الجمعة، 4 نوفمبر 2016

عاشوراء .. المشكلة الأبدية في التاريخ والحاضر الإسلامي


عاشوراء .. المشكلة الأبدية
في التاريخ والحاضر الإسلامي

   كما جرت العادة ومنذ أكثر من ألف عام تقريباً ، ينشأ الخلاف بين جموع المسلمين في الفترة من بداية محرم وحتى العشرين من صفر ، حيث تحل ذكرى عاشوراء التي شهدت استشهاد الإمام الحسين (ع) وأهل بيته الطاهرين في كربلاء وذكرى الأربعين .


   في هذه الفترة يشتعل الجدل حول أكثر من تفصيلة تتعلق بهذه الذكرى وتطرح العديد من التساؤلات ، وهي تبدأ من مشروعية الاحتفال بهذا اليوم ، وتمتد إلى أن حقيقة الاحتفال مختلفة تماماً ولا علاقة لذكرى الحسين (ع) بها ، وتنتهي حول مشروعية بعض الأحداث ومظاهر الاحتفال واستحضار هذه المأساة .

   هل الاحتفال بعاشوراء من أجل الحسين (ع) ؟
   ربما يكون التساؤل الأول الذي يطرح نفسه هنا هو هل تبجيل المسلمين ليوم عاشوراء يعود لاستشهاد الإمام الحسين وأهل بيته ، أم لسبب آخر سابق عليه ؟!! وهذا التساؤل يؤدي لحالة من التلاسن بين الشيعة والسنة ، حيث يرى أهل السنة في معظمهم أن النبي (ص) احتفل بيوم عاشوراء وصامه ، وذكرت مدوناتهم الحديثية العديد من المرويات في فضل هذا اليوم ، لكنها اختلفت في سبب صيام النبي (ص) له ، وذكرت في هذا الشأن سببين : الأول ما رواه البخاري ومسلم عن السيدة عائشة أنها قالت : " كان يوم عاشوراء يوماً تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان قال : من شاء صامه ومن شاء تركه " . وقد روى البخاري ومسلم كذلك رواية مقاربة عن عبدالله بن عمر بن الخطاب تفيد نفس المعنى .

   السبب الثاني هو ما رواه البخاري ومسلم كذلك عن ابن عباس قال : " قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء ، فقال : ما هذا ؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال : فأنا أحق بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه " .

   والواقع أن كلا السببين مثل إشكالاً كبيراً من الناحية الإسلامية ، حيث يتهم الحديث المنسوب للسيدة عائشة النبي (ص) باتباع شعائر وثنية سابقة على الإسلام وهو ما لا يمكن قبوله ، واضطر الحافظ بن حجر العسقلاني ، للخروج من هذه الورطة ، أن يضع تفسيراً هو في الواقع تخمين لا يثبت على الإطلاق بقوله : " وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السالف ، ولهذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه وغير ذلك " ثم يضع تفسيراً آخر محتملاً ، من وجهة نظره ، أكثر غموضاً من الأول نقله عن عكرمة قائلاً : " عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال : أذنبت قريش ذنباً في الجاهلية فعظم في صدورهم ، فقيل لهم : صوموا عاشوراء يكفر ذلك " .

   وخلال محاولات ابن حجر للخلاص من هذا المأزق لم يبحث ، في تفسيره الأول ، عن الكيفية التي تلقت بها قريش الوثنية شعيرة صوم عاشوراء ؟ ولا كيف كانوا يصومونه بالأساس ؟ والتساؤل الأهم هو إلى أي مدى كان القريشيين الوثنيين يتبعون هذا الشرع لدرجة الحفاظ على شعيرة صوم عاشوراء طوال هذه المدة دون وجود أي كتاب مدون لديهم يحوي هذه الشرائع ؟!! . ويبدو التفسير الثاني غير قابل لطرح التساؤلات ، فكل قبيلة قريش ارتكبت ذنباً لا يعرف ما هو ، وسألت شخصاً مجهولاً غير معروف كذلك ، فنصحهم بصيام عاشوراء لتكفير الذنب دون أن نعرف من أي مصدر أو ديانة استقى الشخص المجهول هذه الشعيرة وما علاقته بالذنب المجهول ، والأهم أن قريشاً حافظت عليها بعد أن نسيت الذنب الذي ارتكبته ونسيت من اقترح عليها هذه الوسيلة للتكفير عن ذنبها !

   الحديث الثاني هو خطأ ، بكل تأكيد ، من ثلاث نواح : الأولى : أن يوم عاشوراء لدى اليهود لا علاقة له بنجاة موسى وبني إسرائيل من فرعون فالمقصود هنا هو عيد الفصح الغير متشابه مع يوم عاشوراء على الإطلاق حيث يبدأ من مساء الرابع عشر من شهر أبيب (نيسان) وينتهي في الحادي والعشرين من الشهر ولا يتضمن هذا العيد أي نوع من الصيام ، أما يوم العاشر من تشري (الشهر السابع في السنة اليهودية) الذي يصومه اليهود وهو يوم الكفارة (كيبور) فقد ذكر سفر اللاويين في العهد القديم أنه كان على اليهود – ما عدا المرضى والشيوخ والأولاد - أن يصوموا ذلك اليوم من المساء  إلى المساء أي من الغروب إلى الغروب . كان عليهم أن يمتنعوا عن الطعام والشراب والاغتسال ، ودهن الرأس ولبس الأحذية والعلاقات الزوجية . وكل نفس لا تنقطع فيه للعبادة والتذلل والصوم تقطع من الشعب وكل نفس تعمل عملا تباد تلك النفس . وكل من آكل أو شرب سهوا يقدم ذبيحة خطية ، أما من فعل ذلك عمدًا فيقطع (لاويين 23 : 29 ، 30) . وبالتالي لا علاقة على الإطلاق بين الصومين .

   الناحية الثانية أن المروية تعمدت هذا الربط الخطأ بين يوم عاشوراء ويوم الفصح اليهودي (الذي لا يوجد به أي صوم) نظراً لكون عيد الفصح يأتي في الشهر الأول من السنة اليهودية وهو ما يقابل شهر محرم في السنة الهجرية العربية بعد إقرارها في عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، بما يعني أن هذه المرويات حول علاقة عاشوراء باليهود تمت صياغتها لاحقاً ، لكن القائم بهذا الربط تناسى أن النبي (ص) هاجر إلى المدينة بحسب أغلب المرويات في شهر ربيع الأول وليس في شهر محرم .

   الناحية الثالثة ، أن هذه المرويات تنسب للنبي (ص) نقل بعض الشعائر عن اليهود ، وهو ما استفز بعض علماء السلف ، حيث نقل الإمام النووي عن المازري : " خبر اليهود غير مقبول ، فيُحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوحي إليه بصدقهم فيما قالوه ، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم به " ، والواقع أن رفض المازري للخبر يمثل بعض الوعي لديه بخطورته ، لكن تبريره كذلك لا يمكن قبوله بسبب كون الخبر خطأ من الأساس .

   من الواضح إذن أن كل هذه المرويات والتبريرات المتناقضة تسعى للتعمية وإثارة الغبار فقط على كون يوم عاشوراء مرتبطاً بذكرى استشهاد الإمام الحسين (ع) ، حتى لو كان ذلك على حساب النبي (ص) ومحاولة اتهامه بالنقل من التشريعات الوثنية أو اليهودية .

   هل كان خروج الحسين شرعياً ؟
   هناك تساؤل آخر يطرحه أبناء التيار السلفي من أهل السنة هو شرعية خروج الإمام الحسين (ع) لمواجهة السلطة القائمة الممثلة في يزيد بن معاوية ، ويدخل بعضهم كأبو بكر بن العربي ووحيد الدين خان في مقارنة غريبة للغاية لإثبات أن الإمام الحسن (ع) أفضل من الإمام الحسين (ع) وبالتالي فإن تصرف الإمام الحسن بالصلح مع معاوية أفضل من تصرف الإمام الحسين بالثورة على يزيد ، إلى درجة أن يقول ابن العربي المالكي في العواصم من القواصم : " وما خرج إليه أحد إلا بتأويل ، ولا قاتلوه إلا بما سمعوا من جده المهيمن على الرسل " . أما وحيد الدين خان فذكر في كتابه الحسن والحسين : " إن الموقف الذي واجهة الحسين في حياته مع يزيد ، هو نفس الموقف الذي واجهه أخوه الحسن في حياته مع معاوية ، لكن الحسن قد اتخذ رد فعل مناقضاً لما اتخذه الحسين في حياته " ، ويصل في النهاية لنتيجة المقارنة : " إن ما فعله الحسن لم يكن أمراً عفوياً أو مصادفة بل هو مبني على تعاليم الشريعة الواضحة ، فقد ألهم الله نبيه بوقوع اختلافات سياسية في أوساط المسلمين بعده . لذلك أدلى النبي بتوجيهات واضحة صريحة تمنع من الدخول في حروب مع المسلمين باسم الصالح . كما تنص على الاهتمام بأداء المسئوليات الشخصية " .

   ولا أعتقد أن هناك مجال للمناقشة مع كاتب سلفي حول أن كلا الموقفين غير متشابهين على الإطلاق ، فالإمام الحسن كان في السلطة بالفعل وكان معاوية هو الخارج عليه ، وتمكن الحسن (ع) من وضع عدة شروط ألزم بها معاوية بن أبي سفيان لتقييد سلطته على اعتبار أن هذه السلطة سوف ترد للحسن (ع) عقب وفاة معاوية أو للحسين (ع) إذا توفي الحسن (ع) ، وهو ما يطرح شرعية أخرى للثورة لعدم التزام الأمويين بشروط هذه المعاهدة . كما لا يمكن لهذا الكاتب أن يعترف بأن العدل ورفض الظلم هو أصل من أصول الدين الإسلامي ، كما أنها أمر قرآني : ﴿ وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ ﴾ [سورة هود: 113] . بينما هو يقول بنفس كتابه في تحليله لأسباب ظلم الحكام : " إن الحكام المسلمين الذين نعدهم في عداد الظالمين والمستبدين إنما صاروا كذلك حين تحدى الناس سلطتهم وسيطرتهم " ، فظلم الحاكم ، حسب رأي وحيد الدين خان ، هو رد فعل على ثورة الناس ، وليست الثورة هي رد فعل على الظلم . وبمثل هذا التبرير الذي يعتمد على منطق وضع العربة أمام الثور ، يسعى معظم السلفيين لتبرير رفضهم للحزن على الإمام الحسين وتمسكهم بالترضي على يزيد .

   لقد وجهت اتهامات كثيرة للسلفيين بأنهم يعبرون عن سطوة السلطة ، لكن الواقع أنهم يعبرون عن سطوة الطبقة الإقطاعية الأموية التي سيطرت على الواقع والتي قامت بجهد كبير لتحريف النصوص الدينية من أجل خدمة مصالحها واستقرارها السلطوي ، ومع كون السلفيين هم المنحدرين من تيار الحشوية الذي نما في رعاية الأمويين وتولى مهمة إنجاز هذا التحريف ، فهم يعبرون عن هذه المصالح الطبقية حتى الآن مع بعض التطور الظاهري والسطحي في الاستدلال ، وربما كان الدليل على هذا الاستنتاج أن الانتقادات التي يوجهونها للإمام الحسين (ع) لقيامه بالثورة ضد الأمويين لم يتم توجيهها لعبدالله بن الزبير الذي خرج في السنة التالية ، ثم استولى على السلطة لخمس عشرة سنة سيطر فيها على كل أقاليم الدولة إلا الشام ، ولم توجه لعبدالملك بن مروان الذي خاض حرباً ضد عبدالله بن الزبير حتى هزمه وقام الحجاج بن يوسف بسلخه وصلبه قرب الكعبة ، فكلا الحزبين الزبيريين والأمويين كانا معبرين عن مصالح طبقية متشابهة ، بينما كان الحسين (ع) معبراً في ثورته على مصالح الكادحين الطامحين للعدل كما لمسوه في خلافة علي (ع) .

   هل الشعائر الحسينية بدعة شيعية ؟
   يعتقد بعض الشيعة أن أهل السنة ، وبدرجة أخص السلفيين منهم ، يوجهون نقدهم لبعض الممارسات التي تمارس في عاشوراء مثل التطبير ، والواقع أن الانتقاد يشمل فكرة الحزن على الحسين بشكل عام سواء من ناحية البكاء أو اللطم والتي يرى بعض السنة أنها بدعة شيعية ، بحسب بيان وزارة الأوقاف المصرية مؤخراً .

   لقد اعتاد أهل البيت (ع) الحزن على الحسين (ع) كل عام في هذه الذكرى ، كما اعتاد الشيعة بمختلف طوائف القيام بمواكب اللطم والبكاء خاصة في العهد العباسي ، وتحول لاحتفال رسمي خلال سيطرة البويهيين على الدولة العباسية والسيطرة الفاطمية على شمال أفريقيا والشام ، كون الدولتين كانتا تدينان بالتشيع ؛ لكن مراسم عاشوراء بمظهرها الحالي والتي تشمل الاحتفال الضخم والمراثي الشعرية ثم أداء مشهد تمثيلي للواقعة ، وإنشاد اللطميات لم تبدأ على يد الشيعة كما يعتقد هؤلاء ، وإنما بدأها أهل السنة (المالكية) في الأندلس وخاصة في شرق الأندلس بمدينة مرسية (ينسب إليها أبو العباس المرسي) ، يقول الدكتور صلاح فضل في مقدمته على كتاب المغازي الموريسكية : " وكانت هذه القصائد تلقى في محفل رهيب يقام بمرسية وشرق الأندلس بمناسبة ذكرى مقتل الحسين ليلة عاشوراء من كل سنة ، ومن مراسيم هذه الذكرى مشهد جنائزي يشخص المأساة بطريقة تمثيلية ، كما تشعل الأضواء ويوقد البخور ويحضر القراء المحسنون والمنشدون البارعون ، وتقدم الموائد والأطعمة ، وترتفع الأصوات منشدة المراثي الحسينية . وقد ظلت هذه العادات الإنشادية الجماعية إلى عهد ابن الخطيب في أواخر الدولة الأندلسية " .

   وبالتالي يجب أن يتمهل من يتهمون الشيعة بالابتداع في تعبيرهم عن حبهم الامام الحسين وأهل البيت والحزن عليهم ، فالأمر ، بحسب التاريخ ، لم يقتصر على الشيعة وحدهم بكل حال ، وإنما كان لأهل السنة إبداعهم الخاص في التعبير عن هذه العاطفة الإنسانية العامة ، التي لا يمكن أن يعرفها السلفيون ، تجاه مظلومية أهل البيت .

   التطبير ، هل يؤدي لوهن المذهب ؟!
   ينتقل الجدل هذه المرة للوسط الشيعي / الشيعي ، وينشأ الخلاف حول قيمة التطبير ، وهل هو ممارسة أصلية في المذهب أم مدخولة نتاج عادات وتقاليد إجتماعية أو وافدة .

   لقد وجهت العديد من الاتهامات للدولة الصفوية بأنها من تسبب في إدخال هذه العادات إلى الوسط الشيعي ، وأشار إلى هذا الاتهام الفيلسوف علي شريعتي من بين عدد آخر من الاتهامات التي وجهها للصفويين ، ويرى الرافضين لهذه الشعائر أنها تؤدي لتوهين المذهب وإثارة حالة من التحفظ تجاهه من قبل المخالفين ، ناهيك عن كونها لا دليل عليها في مرويات وأفعال أهل البيت (ع) .

   على الجانب الآخر ، يرى المؤيدين لهذه الممارسات أن نظرة الآخر للمذهب لا يجب أن تكون هي القاعدة التي يتم عليها نقد الموروث ، وهم بالتالي يتشبثون بها كونها تحولت لما يشبه التراث الذي يجب الحفاظ عليه وصارت حالة مميزة للوسط الشيعي .

   الواقع أن النظرة لمثل هذه الشعائر تمت من الناحية الخطأ لدى كلا الرأيين ، فالدولة الصفوية في ممارساتها كانت إبنة مخلصة للعصر الذي ظهرت فيه ، مع أنها تتميز عن الدول المحيطة بها برعايتها للفنون والفلسفة ، وفي الوقت الذي كان فيه علماء وفقهاء الدول الأخرى يرون أن من تمنطق تزندق ، كانت الدولة الصفوية تحظى بتواجد الفنان كمال الدين بهزاد ، والفيلسوف ملا صدرا ، وبالتالي فصب النقمة على الدولة الصفوية ليس حلاً لمثل هذه المشكلات الاجتماعية التي كان العالم الاسلامي كله يعاني منها . ولم تتميز الدولة الصفوية (ذات الخليفة الصوفية) بمثل هذه الممارسات ، فهي متداولة كذلك بين أتباع الطرق الصوفية السنية وتمارس بأشكال مختلفة ومتنوعة .

   كما أن الدعوة بتسبب هذه الشعائر في توهين المذهب رغم وجاهتها لن تحقق الكثير من الفاعلية لمن اعتادوا على ممارستها ويعتبرونها تراثاً شيعياً . فالممارسات الشبيهة للتطبير التي يقوم بها بعض المنتمين للطرق الصوفية السنية لم تؤد لتوهين التصوف أو التسنن وكلاهما مازال يحقق الانتشار الكبير بين غير المسلمين ، بل أن المستشرق مكفرسون في كتابه عن الموالد في مصر أشار إلى ممارسة شعيرة التطبير بمصر في عاشوراء حتى الحرب العالمية الأولى بقوله : " " والاشارة فيما سبق إلى (عاشوراء) تدعو إلى صواب الاضافة ، بأن هناك احتفالاً كبيراً ثانياً يتمركز حول مكان (رأس الحسين) ، (كان يقام) حتى حوالي وقت الحرب العظمى 1914-1918 في العاشر من محرم . فبعد الحداد عند الضريح ، كان يسير موكب مكون أساساً من الدراويش الشيعة إلى (التكية الفارسية) ، يضرب المنتظمون فيه أنفسهم بالسيوف ويصرخون ، (يا حسن) ! (يا حسين) . وعندما شاهدت هذه الترنيمة Threnody كان يقود هذا الموكب صبي يرتدي البياض ويركب فرساً صغيراً أبيض اللون . كان متحمساً بصورة مشفقة مع صوته وسيفه . كان كل من الجواد وراكبه قرمزيين كما كانت كذلك الشوارع قبل الوصول إلى التكية " ، ومن الغريب أن يبدي المستشرق البريطاني إعجابه بهذا الطقس لدرجة المطالبة بإعادته لشوارع القاهرة مرة أخرى أثر النسب بين البيتين المالكين المصري والإيراني : " لنأمل أن يحي الاتحاد الحالي للبيتين الملكيين المصري والإيراني هذا الطقس المهيب والقديم " .

   إن المشكلة الحقيقية تكمن في الذهنية القابلة للاقتناع بمثل هذه الشعائر والتي تستقي وجاهتها من التراكم الاجتماعي الطويل بما يحصنها ضد أي رفض فقهي أو حضاري ، وبالتالي من الضروري أن يتم الاعتماد على الجانب الاجتماعي في مواجهتها كونه سيمثل الجانب الأكثر حسماً .

   لقد مثلت سيادة الملكية العقارية الضخمة في العهد الصفوي الخلفية الاجتماعية لانتشار مثل هذه العادات سواء كانت مجلوبة من شرق أوروبا كما أكد علي شريعتي أو من الهند كما يشير آخرون ، حيث سعى كبار الملاك إلى محاولة السيطرة على جموع الفلاحين عبر تحويل التشيع من حالة ثورية رافضة للظلم ، إلى حالة من التعلق المظهري والتقديس السطحي لشخوص الأئمة بالانفصال عن مبادئهم وتراثهم الثوري ، وهو ما أدى كذلك لانتشار الممارسات الصوفية الشبيهة في مصر وغيرها من المناطق ذات الغالبية السنية من العالم الإسلامي في مواليد الأولياء ؛ وتم تحويل الصراع بين الحسين ويزيد إلى صراع شخصين وليس صراع مبدأين وبالتالي تفريغ ثورة الإمام الحسين من محتواها الثوري الاجتماعي ، وتفريغ الغضب ضدهم من جانب الفلاحين ، ولاحقاً المهمشين إجتماعياً ، عبر إيلام الذات وليس إيلام الثري المستغل . ومن الملاحظ أن هذه الممارسات تضعف كثيراً في المناطق التي شهدت تطوراً إقتصادياً وإجتماعياً ، بينما تزداد في غيرها من المناطق المهمشة من الناحيتين .

   ورغم إتفاقي مع الرافضين لممارسة شعائر التطبير ، فإن صراعهم مع هذه الشعيرة يدور ، فقط ، حول السند الفقهي والحضاري ، وهو ما سيقول فيه كل طرف ما يرغب في قوله ، وسيمكن لكل طرف كذلك طرح ما يشاء من نصوص واستدلالات ، لكن القاعدة الأساسية أن العقل الجاهز لقبول مثل هذه الممارسات بغض النظر عن الأسانيد وعن حجة توهين المذهب ينمو ويتواجد في مناطق التهميش ، وسيكون على العلماء والنشطاء الشيعة عدم الاكتفاء بالتوعية العلمية والفقهية ، وإنما كذلك بتجفيف هذه المناطق وتطويرها من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية ، وإلا فإن هذه الحلقة المفرغة سوف تستمر كثيراً وبلا نهاية .

أحمد صبري السيدعلي
4 نوفمبر 2015

ليست هناك تعليقات: