الخميس، 4 سبتمبر 2014

الاستغلال السياسي للتاريخ (1) بين الإستخدام والإستغلال




   هل يجوز لسلطة سياسية أن تقوم بالتعامل مع التاريخ ضمن برنامجها الإعلامي والدعائي ؟
   إن التعامل مع التاريخ بشكل عام يجب يتضمن نوع من المراعاة لطبيعته ، ولأنه تاريخ بمعنى إنتمائه للماضي فهناك ، بكل تأكيد ، خلافات حوله سواء في مصداقية نصوصه ، أو في التفسيرات المتبعة لها ، وبالتالي فالمتعامل الواعي مع التاريخ بشكل عام سيدرك أن ما يعتبره حقيقة تاريخية ، سوف يعتبرها آخرون مجرد وجهة نظر غير ملزمة لهم .

 
   ومن هنا فلا مجال لمحاولة بناء موقفاً سياسياً بناء على فرضيات تاريخية سابقة متداولة حول أحد الشعوب أو الطوائف خارج الوطن ، أو حتى أي مكون من المكونات الوطنية الداخلية .
   وبصفة عامة لا يمكن استثناء أي سلطة سياسية من محاولة الاعتماد على التاريخ في برامجها ، حتى تلك السلطات والأيدولوجيات التي تتواجد في وحدات سياسية عريقة في تقاليدها ونظمها الديموقراطية الراسخة .
   ويصبح اللجوء للتاريخ أكثر إلحاحاً عندما تقوم السلطة السياسية على أيدولوجية ثورية تخوض مواجهات مع القوى الاستكبارية ، وهنا تجد من الضروري إثبات عراقة وأصالة توجهاتها عبر ربطها بالماضي لزيادة حالة الترابط والتراص الاجتماعي في مواجهة الدعايات والإجراءات الموجهة ضدها .
   ويمكننا أن نطلق على هذه المحاولات استخدام سياسي للتاريخ ، وهو القيام بتدعيم الأيدولوجية المعاصرة عبر البحث عن جذورها التاريخية في تراث هذه الجماهير . ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي حرصت المجموعات اليسارية العربية على محاولة تبني مواقف بعض الشخصيات الإسلامية وعلى رأسها الإمام الحسين (ع) والصحابي الجليل أبو ذر الغفاري (رض) ، واعتبرت أنهما يمثلان الجانب التقدمي والثوري في التراث الإسلامي[1] .
   والواقع أن التيارات اليسارية العربية لم تدع على الإطلاق أن الشخصيات الإسلامية السابقة كانت يسارية بقدر ما وجدت في مواقفها التاريخياً جذراً وأصلاً لنفس المواقف الاجتماعية والسياسية التي تبنتها هي لاحقاً .
   ومثل هذا الاستخدام للتاريخ قامت بها العديد من الحركات والتنظيمات السياسية ، كما تبنته بعض الدول ، مثل مصر في عهد الزعيم جمال عبدالناصر ، وإيران عقب نجاح الثورة الإسلامية وخاصة في فترات الحرب مع النظام البعثي في العراق . ومهما يكن من الطريقة التي يتم بها استخدام الحالة التاريخية فإن هذا الاستخدام يرتبط بمسعى النظام أو المجموعة السياسية للارتباط بالضمير العام لجماهيرها المرتبط بدوره بتاريخها وتراثها الحضاري .
   لكن في المقابل تعمد بعض النظم والحركات السياسية إلى التعامل المتعسف مع التاريخ من أجل تبرير إقامة حالة من المحاجزة بين الشعوب أو المكونات الجماهيرية على أسس طائفية أو قومية أو حتى مناطقية كتبرير لممارسة نوع من القمع والاضطهاد له ، وهنا يمكننا تسمية التعامل مع التاريخ إستغلال سياسي له .
   إن من الملاحظ أن الأنظمة والحركات ذات الطبيعة الفاشية هي الأكثر تعاملاً مع المرجعية التاريخية بهذا الأسلوب ، وفي ألمانيا وضع أدولف هتلر بعض الاستدلالات التاريخية كي يؤكد على تميز الجنس الآري في كتابه " كفاحي " ، ويبدو فيها متأثراً بآراء هوستون ستيوارت تشمبرلين وهو كاتب بريطاني استوطن ألمانيا سنة 1899 ونشر كتابه بعنوان " أسس القرن التاسع عشر " ضيق فيه حدود الجنس المميز من الآريين ككل إلى مجموعة آرية أعتبرها أكثر تميزاً وهم شعب التيوتون قائلاً : " يبدأ التاريخ الحقيقي من اللحظة التي استولى فيها الألمان بيد قوية على ميراث العصور القديمة "[2] .
   بناء على هذه الأفكار وعبر إثارة نعرة استعلائية لدى الشعب الألماني ، والتي كانت كافية لتقنين المحاجزة بينهم وبين الشعوب الأوروبية الأخرى ، حفز هتلر مواطنيه كي يقوموا بمواجهة أوروبا واحتلالها متخذاً الصليب المعقوف وهو الرمز الآري العريق كشعار لدولته ، وبعد أن عبر بصراحة في كتابه عن احتقاره للعناصر السلافية وغيرهم من الشعوب الأخرى غير الآرية ليبرر للشعب الألماني الخطوات العدوانية التي أتخذها ضدهم .
   لقد فشلت النظرية النازية بكل تأكيد في الوقوف على قدميها طويلاً نظراً لاعتمادها على تاريخ مزيف في كل الأحوال ، ونظرية لا يمكنها أن تصمد أمام التاريخ المعروف ، فالمصريين وهم الحضارة الأكثر ضخامة ورقياً في التاريخ لم يكونوا من الجنس الآري ، بالإضافة للحضارات الصينية وحضارات البابليين والآشوريين في العراق ، والدرافيديين في الهند ، وحضارات شعوب المايا والأزتيك والإنكا في القارة الأمريكية . وما يجمع بين هذه الشعوب هو التقدم الحضاري الضخم وأيضاً كونهم غير آريين .
   إلا أن الدافع الذي يمكن أن يؤسس لمثل هذه المحاولة العدوانية تجاه الآخر ليس فقط العقيدة الشخصية بقدر ما يرتبط الأمر بمحاولة البحث عن دور محدد عبر تقديم عدو وهمي للجماهير ، وفي كتابه " كفاحي " لم يمل هتلر من التحدث عن الأخطار السلافية والشيوعية ، وهنا فقط يمكن لشخصية كأدولف هتلر أن تحظى بزعامة على من سيقتنعون ، تحت ضغط الخوف وعدم الوعي والوضع الاقتصادي ، بالمخاطر الناتجة عن تواجد عناصر مختلفة معهم على نفس الأرض ، والتي ستتهم أيضاً بضعف الانتماء الوطني والعمالة للأعداء والتآمر على الألمان[3] . وهي نفس الاتهامات التي توجهها الأحزاب الهندوسية المتطرفة للمسلمين والسيخ في الهند ، وهي أيضاً نفس الاتهامات التي توجهها الأحزاب الرجعية للمسيحيين والشيعة في مصر .
   إن الفارق يبدو واضحاً بين الاستخدام السياسي للتاريخ الذي تعتمد عليه أنظمة وحركات جماهيرية ووطنية لتاصيل رؤيتها والاقتراب من ضمير مواطنيها بشكل عام ، وبين الاستغلال السياسي للتاريخ والذي تعتمد عليه الأنظمة الفاشية والرجعية لرتق نقاط ضعفها من ناحية الرؤية والمشروع ، ومحاولة بناء قوتها واستقرارها عبر القضاء على الآخر .

أحمد صبري السيدعلي
4 سبتمبر 2014



[1] كان الحزب الشيوعي العراق يستأجر خطباء في فترات العزاء الحسيني لهذا الغرض ، كما صدرت عدة كتب في مصر حول العلاقة بين الإسلام والاشتراكية ، وأصدر عبدالرحمن الشرقاوي مسرحيته المعروفة " الحسين ثائراً " و" الحسين شهيداً " وكتاب " أئمة الفقه التسعة " والذي بدأهم بحليف القرآن زيد بن علي زين العابدين (رض) ثم الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) ، وقد أضطر الكاتب الراحل مصطفى محمود للرد على هذا الموقف من اليسار عبر كتابه أكذوبة اليسار الإسلامي ، بينما رد شيخ الأزهر الراحل بكتاب أبو ذر الغفاري والشيوعية .
[2] ويل وأريل ديورانت . دروس التاريخ . ترجمة وتقديم / علي شلش . طبعة دار سعاد الصباح . القاهرة 1993 . ص59 . ويشير ويل ديورانت إلى كتابات باحثين آخرين مثل الفرنسي جوزيف آرثر دي جوبينيو والأمريكي ماديسون جرانت .
[3] لم تتخذ الرأسمالية الألمانية مواقف سلبية من هتلر ، حيث قام بعد توليه السلطة بالقضاء على التنظيمات العمالية في ألمانيا ، كما قام بالقضاء على الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي ، كما استفادت من عدوانيته تجاه الأجانب ورجال الأعمال ذوي الأصول السلافية واليهودية .

ليست هناك تعليقات: