الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

الحظ وما بعده | نقد مكثف للقبح والتوحش الرأسمالي


الحظ وما بعده
نقد مكثف للقبح والتوحش الرأسمالي

   في فيلمه الحظ وما بعده Luck andWhat's Beyond لا يتكلف محمد صبري أي نوع من الكوميديا المفتعلة والتي من الشائع تواجدها في أفلام الرسوم المتحركة، فهذا الفيلم الذي لا يتجاوز دقيقتين يحمل نقداً مكثفاً لأحد أهم النزعات التي تعتمد عليها الرأسمالية في تمرير توحشها وقبحها إلى الجماهير .

   الفيلم يحكي قصة راع فقير يفاجيء ببئر غامض ولافتة معلقة بجواره مكتوب عليها " بئر الأمنيات .. الق عملة وتمنى أمنية "، وعملة معدنية موجودة على حافة البئر، لم يفكر الراعي الفقير في سبب وجود هذه العملة ولا من تركها، لكنه تمنى أمنية وألقى بها في البئر بالفعل، وبينما يدير ظهره ليرحل يستمع لصوت ارتطام عملته بعملات معدنية أخرى فيقفز لقاع البئر حيث يستمع المشاهد لصوت احتفاله بالثروة التي عثر عليها، قبل أن يظهر صوت زمجرة وحشية وصراع مكتوم ينتهي بمشهد إلقاء حذاء الراعي خارج البئر وظهور جزء غامض من الوحش الذي افترسه ليعيد العملة على حافة البئر مرة أخرى في انتظار ضحية جديدة .
   في مدة زمنية قصيرة للغاية يوجه الفيلم نقداً لاذعاً، وغير ساخر، للمجتمع الرأسمالي، مستخدماً عدة إشارات ذكية للغاية رغم بساطتها .
   فاختيار راع فقير عجوز، وفرد واحد، تشير حالته العامة إلى الضعف والبؤس والتهميش، كبطل للأحداث في مقابل الوحش الضخم الذي يمتلك البئر بما فيه من أموال وثروات، هو في جانب تأكيد على التناقض الاجتماعي بين بطلين وبين واقعين ومجتمعين منفصلين، وإن كان لأحدهما أطماع في الآخر يستخدم ثروته لتحقيقها، كما هو في جانب آخر تعبيراً عن أن الطرف الأقوى، وهو الوحش، يستهدف بالأساس، الطرف الأكثر ضعفاً وتهميشاً وإلا لاستخدم مغريات أكبر بما يتلائم مع وضع الضحية، وهو رغم قوته لا يوجه سوى ضحية واحدة في كل مره .

   وحش البئر الغامض، والذي تعمد المخرج أن يظل غامضاً وغير واضح المعالم والهوية، يشبه في أسلوبه لاجتذاب الضحايا ما تقوم به الرأسمالية في سعيها للسيطرة على المجتمعات، بداية من محاولة تنمية النزعات الفردية والأنانية، عبر إثارة حالة التطلع وأحلام الثراء السريع بضربات حظ لا تمثل سوى محاولات جذب قبل أن يسقط الإنسان العادي في البئر الرأسمالي حيث يصبح محكوماً بقواعد وقوانين وسلوكيات الواقع الجديد والتي لا يمكنه الفكاك منها، بما يعني أن يتم التهامه، كما فعل وحش البئر الغامض .
   وفي هذا السياق تلجأ الرأسمالية لتغييب عقل الضحية عبر المؤثرات البصرية، فمع مشهد بريق ولمعان العملة الموجودة على حافة البئر، لم يفكر الراعي الفقير والعجوز للحظة كيف تواجد هذا البئر واللافتة الملعقة بجواره فجأة ؟ ولم يشعر بأي شكوك تجاه وضع قطعة نقود لامعة على حافته، كما ألقى بنفسه في باطن بئر مجهول تماماً بالنسبة له تحت تأثير التطلع للثروة المنتظرة دون أي تحسب لمخاطر قد يتعرض لها .
   من أهم إيجابيات هذا الفيلم القصير للغاية هو غموض وحش البئر، وربما فضل المخرج إبقائه غامضاً لأن كشف طبيعته قد يسقط رمزية الفيلم ويثير الغبار حول أبعاده، وبالتالي يصبح مقيداً بموقف كوميدي يثير الضحك أكثر من الفكر .
   على أن قيمة غموض وحش البئر وطريقة التهامه للراعي ربما تتمثل أيضاً في المعنى المعنوي لهذا الرمز، فالأمر لا يتعلق بوحش مجسداً بالفعل بقدر ما هو رغبة داخل هذا المجتمع المغلق والمحدود عددياً في السيطرة على الجماهير وتكييفها بحسب مصالح أفراده الخاصة، مستخدماً كافة الوسائل والتي تبدأ بالاجتذاب وتنتهي بالتوحش مع أدنى مقاومة .

   لجوء صانع الفيلم للبئر كرمز، موفق بكل تأكيد، فمساحة الدخول إليه محدودة للغاية بحسب الحاجة، وجوفه العميق، المظلم والممتليء بالثروة يشبه جيتوهات الطبقة الرأسمالية المغلقة، كما أن الحصول على بعض الثروة منه يستلزم التدني والسقوط لأسفل بعد سيطرة النزعات الفردية على الإنسان بما تحويه من سلوكيات مرفوضة اجتماعياً ودينياً كالأنانية والطمع والانتهازية، كما فعل الراعي .
   وربما استفاد صانع الفيلم من رمزية البئر في مسألة التأكيد على الخداع، فالبئر يبدو بسيطاً للغاية في مظهره، وهو كهدف يمثل الخير مع كونه مصدراً للماء بما يمثله من ضرورة لا غنى عنها للحياة، لكن كمحتوى يظل مظلماً وغامضاً، وهذا الغموض هو ما دفع العرب لافتراض كون باطن البئر يختلف عن ظاهره، وقاموا بصياغة العديد من الأساطير حوله، كأسطورة المكيين حول الأفعى التي تحرس بئر زمزم، وأساطير الشياطين التي تسكن الآبار وورد ذكرها في معلقة عنترة بن شداد :
يَدْعُونَ عَنْتَرَ وَالرِّمَاحُ كَأَنَّـهَا
أَشْطَانُ بِئْـرٍ في لَبَانِ الأَدْهَـمِ
   هذا الاختلاف بين المظهر الخارجي البريء للبئر، والجوف المظلم والمخيف له، لا يمثل سوى الخداع، وهو ما يمارسه هذا الوحش وتمارسه الطبقة الرأسمالية عبر صخب إعلامياتها .

   وهنا ثمة تناقض ملحوظ بين الحجم الصغير ظاهرياً للبئر مقابل ضخامة الوحش وكثافة الثروة التي يحتويها وأثارت طمع الراعي البائس، أفاد صانع الفيلم في منح المشاهد شعوراً بضخامة جوفه غير الظاهر، وهو تناقض واقعي إذا ما أسقط على المجتمعات الرأسمالية والتي تحوي ثروات ضخمة مع محدودية عدد أفرادها، مما يمنحها قوة ونفوذ ضخم في مواجهة كثافة الجماهير المناقضة لها واحتمالات غضبها وثورتها، لكنه من جهة ثانية يمثل إشارة لمجتمع الأعمال الخفي البعيد عن الأعين، والذي يفضل السيطرة على الواقع في الخفاء مقابل عدم الظهور العلني .

   الدلو، والذي من المفترض استخدامه لجلب الماء من البئر، وهو أحد الأدوات المصاحبة لأي بئر في الوعي البشري،  كان له استخداماً آخر في الفيلم حيث تعلق به الراعي للسقوط إلى الداخل حيث الثروة، وهنا مثلت سرعة الراعي في السقوط للقاع عبر الدلو الرمزية المطلوبة من قبل صانع الفيلم للإشارة إلى عدم قدرة الإنسان في السيطرة على سرعة سقوطه السلوكي بمجرد اتخاذه للخطوة الأولى مقابل استحالة العودة مرة أخرى .
   تأتي نهاية الفيلم عندما يقوم الوحش بإعادة العملة لحافة البئر، وتلميع اللافتة المشيرة لكونه بئر أمنيات، وإعادة رفع الدلو المستخدم في الهبوط، لتثبت أن الأمر بسيطاً بالنسبة لهذا الوحش ولا يعدو أن يكون حادثاً يتكرر بشكل دائم ودون توقف، لكن أحداً لا يمكنه أن ينتبه للخدعة التي يمارسها باستمرار وافتراسه للآخرين مع حرصه، أي الوحش، على فردية ضحيته، ومع كون من يسقط للداخل لا يمكنه الإفلات والعودة ليحرض الباقين على محاولة قتله أو ردم البئر أو على الأقل ليحذرهم بعدم الاقتراب .

أحمد صبري السيد علي
صيدا 24 ديسمبر 2019
رابط الفيلم على يوتيوب

هناك تعليقان (2):

Unknown يقول...

أخطر ما يبروزه هذا العمل هو استلاب المنطق والعقل ودرج العمل والارادة للوصول للنجاح في مرحلة تالية بعد التمني أو الحظ أو حتى الدعاء.
والشاهد أننا نعيش حرية مستلبة، أو في الإطار المسموح لنا به من النظم الحاكمة و الاقتصاد العالمي الذي يحدد لنا ما نشتري من خلال ماكينة مبهرة للبروباجاندا والاعلام الموجة.
كم نتلقى على هواتفنا الشخصية من دعايات واشترك لتفوز وانت فزت معنا فقط ارسل بياناتك هنا وهنا.
هي تبعية مسلية تُسلم تدريجياً اختياراتنا وأرادتنا للمجهول "وبكامل حريتنا".

أحمد صبري السيد علي يقول...

تعليق موفق جدا يا رفيق/ة بالفعل إن حريتنا وإرادتنا مستلبة من قبل الإعلام الموجه والإنسان في العالم الرأسمالي يعيش في طاحونة لا نهائية من الدعايات لسلع قد لا تكون ضرورية مما يضعه في دوامة فواتير لا يمكنه الفكاك منها ويجعله مدجنا سياسياً