أكثر اتساعا في بحث إشكاليات الوجود والتعبير عن الأرق به وأن هناك أنواعا عديدة من الأساطير و ما تحمله من تساؤلات في مواجهة ظواهر الطبيعة ينفي اتساع دلالاتها ( وما حملته من أرق مؤقت مرتبط بالظاهرة المرئية ) باكتشاف أسباب تلك الظواهر وذلك بخلاف نوعا آخرا من الأساطير يتناول إشكاليات حول النشأة والخلق والإيجاد.

 

ممدوح : هناك علاقة أخرى بين الأسطورة والأدب أود الحديث عنها وهي أن الأسطورة تحولت داخل الأدب من عالم مستقل بذاته إلى نسق أومفهوم أو سمة مستخدمة في الإبداع الأدبي .. حيث أصبحت الغرائبية المستمدة أساسا من الأساطير ( العالم البديل للواقع أو المتلاحم بجزئياته ) أصبحت

أداءا معروفا من أداءات الإبداع وقد ظهر ذلك واضحا وأكثر تجليا في الشعر والفن التشكيلي والسينما .

 

أحمد : أود مناقشة عبارة ( شلنج ) في تفريقه بين الأسطورة والأدب " إن مؤلفي القصص يطلقون العنان لأوهام خيالاتهم الحرة .. بينما الأسطورة ليست لها الحرية لأن محتوياتها مفروضة من باطنها أي من طبيعة الوعي " .. الواقع أن هذه الخاصية التي منحها بأسلوب متعسف للأسطورة

 ـ حسب تعبيره ـ وحرم منها مؤلفي القصص هي أكثر مناطق التشابه بينهما .. حيث أن الخيال الموجود في كل من الأسطورة والأدب خاضع للوعي  مع التركيز على الاختلافات الأكيدة بين كل وعي وآخر . ويبقى السؤال الذي يفرضه حديث ( شلنج ) وهو كيف يمكن أن تكون الكتابة سواء بالنسبة للأدب أو للأساطير خارج نطاق الوعي ؟!!!!

  

 

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

علاقة الأسطورة بالأشكال الأخرى للثقافة ( 2 )

 

ممدوح : على حسب ( روبرتسون سميث ) فأنه في مقابل المتغير الأسطوري يكون الثبات الشعائري ( الطقوس كالقربان مثلا ) .. هذا الأمر ماذا يعني ؟ .. هل يعني أن ذلك إثباتا واضحا لمغزى مهم للأسطورة في كونها باحثة عن طرق الخلاص انطلاقا من غريزة / نسق الخضوع لإله ؟ .. فالأسطورة تمر بمراحل التغير والإضافة والحذف والتعديل والتراكم المعرفي والشعوري للدلالات ... إلخ ، ومع ذلك تظل الشعائر أشبه بالقانون الملزم والثابت داخل هذه المتغيرات الأسطورية وهنا أعتقد أن الأسطورة تقودنا من هذا المنطلق إلى أنها محاولات للنجاة متخذة صيغ مختلفة وبخضوع لمفاهيم متعددة مثل الخير والشر والذنب والإثم والغفران والسعادة والعذاب وما إلى ذلك وكل هذا يتم تحت وطأة المحرض الأساسي ( الخوف ) الذي يدفع الإنسان إلى التعلق بالرموز الطقوسية ( الشعائر ) لتقريب المسافة بين حالات الضعف البشري وبين القوة القادرة على منح الخلاص ( استيعاب واضح لكون المسافة شاسعة وأن المخلّص بعيد ) ، وهذا يقودنا بالضرورة إلى أن تتابع وتعدد واختلاف الأساطير هو مانتج عن الوعي باستمرار الأمر على ما هو عليه

( الخوف والضعف أمام المجهول البعيد ) وثبات الشعائر هو استمرار الخضوع للنسق الغريزي ( وجود الإله الذي يمتلك القوة المطلقة ) ..

على جانب آخر هل يمكن أن نميل ( اتساقا مع اللحظة الراهنة المستمرة منذ الأساطير البدائية وحتى الآن ) إلى وجود خروج عن النسق السالف الذكر بمعنى توجيه الخوف والضعف الحتميين إلى الاتجاه المتسائل والراصد للبحث عن الحقيقة والحكمة ؟ .. أعتقد أننا إذا كنا نؤمن بالفعل بحقيقة أن مانتج عن أفكار ومشاعر الإنسان البدائي ينتمي إلى أشكال الأرق الحقيقي ( المتجاوزة للثوابت ) سنستطيع أن نجزم بوجود هذه الحالات التي من وجهة نظري أكيدة تلك التي خرجت عن أنساق ( الشعائر ) وحاولت أن ترصد الأمر بحياد سعيا لفهم غير تقليدي .

 

أحمد : أتفق مع ممدوح فيما طرحه من تصورات .. إن الدين يمثل الخوف ؛ أما الأسطورة فهي محاولات الإنسان لتفسيره والتي تجلب إليه الشعور بالاطمئنان .. إن كل ما استطاع الإنسان السيطرة عليه كان يعزى إلى الإله أما الظواهر والأماكن التي فشل الإنسان في تفسيرها أو السيطرة عليها فكانت مرتبطة بالأرواح الشريرة أو الجن، وبالتالي تظل محاولات التفسير قابلة للتغير والتطور بينما يظل الخوف حالة ثابته . لكن أود الإشارة إلى وجود مرحلة زمنية بين التوجه إلى الإله وبين ظهور الشعيرة والتي كانت رد فعل لظاهرة طبيعية غامضة تم تفسيرها كتجلي للإله ، وعليه فالمكان الذي حدثت به هذه الظاهرة هو حَرَم مُقدس له يجب أن يتواجد الإنسان فيه إن أراد التحدث إليه، وفيما بعد تطور الأمر لإيجاد مَذبح لتقديم القرابين ، ثم كهنة للإشراف عليها وخدمة الإله وأخيراً معبد لإقامة هذه الشعائر . إن هذه المحاولات في الواقع لم توفق في تقريبها للمسافة بين الضعف البشري وبين القوة القادرة على منح الخلاص الممثلة في الإله بل على العكس ساهمت في إيجاد قدر أكبر من التباعد ... لقد كان الإله في البداية - قبل وجود الإسطورة - هو الأب - بالمعنى الجسدي - والراعي لكل أبناء العشيرة ، ومع كثرة الطقوس كان هذا الإله يزداد قوة وابتعاداً وتجرداً في جوهره حتى أصبح يشبه " روحاً أثيرية " بينما كان الإنسان يزداد ضعفاً وحسية . إن التوجه لإله إرتبط بأوضاع اجتماعية ناتجة عن خوف الإنسان من الوحدة ، أما الشعائر فارتبطت بالخوف من الظواهر الطبيعية الغامضة، وكان على الأسطورة أن تجيب عن التساؤلات التي يثيرها هذا الخوف بأنواعه.

وبالنسبة لسؤال محمود حول العلاقة بين الموسيقى والأسطورة والذي وعدت بالإجابة على جزء كبير منه في مناقشتنا للعلاقة بين الدين والأسطورة .. إن مرحلة المعبد مثلت بداية الاستقرار بالنسبة للطقوس الدينية . كما اُعتبر الكهنة هم المشرفون على خدمة الإله وإقامة هذه الطقوس وكانت هذه هي كل مهمتهم في المجتمع البدائي ، وبالتالي كانوا هم المؤهلون لاكتشاف كل المجالات الفنية والتي استخدمت - ككل المُكتشفات الأخرى - في خدمة الدين ، وهو المجال الوحيد الذي كان موكلاً له تفسير كل الظواهر التي تثير خوف الإنسان.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مناقشة حول فصل (الإنسان القديم)

علم النفس التحليلي - كارل يونج

 

ممدوح : حدد ( يونج ) أن العالم النفسي للإنسان هو ما يشكل نمط الحياة بشكل عام وأن الإنسان البدائي هو الذي يمتلك بالضرورة تلك السياقات النفسية القديمة أما إنسان اليوم فهو لا يمارس الارتدادات بل أنه لا يزل إنسانا قديما في الطبقات السفلى من كيانه النفسي .. صراحة لا أستطيع أن أحدد في حالة اتفاقي مع ( يونج) فيما يتعلق بالسياقات النفسية القديمة .. لا أستطيع أن أحدد كيف تمت إزاحة تلك السياقات النفسية إلى الطبقات السفلى لإنسان اليوم ؟ .. وماهو صاحب القدرة التي أنشأت ذلك الأمر ؟ .. أين تكمن تلك الفجوة الزمنية والشعورية والمعرفية بين الإنسان البدائي وإنسان اليوم ؟ .. تلك الفجوة التي تمت أثناءها عملية إزاحة السياقات النفسية القديمة إلى الطبقات السفلى عند إنسان اليوم ؟ .. ولماذا حدثت أصلا ؟ .. وكيف امتلك الإنسان البدائي تلك السياقات التي نتحدث عنها ؟ .. وإذا كان إنسان اليوم يعد إنسانا بدائيا بمنظور ما هل هناك وعي بذلك لدى إنسان اليوم ؟ .. وكيف يمكن لتلك السياقات النفسية أن تبدي حضورها الآن ؟ .. وهل هناك علاقة بين ما ينتج عن هذا الحضور وبين طقوس الإنسان القديم ؟ .

محمود : بداية أقر بأن مناقشة آراء ( يونج ) حول الإنسان البدائي أمر مربك ولعل ذلك يعود لأن أفكاره متعارضة مع بعضها في كثير من الأحيان ولديه رغبة ملحة للانتصار لأمر مسبق لديه .. سبق وأشار أنه عندما نتكلم على الإنسان بصفة عامة وأؤكد ( بصفة عامة ) لا نأخذ في اعتبارنا جانبه التشريحي بل عالمه النفسي ودرجة وعيه ونمط حياته وتأكيده على أن كل إنسان متمدن مهما بلغت درجة نمو وعيه لم يزل إنسانا قديما في الطبقات السفلى من كيانه النفسي في حين يؤكد أيضا على أن النشاط العقلي المركز ضئيل عند البدائي ولا يهتم أو يركز إلا على الأشياء التي تهمه وبالتبعية نفهم على أن النشاط العقلي المركز موجود لدى الإنسان المعاصر .

وسرد أيضا أنه لايوجد شيء يدل على أن الإنسان البدائي يفكر أو يشعر أو يدرك بطريقة تختلف أساسا عن طريقتنا في التفكير أو الشعور أو الإدراك ..  فأداؤه النفسي هو جوهريا نفس أداءنا ولا يختلف عنا إلا في مسلماته الأولية ..لا أفهم     ـ ومعذرة إذا قفزت إلى نهاية فصله والذي كونت انطباعا فيه على أن ( يونج ) ينتصر للإنسان البدائي ـ في حين أنه يؤكد على أن كلاهما ( البدائي والمعاصر ) يشتركان في وجود السياقات النفسية القديمة ولكن الفرق هو اختلاف المسلمات الأولية وبالتالي لا يوجد مبرر لدى ( يونج ) على أفضلية أو تميز الإنسان البدائي عن إنسان اليوم وكون الأخير مرتد إلى ما هو مفترض أن يكون طبيعيا وهو السياقات النفسية القديمة الكامنة في اللاشعور على الرغم من أن ( يونج ) يتعارض مع نفسه في ذلك حين أكد أيضا على أن المسلمات الأولية لدى البدائي والمعاصر مختلفة فكيف تكون هناك عملية إزاحة لأنه لو كانت المسلمات الأولية عند البدائي مختلفة لكانت انتهت ولم يعد لها رجعة عند الإنسان المتمدن أما لو كانت المسلمات متطابقة لصحت عملية إزاحة السياقات النفسية القديمة إلى الطبقات السفلى من الكيان النفسي لدى المتمدن .. والغريب أن ( يونج ) وهو يتناول الإنسان بشكل عام لم يتعرض في أفكاره إلى إشكاليات الوجود مثل نشأة العالم وكيفية الخلق وحكمة الخلق ..... إلخ سواء لدى البدائي أو المتمدن .

أرى أن انسحاب الأنساق والسياقات النفسية القديمة لدى الإنسان المتمدن (الكامنة) إلى الطبقات السفلى من كيانه النفسي والتي كانت وفقا لتصورات ( يونج ) وبتعبيري هي المرجعية الأساسية والوحيدة للإنسان البدائي في تفسيره للظواهر الطبيعية ومن المحتمل أيضا في تفسيره لإشكاليات الوجود الملحة على الإنسان بشكل عام أو محاولاته لإيجاد إجابات لها ـ تلك المساحة التي لم يتعرض لها (يونج) على الإطلاق وأنها لم تتخط تفسير ظواهر الطبيعة ـ وبالتالي وفي حدود تلك الممارسات العقلية ( أقل تركيزا لدى البدائي وأعلى لدى المتمدن ) نجد أنفسنا مجبرين على أن نجزم وفي حدود تلك المسألة على أن الإنسان المتمدن أكثر موضوعية ومنطقية وعلمية في تفسيره لظواهر الطبيعة بخلاف البدائي وتأكيدي على أن كلاهما في مواجهة إشكاليات الوجود لم يتوصلا لشيء .

أعتقد أن لدى ( يونج ) تناقضا واضحا حيث يؤكد على أن الإنسان المتمدن أكثر منطقية في رصده للأشياء ثم يعود ويؤكد على أن البدائي أكثر موضوعية في رصده للأشياء .. هنا أريد أن أتساءل هل هناك ـ في رأي ( يونج ) ـ تعارضا أو تناقضا بين الموضوعية والمنطقية ؟ .. حتى لو كان لا يفاضل بين أيا منهما فما هو الفاصل الحاد بين الموضوعية والمنطقية ؟! ، وهل ليس من الوارد أو المسموح به الجمع بينهما ؟‍‍ ‍‍‍‍‍‍

وإذا اعتبرنا أن التركيز الذهني والنشاط العقلي والتطور العلمي لدى المتمدن هو الذي يشكل المساحة الفارقة بين البدائي والمتمدن وأنها المميزة للأخير في نمط حياته وصيرورة حركته في عالم المادة فهي لا تتخطى أيضا ظواهر الطبيعة ..   ( الغرائبية بتعبيري " الموضوعية بتعبير يونج " لدى البدائي ، والتركيز العقلي ، والتطور العلمي " المنطقية بتعبير يونج لدى الإنسان المتمدن " كلاهما لم ينجحا إلا في حدود مواجهة ظواهر الطبيعة وترويضها ) فالإنسان عامة عدو لما لا يراه أو ما يجهله وبالتالي يجبر أو يدفع إلى مواجهة ما يراه " عالم المادة وظواهر الطبيعة ورغبته المحمومة لترويضها لعجزه عن مواجهة إشكاليات وجوده بغرائبية القديم أو منطقية المتمدن إضافه لخوفه الشديد من اقتحام تلك المساحة الملغزة " .

 

ممدوح : في اعتقادي أن ( يونج ) يسعى طوال الوقت لتمرير أن كلماته في الأساس عبارة عن تساؤلات بلا إجابة لكنه بكل تأكيد تورط في محاولات مستميتة للانتصار لآراء بعينها .. هذه الآراء لا تستطيع أن تخبئ ولائها للإنسان البدائي ولكن أتصور أنه من المفترض أن نناقش المسألة بلا انتصار لأفكار جاهزة سواء تخص الإنسان القديم أو المتمدن فأنا لا يمكنني أن أتأكد من كون البدائي يعيش في الفردوس المفقود الذي يفتقده الإنسان المعاصر والعكس صحيح وإنما القضية تتعلق من وجهة نظري بسمات الإنسان في المرحلتين ( إذا جاز لنا وضع ذلك الفاصل الحاد والجازم بينهما والذي أنظر إليه بقدر ما من التشكك ) .. نحن أمام أفكار شخص يرصد العالم منطلقا من زاوية معينة لا يمكن قبولها على الإطلاق أو رفضها على الإطلاق وإنما يمكن مناقشتها بنوع من السعي للفهم لمدى قدرة هذه الأفكار على جعلنا نتساءل أو نتأمل العالم بطريقة مختلفة عما تعودناه .

أحمد : هناك تساؤل : ما هو مدى تأثير الكتاب المقدس على فرضيات ( يونج ) ؟

إن الكتاب المقدس عموماً كان يمثل أحد أهم المؤثرات على أفكار المثقفين الأوربيين في تلك الفترة، ويبدو التشابه الرئيسي ما بين نصوص الكتاب المقدس وأفكار يونج في الخلط بين تعريفي (الروح) و(النفس)، وهي ذات الفكرة التي نراها في سفر التكوين ( .. ونفخ في أنفه نسمة حيوة . فصار آدم نفساً حية )( تكوين- ص2 - آي8)، لقد فُسرت عبارة (نسمة حيوة) بأن المقصود منها هو الروح، وبالتالي فقد اعتبرت التوراة أن الروح والنفس كلمتين لهما مدلول واحد، وهو نفس ما أشار له يونج عندما اعتبر أن النفس والروح والخافية كلمات لها نفس المدلول.

   هناك تأثر آخر بنصوص الكتاب المقدس لدى يونج حول وظيفة (النفس/ الروح) كما عرفها، إن الآية السابقة تشير إلى أن الإنسان لم يكن سوى جسد خاوي، ثم تلقى روحه من الرب، وقد اتفقت معها نصوص إنجيلية أخرى " لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس " إن هذه الروح ليست عنصراً نورانياً فقط حسب تعريف الكتاب المقدس ويونج، وإنما تشمل أيضاً النفس والتي تشير إلى ذات الإنسان وخبراته، وقد اعتبر الكتاب المقدس بشقيه (العهد القديم والعهد الجديد) أن الروح كائناً مختلفاً ( منبثق من الآب ) يتواجد في الإنسان، وهنا يمكننا تلمس هذا التأثر بوضوح من تعبير يونج : " فإذا أسقطنا محتوى نفسياً هاماً على كائن بشري، فعندئذ يتحول إلى " مانا " فيتمتع عندئذ بقدرة إتيان الخوارق "، ويتسائل يونج بصيغة هي أقرب للإجابة " هل النفس عموماً وأعني بها الروح أو الخافية - منبعثة منا، أم أن النفس - وهي في أولى مراحل وعيها - كانت خارجة عنا فعلاً في شكل قوة استبدادية ذات مقاصد خاصة بها ؟ ويبدو واضحاً من تساؤل يونج تأثره بفكرة كون (النفس/الروح) كانت كائناً مستقلاً عن الإنسان في المراحل الأولى، ولم يشر كارل يونج طوال بحثه إلى مقصوده  من عبارة (المراحل الأولى)، كما لم يشر إلى من هو القادر على إسقاط هذا المحتوى النفسي، وبالتأكيد فإن ( يونج ) لم يتأثر بالكتاب المقدس تأثراً حرفياً إلا أنه تأثر بوضوح في أسلوب الأداء الوارد به.

   إن الإيمان بفكرة " الإسقاط " لدى يونج هي محاولة لتأكيد فكرة الانفصال " القدري " ما بين الإنسان البدائي والإنسان الحضاري، التي يحاول يونج طوال بحثه إثباتها على استحياء، وهي بدورها سعي لإثبات أنه لا يوجد وعي لدى الإنسان البدائي، فكل ما لديه ينتمي للخافية (الروح/النفس)، والواقع أن فكرة البدائية والحضارية ليست منفصلة بهذه الحدة، وسأتجاوز عن أن يونج عنْون بحثه بـ (الإنسان القديم) وهناك فارق بالطبع بين العبارتين، إن النماذج التي تناولها يونج كلها لبدائيين معاصرين له .. الأمر الذي يمنحنا تصورا  لمدى التداخل فيما بين الكلمتين (البدائية - التحضر)، فالإنسان البدائي .. هو بدائي مقارنة بكارل يونج .. إلا أنه بالتأكيد ليس كذلك بالنسبة لأجداده الذين قد يرونه أكثر حضارية .. كذلك الزمن الذي عاش فيه (يونج) وهو بالنسبة لنا يمثل قدرا ما من البدائية إذا ما قورن بإمكانياتنا الحالية.

   لقد أخطأ يونج عندما قام بهذا الفصل الحاد كما لو كان كل منهما كائنا مختلفا عن الآخر : " الإنسان البدائي ليس أكثر منطقاً أو أقل منطقاً والخلاف أن سوابق رأيه ليست كسوابق رأينا "، لقد أوقع هذا الفصل ما بين الكائنين يونج في تناقض صريح عندما اضطر للقول أن : " الإنسان المتمدن مهما بلغت درجة نمو وعيه لم يزل إنسانا قديما في الطبقات السفلى من كيانه النفسي " وبالتالي ففرضيات الإنسان البدائي لا تختلف عن فرضيات المتمدن وإنما فرضيات الأخير هي تطور لها، فالإنسان البدائي يمتلك وعياً بكل تأكيد لكنه ليس بنفس تطور وعينا، وقد أشار كارل يونج إلى هذه الحقيقة      - بدون قصد - عندما تحدث عن فشل ساحر إحدى القبائل في رؤية الأحلام منذ حلول البريطانيين بالمنطقة، فالسلطة هي المخولة بمعرفة الحقائق، وهو ما يشير بوضوح إلى وجود وعي لدى الإنسان البدائي حول وضع السلطة سواء من قبل زعيم القبيلة/الساحر أو السلطة البريطانية، إن أفكار الإنسان البدائي مرجعها الأول هو سلطة القبيلة الممثلة في الساحر - كما اعترف يونج - والتي تمنح أفراد القبيلة تفسيرات تخدم مصالحها وترسخ من سلطاتها، وهذا التسلط - التقليدي - والذي مرت به كل الحضارات لا يتم إلا عبر تراكم معين في الوعي لدى الإنسان.

محمود : إن محاولات يونج الحثيثة والمحمومة لانتصاره ( ضمنا ) للبدائي في مواجهة الإنسان المتمدن توقع به في مأزق ( التناقض الشديد ) .. أعود وأكرر مقولته  " أن الإنسان البدائي لا يختلف عنا اختلافا أساسيا في نشاطه العقلي وما يفصله عنا هو فرضياته وحسب .. أعتقد أن المقصود من الفرضية هو الشئ القابل للرفض أو القبول  ( ما هو محتمل ) وأرى أن يونج يعمم رأيه بشكل مطلق دائما .. أعتقد أن ما هو         ( فرضية ) لدى البدائي والمتمدن على السواء يعتبر منطقيا وملائما لكليهما في حالة التعرض لما هو ميتافيزيقي من حيث عدم التوصل لتفسيرات كونية .. فتصدي البدائي لما هو مادي ( الظواهر الطبيعية ) وتفسيره لها يقوم بنفس الشكل والأداء حال تصديه لمحاولة إيجاد إجابات أو تفسيرات لما هو ميتافيزيقي لأن مرجعيته ( البدائي ) السحرية والغرائبية ـ والتي أسميها مجازا ( علم اللاعلم ) وهذا التعبير الأخير موازي لتأكيد يونج بأن الغرائبية هي مرجعية البدائي  ـ هي الوحيدة المتاحة له حال التعرض لما هو مادي أو ميتافيزيقي .. أما المتمدن وهو الذي يمتلك الواعية بتقسيم يونج الحاد فالمسألة أصبحت أكثر وعيا وتخصيصا ومنطقية حال تعرضه لما هو مادي لأنه يتعرض لظواهر الطبيعة بشكل علمي ومنهجي ويختار نوعا من العلم يناسب كل ظاهرة ويعتمد على قاعدة فلسفية متفق عليها وعلى قدرتها في تفسير الظواهر الطبيعية وهي العلة والمعلول . حتى وإن أخفق في تفسير ظاهرة طبيعية فذلك لا ينفي  وجود اختلاف جوهري بينه وبين البدائي في المناهج المستخدمة ناتجة عن التراكم المعرفي الذي شكلته تجارب البشر .

أشار يونج أيضا .. " إلى أن من يعهد إليه بمراقبة الأحداث يجب أن يكون ( أذكى ) رجال القبيلة البدائية و ( أدهاهم ) وأن يبلغ من العلم مبلغا يمكنه من تفسير جميع الحوادث الخارقة ويجعله قادرا على التصدي لها ... فهو ( العالم ) الاختصاصي الخبير بطوارئ الحظ والمصادفة " .. هنا أود أن أطرح عدة تساؤلات : كيف أصبح من يعهد إليه بمراقبة الأحداث ( أذكى ) ؟! .. وما المقصود بـ ( دهاءه ) ؟! .. وكيف يكون العالم الاختصاصي الخبير بطوارئ الحظ والمصادفة ـ لعل استخدامه لكلمة ( عالم ) هو ما دفعني لاستخدام مصطلح ( علم اللاعلم ) ـ ؟! .. وكيف يبلغ من العلم مبلغا يمكنه من تفسير جميع الحوادث الخارقة ؟! .. أي علم ؟! .. وهل هو علم متحصل ومكتسب أم ماذا ؟! .. وهل للقوى الاستبدادية والغيبية ـ على حسب تعبير يونج ـ دورا في انتقاء هذا الاختصاصي الخبير ؟! .. وعلى الرغم من تأكدي بأن يونج لم يقم بتعريف تلك القوى المستبدة مطلقا طوال حديثه تأكدت أيضا من أن هذا الساحر ( الاختصاصي الخبير ) ليس هو القوى الاستبدادية بل وسيط لتفعيل قوتها .. ومن الغريب أن يونج يؤكد على  وحسب مقولته " إن ايمان البدائي بالقوى الاستبدادية لا ينبعث من فقاعة هواء وإنما إيمانه بها يستند إلى خبرته .. " وهنا لي تساؤل أيضا .. أي خبرة ؟! .. والخبرة متعلقة بالوعي المنتفي لدى البدائي كما يرى يونج ؟! .. وهو يؤكد على أنه يمتلك الخافية       ( الروح / النفس ) لا الواعية ( الخبرة ) .. أي خبرة ؟! .. وهو لا يستند في معرفته أي البدائي بحوادث الأمور الطبيعية إلا للساحر الاختصاصي الخبير الملهم والمسدد والعبد المطيع للقوى الاستبدادية .. وهل انتقاء القوى الاستبدادية لشخص بعينه من القبيلة البدائية لتميزه في شيء ما ؟! .. ما هذا التميز الذي لم يشر إليه يونج ؟! .. وكيف يوجد ساحر قبيلة كما قال أكثر حنكة من آخر بحيث يخشاه أفراد قبيلة أخرى ؟! .. وهل هذا التميز ناتج عن رضا القوى الاستبدادية بساحر عمن سواه ؟! .. وهل هذا الرضا المتمثل في التميز لكون هذا الساحر أكثر إيمانا والتزاما بقوانين تلك القوى    الاستبدادية ؟! .

وهل هذا الالتزام يحقق له منفعة وقدرة مطلقة على السيطرة على أفراد قبيلته وبالتالي يمتلك سلطة مطلقة أعلى من زعيم القبيلة ؟! .. وهل من الممكن أن يكون زعيم القبيلة هو الساحر في نفس الوقت ؟! .. عن نفسي أعتقد بأن الساحر وزعيم القبيلة سواءا كانا شخصين مختلفين أو شخصا واحدا فأعتقد أنهما استفادا جيدا من القوى الاستبدادية .

 

ممدوح : سأتعامل مع حديث ( يونج ) على النحو التالي :

الإنسان خاوي .. هناك شيء أولي سابق ومستقل عنه ينسكب بشكل تدريجي داخله فيشكل النفس .. حسنا .. هل يمكن هنا أن أطلق على هذا الشيء اسم ( مستقبلات ) ؟ .. المستقبلات هنا يمكن بشكل بسيط تحديدها في كونها المسئولة عن أفكار ومشاعر الإنسان .. ما دورها ؟ .. تحديد قوانين ملزمة من تلك المشاعر والأفكار داخل الإنسان بما يلائم طبيعة تم تحديدها سلفا تناسب الطبيعة العامة للكون ؟! .. هذا يقودني بالضرورة نحو القوى الاستبدادية .. الاستبدادية هنا تعني السيطرة الكاملة والتحكم المطلق في كل شيء .. ما علاقتها بما أطلق عليه ( مستقبلات ) ؟ .. أعتقد أنها ـ أي المستقبلات ـ توفر الضمان الحتمي لآلية عمل ورغبات القوى أيا كانت .. من هنا أرى أن هذه المستقبلات تريد في النهاية أن يتعامل الإنسان مع معطيات العالم بشكل محدد لتنفيذ مهام محددة عن طريق تبني والعيش بأفكار ومشاعر مجهزة ومن أهمها الخضوع .. الخضوع لما هو غائب وغير مرئي والخوف منه وعدم ممارسة التجاوز بأية طريقة معه . وهذا الأمر هو ما شكل أفكار الاعتناق بالقوى الغيبية وعبادة الظواهر الطبيعية والله  مع الأخذ في الاعتبار مجرى تطور هذه الأفكار والمشاعر الخاصة بالاعتناق للغيبي .

 

أحمد : اعتقد أن كارل يونج لم يقصد بتصوره عن إسقاط المحتوى النفسي على الإنسان هذه المشاعر التي تشكل قاعدة مشتركة للعديد من الكائنات الحية ... إن هذا التصور ربما يكون أكثر عمقاً ويرتبط بأرق مختلف تماماً عما يناقشه يونج .

   إن الغرض الأساسي لكارل يونج هو تفسير الممارسات اليومية التي تنشأ كردود أفعال على ما يصادف الإنسان من مواقف .. وهي تختلف بالتأكيد بين الإنسان البدائي والإنسان المتحضر .. هذه الممارسات التي تمثل الخبرة الحياتية التراكمية لدى الإنسان يعتبرها يونج محتوى نفسي تم إسقاطه على الإنسان عبر قوى استبدادية .. والواقع أن كارل يونج لا يتكلف إخفاء تأثره الواضح بالكتاب المقدس والذي تأثر بدوره بالعقائد السامية القديمة .. فهذا الاختلاف الأصيل ما بين الإنسان البدائي والإنسان المتحضر يوازي بدرجة ملحوظة الخلاف الغير منتهي بين بني إسرائيل وغيرهم من شعوب الأمميين (الجوييم).

ممدوح : أوافق يونج على اعتياد الناس على تداول مشاعرهم لتكون قانون ملزم للأخرين مما ينتج عن ذلك الصراع ولكن ماذا عن الإنسان البدائي ؟ .. هل حماه التوحد بين ذاته والطبيعة من تلك النقائص ؟. إذا كان يونج يقصد سلوك بدائي لم نعد نمارسه ماذا تعني الموضوعية أو التوحد بين الذات والموضوع في تلك اللحظة إذا كنا نحن نمارس الآن نفس الأمر بطريقة أخرى ؟ .

   بالنسبة للصلات بين الإنسان والأشياء الأخرى (الطبيعة) هذه الصلات لا نفهمها نحن (الإنسان الحاضر) وهذا هو المقصود على حسب يونج بالتوحد بين الذات والموضوع .. لن نسأل كيف تحدث هذه الصلة لأن يونج نفسه تحدث بضمير الجمع حينما قال (نحن) ونحن هذه يندرج فيها هو نفسه إذن السؤال المتاح هو لماذا تحدث هذه الصلة ؟ ومن هو الطرف المبادر بتكوينها ؟. كيف يمكنني أن أتعامل بيقين مع نظرية التوحد التي يمثلها روح المرأة التي ماتت في نفس اللحظة التي قتل فيها فهد ؟ .. ماذا يعني التوحد ؟ .. كيف يتم ؟ .. هذا ما لم يذكره يونج بل أنهى الموضوع ببساطة وقال نحن لا نعرف.

   ولا توجد نهاية للأسئلة التي لم يجب عليها يونج مثلاً : إذا كان الإنسان البدائي غير نفساني إذاً فما هو الشيء الذي يعمل عنده أو بداخله ويجعله يفسر الأشياء بمنطقه الذي تناوله يونج ؟ وإذا كانت الحوادث النفسية تحدث خارجاً عنه فما هي مصدرها وما الذي يتحكم فيها ؟ والأهم من كل هذا ما هي حكمتها ومبررها ؟ ثم كيف يتحد الذات والموضوع أصلاً عند الإنسان البدائي ؟ . هل يمكنني أن أتخذ أمثلة يونج مثل أن الله لم يعد يخاطب عراف القبيلة في الأحلام بل صار يخاطب البريطانيين أصحاب السلطة لأن البريطانيين هم رجال الله ؟ أو الاعتماد على ظهور أرواح في جلسة روحانية وظهور الأشباح لمعرفة ماذا يعني إسقاط محتوى نفسي هام على كائن بشري يتحول بدوره إلى (مانا) فتتأتى له القدرة على إتيان الخوارق فيأخذ لقب ساحر أو ساحرة ؟ وكيف تصبح الأحكام الأخلاقية لدينا زائفة مقارنة بأحكام الإنسان البدائي مع أننا نمتلك سياقات نفسية متشابهة ؟ أليست المحتويات النفسية لدينا مستمدة أصلاً من المحتوى القديم للإنسان البدائي على حسب يونج ؟!

   الفرضيات .. ماذا تعني ؟ .. من أين ؟ .. كيف ؟ .. أتحدث هنا عن الفرضيات المختلفة لدى الإنسان البدائي الذي يمتلك نفس نشاطنا العقلي .. كيف تتبدل وتتطور وتتغير. وإذا كان الإنسان البدائي يقول دائماً أمام الحوادث التي تحدث ( قُصد بحساب) فلماذا كانت تنتابه الدهشة إذن ؟ نحن الذين يجب أن ندهش بسبب اعتمادنا على السببية المليئة بالثغرات على حسب يونج .. هل لدى الإنسان البدائي إذاً إجابة على كل شيء تمنعه من أن يقول (هذا حظ ومصادفة) ؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تصلنا تلك الإجابات عن طريق سياق التطور النفسي (الإنسان المتمدن لم يزل بدائياً في الطبقات السفلى من كيانه النفسي).

 

محمود : أود أن ألخص موضوعية يونج  في مقولته عن زعيم القبيلة البدائية حينما سئل عن : ماذا يعني الخير والشر ؟ فأجاب : حينما تسبي قبيلة أخرى نساء من قبيلتي فهذا شر .. أما إذا سبينا نحن نساء تلك القبيلة فهذا خير .

وفي مجمل حديثه عن الإنسان البدائي وبعد أن يضع كل تصوراته حول تلك المنطقة الملغزة يضع عبارة  متواضعة جدا ( ونحن لا نعرف ) !!

ليست هناك تعليقات: