الجمعة، 1 سبتمبر 2017

الأزمة القادمة في الشرق الأوسط


على الرغم من النجاح الذي حققته قوات الحشد الشعبي العراقي والقوات المسلحة السورية بدعم مباشر من إيران وروسيا وحزب الله اللبناني في مواجهة المجموعات المتطرفة ودحرها من المواقع التي سبق وسيطرت عليها ، وخاصة تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) ، فالواقع أن الاستقرار يبدو بعيداً تماماً عن منطقة الشرق الأوسط وخاصة في العراق وسوريا الذين اعتبرا منطلقين لتنفيذ مخططات مع بعد داعش .

   من الضروري في البداية التأكيد على أن ظهور تنظيم داعش وتحقيقه لهذه المكاسب السريعة في العراق لم يكن المتوقع على الإطلاق استمراره ، بل ولم يكن هناك خطط لدعمه كي يستمر لمرحلة أكبر مما عاشها بالفعل نظراً لكم ما يحمله قيادات وأتباع هذا التنظيم من ضحالة وعجز فكري لا يمكنهم من إدارة الأمور في بلاد تمتلك عراقة حضارية كالعراق وسوريا ، لكن المهمة الأساسية لوجود هذا التنظيم هو إيجاد حالة من المحاجزة بين الدولة المركزية في بغداد وبين أقليمي كردستان والموصل .
   وبالتالي فحتى بعد دخول قوات الحشد الشعبي العراقي للموصل وتحريرها من داعش ، فإن الإشكالية الأساسية قد برزت بوضوح عقب هذا الإنجاز ، فتمكنت القيادات الكردية من عزل دولتهم الذاتية الحكم عن الدولة المركزية في بغداد بشكل كامل ، كما أثار السياسيين السنة في الموصل مسألة العلاقة بينهم وبين الدولة المركزية في بغداد وطالبوا بتحريض من القادة الأكراد بأن تكون اللامركزية هي شكل العلاقة الجديد ، وهو ما كشفه مركز كارنيجي للشرق الأوسط : " معظم زعماء العرب السنة يتبنون فكرة نقل السلطة بعيدا عن بغداد .. وان وجود نظام سياسي لامركزي هو الافضل لقضيتهم؛ وعقدوا مع الاكراد (زواجا ودياً) قائما على مصالحهم المشتركة ازاء تهديد بغداد؛ واحد افضل الحلفاء السنة لحكومة كردستان هو مثال الالوسي" الذي يقيم في كردستان منذ 2011 " .
   إذن ، وبحسب ما ذكره مركز كارنيجي ، فإن حكومة كردستان العراق والتي استغلت تواجد تنظيم داعش بشكل جيد لتعزيز انفصالها الواقعي عن الحكومة المركزية في بغداد ، تسعى لإيجاد حائل جغرافي " سني " بينها وبين الحكومة المركزية في بغداد التي يسيطر عليها الشيعة بحسب التقسيمة الطائفية السياسية ، تمهيداً لإعلان استقلال دولة كردستان المزمع تنظيم استفتاء بشأنه في عام 2018 .
   إن هذا الحائل الجغرافي والطائفي لن يتوقف دوره عند حماية الدولة الكردية الوليدة ، بل سيتجاوز في مرحلة لاحقة لاعتباره القاعدة التي ستنطلق منها الطموحات السنية في استقلال مناطقهم عن السيطرة المركزية الشيعية ، فمنذ سقوط صدام حسين كان الخوف من الطموحات الاستقلالية للاكراد هو ما يربط العرب من الشيعة والسنة مما حقق حالة من التوازن في العلاقات بينهما ، ومع خروج الأكراد من المعادلة فإن سقوط التوازن بين الطرفين العربيين سيكون مؤكداً خاصة مع ما كشفه معهد كارنيجي من طموحات العشائر العربية في الموصل لحكم لا مركزي في المستقبل .
   إن تأسيس دولة كردية في شمال العراق سوف يعيد يسهم بكل سهولة في تحقيق كافة أهداف الرأسمالية المركزية في تفتيت دول المنطقة إلى وحدات سياسية صغيرة قائمة على أسس أثنية وطائفية وهي بالتالي تمتلك جذور النزاع والصراع بينها ، كما أن اتسام المجتمعات العربية في العراق وسوريا بالطبيعة العشائرية يجعلها أكثر قابلية للانقسام الداخلي كذلك في حالة ما تمكنت من تحقيق الانفصال[1] . والأمر لن يكون قاصراً على العراق وسوريا فقط وإنما سيمتد تأثيره لكل الدول المحيطة والتي تمتلك نفس هذا التنوع العرقي والطائفي كلبنان ، إيران ، باكستان ، أفغانستان بالإضافة للجزيرة العربية[2] .
   لكن ماذا عن الموقف الشيعي من تقسيم العراق ؟ كان من النتائج المهمة لسقوط نظام البعث الذي قاده صدام حسين هو إنهاء حالة التهميش السياسي للطائفة الشيعية في العراق والتي عانت منه لقرون طويلة بالرغم من كونها تمثل الطائفة الأكثر عدداً ، وبالرغم من أن الطائفة الشيعية لم تحتكر السلطة بعد سقوط صدام حسين وصيغة تقسيم السلطات الطائفية التي ابتكرها الأمريكيون لترسيخ الأزمة الطائفية بالعراق ، فالحقيقة أن الوجه الشيعي أصبح أكثر سيطرة على الحالة العراقية لحد كبير ، وبالتالي فقد كان من المتوقع أن يرفض الشيعة تماماً فكرة تقسيم العراق بعد تصدرهم لمشهده السياسي .
   ومن هذه النقطة يمكننا قراءة الدور الجديد الذي تسعى المملكة العربية السعودية للعبه في الوسط الشيعي العراقي عبر احتفائها المبالغ فيه بزيارة السيد مقتدي الصدر لجدة .
   من المعروف أن المملكة العربية السعودية ، التي تتبنى المذهب الوهابي كمذهب رسمي ، قد اعتمدت لعقود طويلة على خطاب ديني معاد للشيعة كمذهب ، وهو ما انعكس على خطابها السياسي كذلك في كل ما يتعلق بالشأن الشيعي سواء في إيران ، العراق أو حتى لبنان . لكن منذ فترة ليست بالقصيرة بدأت المملكة في تعديل هذا السلوك، عبر محاولة استقطاب مجموعات شيعية موالية لها في محاولة لإضعاف النفوذ الإيراني بالوسط الشيعي مستخدمة دعاوى عروبية تطالب بتخليص الشيعة العرب من السيطرة الفارسية ، ففي لبنان تبنت تأسيس تيار شيعي معاد لحزب الله وحركة أمل ، تحت مسمى " التيار الشيعي الحر " بقيادة الشيخ محمد الحاج حسن[3] ، وبالرغم من أن هذا التيار لم يتمكن من تحقيق الكثير من الشعبية في الوسط الشيعي اللبناني ، إلا أن السعودية ، قد رأت محاولة تطبيق نفس هذه التجربة في العراق كذلك ، لكن الخطوة السعودية الجديدة رأت في هذه المرة عدم دعم تأسيس تيارات في الوسط الشيعي قد لا تحظى بأي دعم جماهيري أو فعالية اجتماعية ، وإنما خاضت تجربة استقطاب تيار قائم بالفعل وله جاذبيته وجماهيره وقيادته التاريخية المنتمية لآل الصدر ، تلك الأسرة العريقة في عالم التشيع العراقي .
   هناك أهداف تسعى المملكة العربية السعودية لتحقيقها عبر محاولات استقطاب مجموعات شيعية ، بالرغم من رفضها العقائدي للتشيع بشكل عام ، لعل أهمها هو كسر السيطرة الإيرانية على الواقع الشيعي والناتج عن كونها الدولة الشيعية الأكبر في العالم ، كما أن حوزتها العلمية في قم هي الأكبر في الوقت الحالي بعد الضعف الذي أصاب حوزة النجف الأشرف الأكثر عراقة في العهد البعثي ، وهذه السيطرة هي أحد عناصر القوة التي تعتمد عليها إيران في مواجهة القوى الغربية بشكل عام منذ انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني سنة 1979 .
   الهدف الثاني ، وهو الأكثر أهمية ، يتمثل في إيجاد حالة من الخلل في الصف الشيعي العراقي الرافض بشكل عام لفكرة تفتيت العراق ، وهو القاعدة الاجتماعية الأساسية لقوات الحشد الشعبي العراقي التي كان لها الفضل الأكبر في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) .
   إن هذا الخلل في الصف الشيعي العراقي لن يسمح للدولة المركزية في بغداد باتخاذ أي قرار حقيقي في مواجهة رغبة الأكراد بالاستقلال عن العراق ، أو حتى رغبة وجهاء الموصل بالحصول على نوع من الحكم الذاتي والفكاك من المركزية الخاضعة للشيعة ، تمهيداً للاستقلال كذلك مستقبلاً .
   أما الهدف الثالث من سعي السعوديين لاستقطاب التيار الصدري ، هو التأسيس المستقبلي لدولة شيعية عربية في جنوب العراق تكون منافسة للدولة الإيرانية ، عبر الاعتماد على عراقة الحوزة الشيعية بالنجف الأشرف ، وتبني مقتدي الصدر لخطاب عروبي أقرب للعنصرية في مواجهة إيران[4] .
   والهدف الأخير هو إبراز قيادة شيعية عربية متعاطفة مع المملكة بما قد يؤدي لمؤثرات إيجابية لدى الشيعة في المنطقة الشرقية والذين يخوضون مواجهات سلمية تحولت إلى مواجهات مسلحة مؤخراً مع الجيش السعودي في العوامية منذ إعدامها للشيخ نمر باقر النمر ، وهذه المواجهات لم تهدأ على الإطلاق .
   عبر حسابه على موقع تويتر أطلق وزير الدولة السعودي لشئون الخليج ثامر السبهان تغريدتين فضحتا بوضوح الأهداف السعودية من محاولات استقطاب التيار الصدري لصفها عبر ترسيخ نزعة عنصرية في الوسط الشيعي ، وكانت التغريدة الأولى هي الأكثر أهمية حيث تحدث فيها عن التشيع العربي والتشيع الفارسي : " أؤمن بأننا يجب أن نفرق بين المذهب الشيعي الأصيل ومذهب الخميني المتطرف الجديد " ، وقد سببت هذه التغريدة الكثير من الحرج للقيادة السعودية هو ما دفع السبهان لحذفها لاحقاً وتقديم الاعتذار للسيد مقتدي الصدر الذي تعرض كذلك لحرج بالغ كاد يجبره على قطع زيارته .

   أما التغريدة الثانية فبدت غريبة للغاية بالنسبة لوزير سعودي يتحدث عن التشيع ، لكنها في النهاية كشفت الأهداف السعودية السابق الإشارة إليها .

   إذن فالسعودية الوهابية المذهب ، تستعد لدور جديد في المنطقة يستهدف تحقيق المشروع الأمريكي بتفتيت الوحدات السياسية الكبرى في الشرق الأوسط وإعادة صياغتها من جديد ، ومواجهة الرفض الإيراني لهذا المشروع والذي يمثل خطورة كبيرة على أمنها القومي ، وفي سبيل هذه الغاية ستتخلى ، ولو مؤقتاً ، من تشددها التقليدي وعدائها للطائفة الشيعية ، وربما عدائها للآخر بشكل عام ، كي تتمكن من تجميع العرب لدعم هذا الدور .
   لكن يبقى التساؤل هو مدى وعي القيادة السعودية بخطورة الإرتدادات التي يمكن أن تنتج عن خطوة كتقسيم العراق وسوريا ؟ لا يبدو أن السعوديون لديهم الوعي الكافي بما يمكن أن يؤدي إليه تنفيذ خطوة بهذه الخطورة ، خاصة أن المملكة ليست موحدة طائفياً أو حتى مناطقياً ، وبديهي أن تأسيس دولة شيعية في الجنوب العراقي سوف يثير طموحات الشيعة الإثنى عشرية في المنطقة الشرقية والذين يعانون من التهميش الاجتماعي والسياسي والاضطهاد الديني نتيجة سطوة المذهب الوهابي على مؤسسات الدولة ، وهو ما نفس ما يمكن أن يقال على إخوانهم من الشيعة الإسماعيلية في نجران ، والتي تتسم بكونها ذات إنتماء يمني بالإساس .
   أما سوريا فقد بدأت الخطوات بالفعل لإيجاد مثل هذا التقسيم عبر سعي الأكراد لتثبيت حكم ذاتي يكون مقدمة للاستقلال لاحقاً ، لكن سيبقى الموقف التركي أحد أهم الفاعليات في تحقيق هذا المشروع وذلك عبر تنفيذ فكرة دولة الموصل – حلب والتي لا يخفي الأتراك أنهم يحلمون بها ، بل طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العام الماضي بضرورة تعديل إتفاقية لوزان التي تمت سنة 1923 وتنازل بموجبها مصطفى كمال أتاتورك مجبراً عن الموصل وحلب ، حيث وصف أردوغان هذا التنازل بكونه خيانة للشعب التركي ، كما نشرت صحف مقربة منه خريطة لتركيا تضم حلب والموصل وكركوك في إشارة للاطماع التركية بهذه المناطق .

   وقد رافق هذه الخطوات قيام القوات التركية بتدريب مقاتلين سنة من الموصل بقيادة أثيل النجيفي تحت مسمى " قوات حماية نينوى " لتحقيق هذا هدف عزل الموصل عن الدولة المركزية ، وهو ما قامت بتنفيذه في سوريا كذلك عبر قوات الجيش السوري الحر وبشمركة روج آفا الكردية[5] المتواجدة بالقرب من الحدود السورية العراقية .
   إن الموقف التركي الرسمي الرافض لتأسيس دولة كردستان العراقية لن يستمر إلى النهاية إذا ما تم منح الأتراك محور الموصل – حلب حتى ولو بصورة التأسيس لدولة سنية عربية تكون خاضعة للرعاية التركية ، وفي هذه الحالة قد يتحول الرفض التركي إلى دعم في حال تلقوا ضمانات بمواجهة الدولة الكردية المزعومة لحزب العمال الكردستاني والمساعدة في القضاء على قواته .
   إن فكرة تقسيم الشرق الأوسط وتفتيت وحداته السياسية الكبرى ليست جديدة ، وسبق أن أشار إليها ضابط المخابرات الصهيوني السابق أودد ينون سنة 1982 في مقال بمجلة كفونيم بعنوان " إستراتيجية لإسرائيل في الثمنينات " ، وقد أعقب بروز هذه الرؤية ، ظهور مشروع المستشرق برنارد لويس سنة 1992 والتي تشابه مع رؤية ينون مع بعض التعديلات . لكن مشروع التقسيم برز بوضوح في عام 2006 بعدما استخدمت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تعبير الشرق الأوسط الجديد أثناء زيارتها لتل أبيب ، وفي توقيت متقارب كتب الخبير العسكري الأمريكي رالف بيترس مقالاً بعنوان " الحدود الدموية .. كيف يمكن رؤية الشرق الأوسط بشكل أفضل " بالمجلة العسكرية الأمريكية ، وتضمن المقال رؤيته لتقسيم المنطقة على أساس عرقي وطائفي .

   وفي سنة 2013 طرحت الصحفية روبن رايت في مقال لها بصحيفة نيويورك تايمز مقترحها لتقسيم خمس دول عربية هي العراق ، سوريا ، اليمن ، السعودية وليبيا إلى 14 دولة .

   ومن الملفت أن كلا الخريطتان لم تستثن المملكة العربية السعودية ، التي تقوم بدور قيادي لتنفيذ الرؤى الأمريكية بالمنطقة ، من هذا التقسيم المأمول للساسة الأمريكيين بما يشير إلى أن الدور السعودي سوف يعود بالعديد من السلبيات عليها .
   وبالرغم من أن هذا المشروع يبقى مجرد طموحات للأمريكيين وليس من الضروري أن يتمكنوا من تنفيذها بالفعل ، لكن من المؤكد كذلك أن هناك مشروعات موضوعة بالفعل لدى الأمريكيين لهذا الغرض كمشروع برنارد لويس[6] ، وهناك مساع حثيثة لتنفيذه بكل قوة ، وليس من الممكن اعتباره مجرد رؤية تشاؤمية مبالغ بها .
أحمد صبري السيدعلي
21 أغسطس 2017



[1] هذه الطبيعة العشائرية هي ما يميز معظم بؤر الصراعات الحالية ، كأفغانستان ، العراق ، سوريا ، اليمن ، ليبيا ، السودان ، مالي ، نيجيريا .
[2] من المؤكد أن نجاح مخططات التقسيم في هذه الدول قد يؤدي لامتدادات كذلك في الهند والصين وحتى روسيا .
[3] وجه الشيخ محمد الحاج حسن إنتقادات لحزب الله واصفاً إياه بأنه بوق لإيران في العالم العربي، كما انتقد المواقف السلبية التي تبناها الحزب وحركة أمل تجاه المملكة العربية السعودية ، ومن الناحية السياسية ارتبط التيار بتحالف 14 آذار المرتبط بالسعودية .
[4] بالرغم من أن مقتدي الصدر هو أحد أبناء المرجع الشيعي العراقي الشهيد محمد الصدر فإنه يعاني من ضحالة علمية واضحة فيما يتعلق بالعلوم الدينية واللغة العربية ، كما يبدو مفتقداً لمشروع سياسي واضح المعالم ، وهو ما دفعه لتبني خطاب عنصري ضد إيران بالفترة الأخيرة ، في محاولة للمحافظة على نفوذه الديني والسياسي الذي ورثه عن والده ، في مقابل جاذبية النموذج الإيراني المكتسب شرعيته من المنجزات التي يحققها على أرض الواقع .
[5] بشمركة روج آفا هي قوات عسكرية كردية مدعومة من تركيا وتابعة للمجلس الوطني الكردي، تلقت تدريباتها في معسكرات «كردستان العراق» وهي مناهضة لقوات سورية الديمقراطية .
[6] مستشرق أمريكي يهودي من أصول بريطانية ولد سنة 1916 وتخصيص في تاريخ الإسلام ، وقد صدرت خرائطه حول تقسيم المنطقة في سنة 1992 عقب الغزو العراقي للكويت .

ليست هناك تعليقات: