الجمعة، 12 سبتمبر 2014

الاستغلال السياسي للتاريخ (2) تزييف تاريخ الآخر




   في كتابه " آلهة مصر العربية " حاول الباحث الليبي علي فهمي خشيم أن يثبت الأصول العربية للحضارة المصرية ، مستدلاً بالتشابهات ، التي زعمها ، بين اللغتين المصرية القديمة والعربية ، ليصل في النهاية إلى نتيجة أن المصريين القدماء شعب عربي .


   ولأنه يدرك أن هناك خلافات بين اللغتين بنفس قدر المتشابهات بينهما ، وأن التشابه اللفظي قد لا يعني الأصول العربية للغة المصرية بقدر ما يعني استعارة العرب ألفاظاً مصرية فقد حاول الخروج من هذا الاشكال بطريقة لا يمكن أن تكون علمية : " على أننا نصادف في المصرية القديمة ألفاظاً لا يتيسر المكافيء العربي لها ، وقد تكون هذه الألفاظ مما مات أو بطل استعماله في العربية " ولأنه يدرك أن هذه التشابهات قد تتواجد كذلك مع لغات أخرى نظراً للأصول المتنوعة للحضارة المصرية ، فقد لجأ لسد هذا العجز عبر اعتبار اللغات السامية الأخرى الآشورية، البابلية، السريانية وغيرها لغات عربية كذلك : " فإذا أعوزت المقارنة ، رغم الجهد فإن ثمة مصدراً آخر يجب الانتباه إليه ، أعني لغات الوطن العربي القديمة المسجلة والتي كشف النقاب عنها عبر القرنين الماضيين من مثل البابلية ، العربية الجنوبية ، الكنعانية وفروعها ولهجاتها . وهي معين دافق يمكن العثور عن سبيله على الألفاظ المهملة في العربية وقارنتها بالمصرية ، لتعاصر هذه اللغات كما هو معروف . فإن لم يكن فإن في اللهجات الباقية من آرامية (سريانية) وليبية (بربرية) ومهرية (حضرمية) وحتى حبشية (أثيوبية) وتشعباتها مجالاً خصباً يمكن الركون إليه لاكتشاف قرب المصرية من هذه اللغات العروبية كلها "[1] .
   لقد شهدت الفترة الأخيرة من القرن العشرين انتشار مثل هذه الأبحاث التي تسعى لسرقة تاريخ الشعوب وتراثها عبر استدلالات تثير الشفقة ، فالباحث يدرك كغيره أن هناك تشابه لا يمكن احصائه بين اللغات الأوروبية (الفرنسية، الإنجليزية، الإيطالية ...الخ) سواء في المفردات أو في أصول القواعد اللغوية ، لكن هذا لا يجعل من اللغة الفرنسية ذات أصل إنجليزي ولا العكس ، كما أن التشابه بين الفارسية والكردية والهندية (السنسكريتية) لا يجعل أي منها تابعاً للآخر ولن يجعل الإيرانيون أكراداً ولا هؤلاء من الهنود .
   والواقع أن الباحث لم يكتف بتزييف التاريخ المصري فقط بل سعى كذلك لاعتبار الشعوب السامية الأخرى كعرب ، بالرغم من إداركه أن الآشوريين وصفوا سكان الصحراء بتعبير " عريبي " في إشارتهم لسكان بادية العراق كما جاء في نص شلمنصر الثالث الآشوري سنة 853 ق . م في وصف أحد الثائرين عليه من العرب واسمه جنديبو العريبي ، أمام البابليين فقد استخدموا وصف " ماتو عرابي " أي أرض العرب . وهو ما يعني أن العرب كشعب كانوا منفصلين عن هذه الشعوب السامية الأخرى التي عاشت في بلاد الرافدين والشام ، والتي قد تتفق معه في الأصول السامية لكنها بكل تأكيد تختلف عنه في طبيعتها الحضارية والتي أدت لتطور لغاتها ومفرداتها واكتسابها لمفردات جديدة تتلائم مع ما تعرضت له من تغيرات حياتية وثقافية .
   ومن الغريب أن الباحث استثنى بشكل متعمد العبرانيين[2] عن هذا التداخل والخلط التاريخي ، بالرغم من أنهم كشعب وكلغة ينتمون لنفس هذه الأرومة ، بل أنهم أقرب نسباً للعرب من الأمازيغ الذي ضمهم للأسرة السامية ، وإذا كان قد ارتضى أن يعتبر الآشوريين والأحباش والبابليين والآراميين ... الخ وغيرهم كعرب ، فما هو وجه استثناء العبرانيين ؟
   إن هذا التساؤل يشير للحقيقة التي دفعت هذا الباحث لمثل هذه المحاولة التزييفية للتاريخ ، والتي لم يتمكن هو نفسه من إنكارها ، فدراسته المنشورة في جزئين هي مجرد رد على دعاة الفرعونية في مصر ، وإذا كان دعاة الفرعونية في مصر يسعون بالأساس لتحقيق غرض سياسي وهو فصل مصر عن محيطها الشرقي والعربي وعزلها عن إلتزاماتها تجاهه بما يحقق مصلحة الكيان الصهيوني ، فما مارسه الباحث الدكتور علي فهمي خشيم هو أيضاً محاولة لسرقة تاريخ الشعب المصري والشعوب الأخرى لتبرير دعاوى فاشية مارست الإضطهاد والقمع بحق العرقية الأمازيغية في ليبيا ولم تخدم يوماً القومية العربية على الإطلاق .
   إن استثناء العبرانيين من المغامرة التي خاضها الباحث ، كان له هدف سياسي بكل تأكيد إرتبط بالصراع بين العرب والكيان الصهيوني الغاصب الذي يتعلق بتراث هذا الشعب القديم في تزييف تاريخي آخر[3] ، وقد أدرك الباحث أنه سيقع في ورطة حتماً في حال تناول هذه الجزئية في بحثة وبالتالي آثر ألا يتطرق إليها بالأساس . وفي كل الأحوال فإن هذا التجاهل واعتراف الدكتور خشيم بدواعي تدوينه لهذه الدراسة يشير إلى مدى التأثير السياسي على التوجهات البحثية له وهو ما يطعن في مصداقية نتائجه العلمية .
   إن دراسة الدكتور علي فهمي خشيم لا يمكن أن يطلق سوى إستغلال سياسي للتاريخ ، بحيث يتم صياغة رؤية ومشروع سياسي بناء على تصورات تاريخية غير ثابتة وربما أيضاً غير حقيقية ومزيفة ، ثم اعتبارها كحقائق ثابتة وفرضها بالقوة على الآخرين عبر الدعايات الإعلامية ، لينتهي الأمر بتخوين كل من يرفضها . وكان هذا هو حال النظام السياسي السابق في ليبيا ، حيث طاب للعقيد الراحل معمر القذافي في خطاب جماهيري أن يمر على المشكلة الأمازيغية في ليبيا ليقول للمستمعين أن البربر هم من أصول عربية يمنية قديمة وبالتالي فالقرارات الصادرة بقمعهم ومنعهم من استخدام لغتهم الأمازيغية أو التسمي بأسمائهم الأمازيغية لا تعدو أن تكون محاولة لإعادتهم للأصول العربية القديمة .
   لقد سعت العديد من الأنظمة الفاشية التي حكمت العالم العربي إلى محاولة علاج التنوعات العرقية والطائفية التي تميزه وتشكل جميعها جزءاً راسخاً من حضارته القديمة والإسلامية والحديثة ، نظراً لاعتبارهم أن هذه التنوعات تشكل خطورة على أمن واستقرار نظمهم القمعية ، وبالتالي فلم يتفتق ذهنها سوى عن وسيلة وحيدة وهي القضاء على هذه التنوعات ، واستخدام التاريخ المكتوب بما يخدم مصالح هذه الأنظمة كأحد الوسائل الدعائية لشرعنة هذه المواقف التي لم تكن لتنجح على الإطلاق ، هذا غير ما أدت إليه من ردود أفعال عمقت الإشكاليات الطائفية والعرقية في العالم العربي .
   إن استخدام التاريخ بهذه الصورة العبثية لا يسهم فقط في تزييفه وإثارة الغبار حوله من الناحية العلمية ، وإنما يؤدي كذلك إلى نتائج سياسية مدمرة في المستقبل البعيد ، عبر إثارة النعرات العرقية المتبادلة بين مكونات الشعب الواحد ، كنتاج لمحاولة تسييد مكون شعبي على المكونات الآخرى واعتبار تراثه هو الأصل لتراثياتها التي ستعد فرعية وهامشية كذلك كمقدمة للقضاء عليها وشطبها من التراث الإنساني لهذا الوطن أو ذاك . وهو ما يضع انتماءات هذه المكونات الشعبية لأي وطن في السياق التضارب بين الولاء للتراث الراسخ في الضمير الإنساني بشكل عام وبين الولاء للوطن الحاضر . وهذا هو ما يحتاجه العالم الاستكباري لتفتيت أي وحدة سياسية تمهيداً للاستيلاء على ثرواتها .
  
أحمد صبري السيدعلي
12 سبتمبر 2014



[1] علي فهمي خشيم . آلهة مصر العربية . طبعة مكتبة الأسرة . القاهرة 2006 . ج1 ص 12، 13 .
[2] لا أقصد بالعبرانيين اليهود كأبناء ديانة ، وإنما المقصود هم شعوب العابيرو السامية كما وصفهم المصريين في نصوص تل العمارنة والتي كان من بينهم بني إسرائيل . وترجع أصول هذا الشعب إلى الجزيرة العربية .
[3] سأشير إلى طبيعة هذا التزييف التاريخي في مقال لاحق . وأشير إلى أن شعوب العابيرو كانت خليطاً من شعوب متنوعة كالأموريين والعموريين وحتى بعض الشعوب التي تحدثت العربية مثل شعب العماليق .

ليست هناك تعليقات: