السبت، 26 نوفمبر 2016

الخلل في الدولة المصرية


   حتى الآن لا يبدو أن المسئولين المصريين قد تمكنوا من التشخيص السليم لحقيقة الخلل الذي تعاني منه الدولة المصرية بوضوح منذ الحقبة الساداتية في سبعينيات القرن الماضي .
   مثلت تلك الحقبة إنقلاباً على كل السياسات التي تبناها الزعيم الراحل جمال عبدالناصر والتي قامت على تحقيق الاستقلال الاقتصادي والسياسي عبر دعم التطور الصناعي ودعم الطبقتين العمالية والوسطى وخاصة البرجوازية الصغيرة ، إلى درجة سخرية المصريين من عبارة الرئيس الراحل أنور السادات بأنه سيسير على خط سلفه عبدالناصر بقولهم " أن السادات يسير على خط عبدالناصر بالأستيكة (الممحاة) " في إشارة إلى مساعيه للقضاء على كل منجزات الحقبة الناصرية .
   كانت النتيجة النهائية لسياسات السادات ، والتي واصلها بكل إخلاص خليفته حسني مبارك ، هي تحول الدولة المصرية من دولة قريبة من تحقيق تطور صناعي متقدم إلى دولة رخوة تقوم على الاقتصاد الريعي ومنسحبة بشكل تدريجي من حياة المواطن المصري ، وهو ما اقتضى ضرورة تخليها عن الأيدلوجية الاشتراكية التي تبناها عبدالناصر والتخلي كذلك عن مشروعه القومي والتحرري ، لدعم الأوضاع الجديدة ولتكريس السيطرة والتبعية للغرب .
   لكن بداية من ثورة 30 يونيو 2013 حدث تحول جديد في وضع الدولة المصرية ، خاصة في السياسة الخارجية ، حيث رفضت بشكل واضح ولا يمكن إنكاره سياسات الرأسمالية المركزية (حسب تعبير الدكتور سمير أمين) الساعية نحو تطبيق العولمة ، وذلك في إطار سعيها للحفاظ على بقائها كأعرق وحدة سياسية في العالم .
   لكن في المقابل فإنها تبدو مستسلمة للغاية أمام الوكلاء المحليين للرأسمالية المركزية في الداخل المصري ، ومبالغة في مراعاة مصالحهم ، وأحياناً على حساب مشروعها الأساسي في الحفاظ على الاستقرار ووحدة كيان الدولة .
   لقد كانت حزمة القرارات الأخيرة المرتبطة بالحصول على قرض صندوق النقد الدولي ، كتعويم الجنيه المصري ورفع الدعم عن بعض السلع تمهيداً لرفعه بالكامل ، مثيرة لاستغراب من توقعوا توجهاً أكبر من الدولة تجاه محاولة حماية كيانها السياسي من المخططات التفتيتية للرأسمالية المركزية الساعية لفرض عولمتها على كل العالم .
   إن هذا الاقتراض ليس سوى محاولة لإعادة تكرار تجربة فاشلة تماماً كما تؤكد الأحداث التاريخية ، وكانت دوماً مجرد وسيلة لإخضاع الدولة المصرية لسيادة الرأسمالية ، بل إنها كانت السبب المباشر لاحتلال مصر عسكرياً من قبل الإنجليز في عام 1882 ، مما يثير التساؤل حول الأسباب التي دفعت المسئولين المصريين لتصور أن نتائج هذه التجربة الأخيرة سوف تكون مختلفة رغم المقدمات المتشابهة ؟!!
   من الممكن إن تكون الدولة المصرية قد راهنت على دور الصناعات العسكرية في التخفيف من حدة تداعيات القبول بشروط صندوق النقد الدولي ، كونها تدخل ضمن نطاق الاقتصاد الوطني في النهاية ، خاصة وأن الفترة الأخيرة قد شهدت محاولات لتقوية يد الجيش في السيطرة على جانب كبير من الاقتصاد ، والذي لن تتمكن يد الصندوق من الوصول إليه .
   إلا أن قراءة التاريخ تؤكد ، أن الغرب كان دائماً يشعر بالكثير من الاستفزاز تجاه الصناعات العسكرية المصرية ، وقد اهتم كثيراً بتحطيمها مع ما تم تحطيمه من مشروع محمد علي وإبراهيم باشا في مطلع القرن التاسع عشر ، وبالتالي فسوف يرتكب المسئولين المصريين خطئاً كبيراً لو لم يضعوا في اعتبارهم تعرضهم للكثير من الضغوط لاحقاً من أجل إضعاف الصناعات العسكرية وتقليص دور القوات المسلحة في الاقتصاد الوطني .
   ثمة أغراض واضحة للموافقة على منح مصر هذا القرض ، لعل أهمها رغبة الأوربيين والأمريكيين في استقطاب مصر بعيداً عن المشروع الروسي/الصيني/الإيراني خاصة بعد المواقف الأخيرة من الأزمات السورية والعراقية واليمنية والتي أكدت على دعم الجيشين السوري والعراقي في مواجهة المجموعات الإرهابية ، ورفض التدخل لدعم المشروع السعودي في اليمن ، وهو ما أضعف كثيراً من المخططات الغربية ودعم الموقف الروسي .
   الهدف الثاني هو دعم الوكلاء المحليين للرأسمالية الغربية في الداخل المصري عبر سيطرتهم على الثروة بشكل احتكاري ، وبالتالي تمكنهم من تحقيق المشروعات الغربية التي تسعى إلى تفتيت الوحدات السياسية عبر إثارة المحاجزات بين عناصر المجتمع الإثنية أو الدينية والتي سيسهل قيادتها أمام المشاكل الاقتصادية التي ستزيد من الأعباء على كاهل الطبقات الكادحة والمهمشة بالمجتمع المصري ؛ ومما سيسهل الأمر أكثر هو عدم وجود نخبة واعية قادرة على قيادة الجماهير وتوجيهها .
   وقد بدأت المقدمات لتحقيق هذا الهدف بالفعل عبر التصريحات المتسربة بوجود مباحثات برعاية سعودية للمصالحة بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان المسلمين والمجموعات السلفية ؛ كما كشف د/ سعد الدين إبراهيم مدير مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية عن وجود شرط المصالحة مع الإخوان من أجل استكمال شرائح قرض الصندوق ، تحت مسمى تحقيق الاستقرار السياسي الذي لن يتحقق إلا بهذه المصالحة حسب زعمه .
   إن تحقيق الهدف الثاني في سيطرة الوكلاء المحليين على الثروة في مصر ، لن يتحقق مع وجود مؤسسات وطنية تدعم حقوق المواطن المصري ، وبالتالي من المتوقع أن يتم الضغط على الحكومة المصرية لخصخصة المرافق ، وهو ما أشارت إليه الوزيرة سحر نصر في تصريحاتها لصحيفة وول ستريت جورنال ، وفي حال كانت هذه التصريحات المنسوبة للوزيرة صحيحة ، فإن هذه الخطوة سوف تليها مباشرة محاولات إضعاف دور الجيش في دعم المواطن المصري اقتصادياً ، كونه سيمثل منافسة لهؤلاء الوكلاء وأحد مظاهر تدخل الدولة في الاقتصاد ، مما سيؤدي إلى انفصاله عن أزمات الجماهير وتحويله لمؤسسة نخبوية وتجريده من الاحترام البالغ الذي يحظى به من قبل المصريين .
   إن الخلل في الدولة المصرية إذن هو فقدان المشروع والأيدلوجية المحركة لسياساتها ، وبالتالي فإن قرارات مسئوليها ليست سوى رد فعل وتبدو خطواتهم في التحرك مرتبكة وغير واضحة بل ومتناقضة أحياناً ؛ وهذا الافتقاد للمشروع والأيدلوجيا يجعل الدولة محصورة في الدائرة المفرغة ، تتحرك دون تقدم أو هوية ، وهي بالتالي لن تتمكن من تحقيق أهدافها في الاستقلال والاستقرار والحفاظ على كيانها كوحدة سياسية إلا بعد حسم خياراتها تماماً وتقوم بتبني مشروع متكامل في سياساتها الداخلية والخارجية .

أحمد صبري السيد علي
26 نوفمبر 2016 

ليست هناك تعليقات: