الخميس، 28 نوفمبر 2019

التروتسكية والصهيونية (2) مسألة بيروبيجان بين ستالين وتروتسكي


التروتسكية والصهيونية
(2)
مسألة بيروبيجان بين ستالين وتروتسكي


   في عام 1928 وقع اختيار القيادة السوفيتية في موسكو على منطقة بيروبيجان[1] شرق سيبيريا لتكون مكاناً لتوطين اليهود في المنطقة سواء السوفييت منهم أو اليهود القادمين من الخارج والذين كانوا يحصلون على الجنسية السوفيتية بمجرد توطينهم[2] .

   كان هدف ستالين من هذا المشروع هو حل المسألة اليهودية في الاتحاد السوفيتي عبر زيادة تكييف اليهود مع النظام الجديد، وبالمقابل إحباط الدعايات الصهيونية المعادية للسوفييت وكسب تأييد اليهود غير الصهاينة، بالإضافة إلى زيادة الكثافة السكانية في هذه المنطقة الحدودية بين الاتحاد السوفيتي والصين[3] .

   لكن يبدو أن ستالين كانت له أهدافاً أخرى من هذا المشروع لعل أهمها القضاء على فكرة إقامة موطن لليهود في أوكرانيا أو القرم والتي رفضها ستالين علناً وبكل صراحة، خاصة مع العداء الذي يكنه الأوكرانيين والبيلاروسيين لليهود، وإفشال المحاولات الصهيونية لتهجير اليهود السوفييت إلى فلسطين[4] .
   وبغض النظر عن مصير هذا المشروع القائم حتى الآن، فإن الحركة الصهيونية تنبهت لأغراض ستالين وهاجمت هذا الكيان منذ بدايته متهمة الاتحاد السوفيتي بمحاولة نسف الفكرة الصهيونية والدين اليهودي، مشيرة إلى أن طبيعة المكان تصلح لمستوطين ذوي تقاليد زراعية وهي مهنة لم يمارسها اليهود إلا حديثاً[5]، كما اتهموا السوفييت بمحاولة إفقار اليهود الذين كانت نشاطاتهم دائماً في مجالي الحرف والتجارة[6] .
   إذن فقد قوبل المشروع السوفيتي بالرفض من قبل الحركة الصهيونية التي كانت تضع جل اهتمامها على جلب اليهود إلى فلسطين تمهيداً لتأسيس الكيان الصهيوني، كما جوبه كذلك بالرفض من قبل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الاستعمارية الداعمة لفكرة إقامة كيان لليهود في فلسطين[7]، فماذا كان رأي تروتسكي ؟
   يبدو أن تروتسكي – من خلال نصوصه التي ترجمها سعيد العليمي بموقع الحوار المتمدن – لم يكن مرحباً بهذا المشروع على الإطلاق، ففي سنة 1937 وعقب وصوله إلى المكسيك صرح لمراسلي الصحافة اليهودية بالتصريح التالي : " أما بالنسبة لإقليم بيرو – بيدجان فلا استطيع أن أقدم أكثر من تقديراتي الشخصية . لست ملما بهذا الإقليم واقل الماما بالشروط التي أحاطت باستقرار اليهود هناك . على أية حال لا يمكن أن تكون أكثر من خبرة محدودة . سيكون اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية وحده أفقر من أن يمكنه حل مسألته اليهودية الخاصة، حتى ولو في ظل نظام أكثر اشتراكية من النظام الراهن . واكرر، أن المسألة اليهودية مرتبطة بشكل لا انفصام فيه بالتحرر الكامل للبشرية . أي شيء آخر جرى عمله لا يعدو أن يكون مسكنا فحسب وغالبا ما يكون حتى شفرة ذات حدين ، كما يرينا مثال فلسطين "[8] .
   وفي رسالة ترجمها العليمي – لم يوضح مرسلة لمن – يصف تروتسكي تأسيس بيروبيجان كمنطقة حكم ذاتي يهودية بأنه مهزلة بيروقراطية[9]، كما يشير في رده على بعض منتقديه من حزب البوند : " إن أصدقاء اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية راضون بتأسيس بيروبيجان . ولن أتوقف عند هذه النقطة لأقرر ما إذا كانت قد أقيمت على أساس سليم وأي نوع من النظم يقوم هناك (لا يمكن لبيروبيجان أن تفلت من أن تعكس كل سوءات الاستبداد البيروقراطي) . ولكن ما من فرد تقدمي مفكر ومتفرد سوف يعترض على أن يخصص اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية إقليماً خاصا لفئة من مواطنيه يشعرون أنهم يهود، والذين يستخدمون اللغة اليهودية مفضلينها على كل اللغات الأخرى، ويرغبون في العيش كجمهور مندمج معا "[10].
   ومن الملاحظ أن تروتسكي في نصوصه يساوي ما بين فلسطين وبيروبيجان فيعتبرهما كمسكنات للمسألة اليهودية متناسياً أن اليهود في فلسطين هم مغتصبين للأرض من سكان أقاموا بها لقرون طويلة وبدعم من المحتل الإنجليزي، بينما بيروبيجان كانت منطقة نائية بالأساس وتقع في نطاق الدولة الروسية، لكن هذه المساواة في الوصف والتي تحمل في طياتها انتقادات لكل من ستالين والإنجليز في آن واحد ترجع إلى موقف تروتسكي السلبي من مشروع ستالين وإلى تغير الموقف الإنجليزي من هجرة اليهود إلى فلسطين ومطالبته بضرورة إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين والذي أشار إليه تروتسكي ذاته : " إن محاولة حل المسألة اليهودية من خلال هجرة اليهود إلى فلسطين يمكن أن يرى كما هو بالفعل ، كسخرية درامية من الشعب اليهودي . فقد قامت الحكومة البريطانية المعنية بكسب تعاطف العرب الأكثر عددا من اليهود بتغيير سياستها بحدة إزاء اليهود ، واستنكرت فعليا وعدها بمساعدتهم في إيجاد "وطنهم الخاص" في بلد اجتبى . التطور المقبل للأحداث العسكرية قد يحول إلى حد بعيد فلسطين إلى مصيدة دموية لبعض مئات الآلاف من اليهود "[11] .
   وبالتالي فتروتسكي هنا لا يرفض المشروع الصهيوني بالهجرة إلى فلسطين وإنما يصب جام غضبه على الإنجليز الذين غيروا موقفهم من الهجرة اليهودية عقب الثورة العربية الكبرى سنة 1936، ولا يمكننا هنا أن نفسره رفضه في ذات الوقت لمشروع بيروبيجان إلا كنوع من الانحياز الخفي للمشروع الصهيوني بتأسيس الكيان اليهودي في فلسطين .
   إن انتقادات تروتسكي لمشروع بيروبيجان بقدر ما يعبر فيها عن عداءه لستالين فإنه لا يوضح أبداً الخطوات التي يجب اتخاذها لحل المشكلة اليهودية خاصة مع حالة الرفض التي عانى منها اليهود من باقي القوميات وإنما يطرح حلولاً غامضة في كيفية تحقيقها كالتي أشرت إليها في المقال الأول، وبالرغم من أن مشروع ستالين في بيروبيجان كان مخالفاً في ظاهره لرؤية لينين المتعلقة بالقوميات والتي ربطت تعريف الأمة بالأرض واللغة[12]، فإن ستالين حاول التغلب من خلال هذا المشروع على عدة مشاكل واجهته بشكل فعلي معتبراً أن مثل هذا الكيان حل مؤقت في إطار السعي لتكييف اليهود مع النظام الجديد عبر تحويلهم من طبقة بورجوازية منعزلة غير منتجة إلى طبقة عاملة مندمجة في المجتمع[13]، ولهذا لم يمنح هذا الكيان صفة الدولة وإنما منح صفة الإقليم (أوبلاست) بالرغم من منحه حكماً ذاتياً . ولكن في المقابل ما هي الحلول التي طرحها تروتسكي سوى التلويح بأن الحل يتمثل في سيادة الاشتراكية دون توضيح للمراحل التي يجب إتباعها للتعامل الحيني مع هذه المشكلة حتى تقوم الثورات العمالية وتسود الاشتراكية.
   إن رفض تروتسكي لمشروع بيروبيجان – بغض النظر عن حيثياته الغامضة – يلتقي إذن مع الرفض الصهيوني للمشروع مع الفارق أن الصهاينة كانت لهم رؤيتهم البديلة والمحددة، وربما كان يمكن القبول بموقف تروتسكي في حال طرح حلولاً واضحة للمسألة اليهودية تتعامل بواقعية مع التطور المرحلي للاتحاد السوفيتي، لكن اكتفائه بانتقاد الاستبداد البيروقراطي في عهد ستالين – بحسب وصفه - كسبب لرفض المشروع بالرغم من تصريحه بعدم إلمامه بهذا الإقليم والظروف التي أحاطت باستقرار اليهود هناك، فإن تروتسكي لم يفعل سوى فتح الطريق وتمهيده أمام الصهيونية للتقدم في مواجهة ستالين .
   ومهما تعددت التصريحات السلبية التي يلوكها تروتسكي عن الصهيونية ورفضه لها وتحذيره من نتائج مشروعها فإن مواقفه في نتيجتها النهائية تبدو متفقة ومتناسقة مع أهدافها بشكل دائم .

أحمد صبري السيد علي
28 نوفمبر 2019
صيدا



[1] بيروبيجان : منطقة روسية ذاتية الحكم تقع شرق سيبيريا خلف نهر مامو الذي يفصل بين روسيا ومنشوريا، تبلغ مساحتها 37 ألف كيلو متر مربع، وهي تحوي منطقة سهلية صالحة للزراعة، ومنطقة جبلية تضم غابات كثيفة غير مستغلة تتوافر فيها أنواع ثمينة من الأخشاب، كما تضم ثروات معدنية كالفحم والزئبق والنحاس والحديد والذهب، وتتمتع بكميات وافرة من المياه، ويبلغ عدد سكانها حاليا قرابة 190 ألف نسمة من اليهود والمسيحيين والمسلمين، وتعتبر اليديشية (لغة اليهود الشرقيين) لغة رسمية لها بجانب الروسية . (عبدالوهاب المسيري . موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية . طبعة دار الشروق . الطبعة الأولى . القاهرة 1999 . ج 4 ص 75 ، شيرين الشرافي . الأوبلاست أول جمهورية يهودية في العالم . مقال بموقع صحيغة الشرق http://www.alsharq.net.sa . منشور بتاريخ 28/5/2012 عدد 176 . أطلع عليه بتاريخ 28/11/2019 . من الرابط : http://www.alsharq.net.sa/2012/05/28/310666) .
[2] شيرين الشرافي . الأوبلاست أول جمهورية يهودية في العالم . م . س .
[3] عبدالوهاب المسيري . م . س . ص 75 .
[4] م . س . ص 75 .
[5] م . س . ص 75 .
[6] شيرين الشرافي . الأوبلاست أول جمهورية يهودية في العالم . م . س .
[7] سليمان الشيخ . دولة يهود بيروبيجان ... لماذا لم تنجح؟ . مقال بموقع صحيفة القدس العربي https://www.alquds.co.uk . منشور بتاريخ 27/6/2014 . أطلع عليه بتاريخ 28/11/2019 . من الرابط : https://www.alquds.co.uk/دولة-يهود-بيروبيجان-لماذا-لم-تنجح؟/ ، عبدالوهاب المسيري . م . س . ج4 ص 76 . أشار المسيري إلى بعض الجمعيات اليهودية الأمريكية والأوروبية واللاتينية التي تعاطفت مع هذا المشروع .
[8] سعيد العليمي . تصريحات حول المشكلة اليهودية . مقال بموقع الحوار المتمدن http://www.ahewar.org . عدد 5283 منشور بتاريخ 12/9/2016 . أطلع عليه بتاريخ 28/11/2019 . من الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=531113&fbclid=IwAR16nltT9pXvPr3hc1m7ajEa6Lvrv96uOOCO9MMRhP7UxosVyvJQ4N-tDko
[9] سعيد العليمي . م . س . أشير إلى أن تروتسكي وصف كذلك هجرة اليهود إلى فلسطين في ذات النص بأنها سراب درامي وسخرية درامية محذراً من مصيدة دموية يمكن أن تتم لمئات الآلاف من اليهود هناك بدعوى تغير موقف بريطانيا إزاء اليهود وسعيها لاستمالة العرب الأكثر عدداً وهو مخالف لتصريحات أخرى نشرت سنة 1934 وترجمها العليمي كذلك وسبق نقدها في المقال الأول .
[10] سعيد العليمي . م . س .
[11] سعيد العليمي . م . س .
[12] عبدالوهاب المسيري . م . س . ج3 ص 170 .
[13] م . س . ج4 ص 76 .



التروتسكية والصهيونية (1) نقض المشكلة اليهودية لتروتسكي

ليست هناك تعليقات: