السبت، 12 يوليو 2014

أحداث العراق ومشروع التفتيت الأمريكي




   يتميز الشرق الأوسط بأنه يحوي تجمعاً كوزموبوليتانياً ضخماً من القوميات والديانات والطوائف ، ومن المثير للانتباه أن هذه العناصر الثلاث تتداخل فيما بينها وتتصل أو تفترق في نقاط كثيرة كنتيجة واضحة لعوامل المشاركة الجغرافية والتماس الحضاري ، وربما الإندماج فيما بينها .

 
   لقد كان لهذه التنوعات الدور الأكبر في الثراء الثقافي بالشرق الأوسط في فترات النهوض التي شهدها التاريخ الإسلامي ، وساهمت كافة هذه التنوعات القومية والدينية والطائفية في دعم النهضة ، خاصة بالعصرين العباسي والفاطمي ، قبل أن تتراجع الحضارة الإسلامية تحت ضغط الإقطاع العسكري التركي[1] الذي أطلق المعتصم العباسي له العنان وسمح له بالسيطرة على الدولة .
   ومن البديهي أن التراجع الحضاري يؤدي إلى حالة من المحاجزة بين هذه التنوعات نتيجة حرص القيادات بها على الاحتفاظ بمكاسبها ودعم نفوذها الاقتصادي والاجتماعي ، مما أدى لما يعانيه الشرق الأوسط الآن من حالة تفتت وصراع بين الإنتماءات المختلفة[2] .
   على أن الأوضاع في الشرق الأوسط والشمال الأفريقي[3] ، وخاصة بالعراق وسوريا ومناطق أخرى[4] ، لا يمكن أن تكون معبرة فقط عن مجرد المحاجزة بين انتماءات مختلفة ، فقد كانت كل هذه التنوعات قادرة على التعايش بشكل مشترك رغم المحاجزة لسنوات طويلة ، ودون أن تتوجه الأمور لديها إلى درجة المطالبة بالاستقلال والانفصال على غرار ما حدث في السودان الذي يمثل بداية الخطر القادم تجاه كل الوحدات السياسية العربية .
   أن تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات ذات إنتماءات قومية أو دينية وطائفية يتطابق مع المشروع الذي خطط له المستشرق الأمريكي (بريطاني الأصل) الصهيوني برنارد لويس ، والمختص بتاريخ العالم الإسلامي ، ومع معرفته التامة بتزايد حجم التناقض في المصالح بين هذه التنوعات المختلفة فقد أكد على أن بقاء الكيان الصهيوني وبالتالي بقاء المصالح الغربية (والأمريكية بشكل خاص) في المنطقة لن يستمر دون تفتيت وحداتها السياسية الكبرى بناء على الانتماءات القومية والطائفية ، وهو ما سيعمق الاختلافات بين هذه الوحدات القزمية المفتتة ، كما سيمنح الكيان الصهيوني الشرعية المفتقدة للبقاء ككيان معبر عن اليهود .
   لقد وضع برنارد لويس هذا المشروع في ستينات القرن الماضي ، إلا أن البداية كانت في عام 1968 عندما قرر الرئيس الأمريكي نيكسون اللجوء إلى الجدل الديني في محاولة لمخاطبة الأغلبية البروتستانتية البيضاء لضمان أصواتها ، وتحويل الكادحين الأمريكيين من التصويت على أساس المكاسب الاقتصادية والاجتماعية إلى التصويت على الأسس العرقية والدينية ، وهو ما مثل مقدمة الانقلاب على الحقوق الممنوحة للعمال لاحقاً في عهد رونالد ريجان .
   إن تفتيت المجتمعات على أسس من الاختلافات الثقافية (قومية أو دينية) يهدف إلى إسقاط الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للكادحين بها ، ومحاولة توجيه الصراع إلى الناحية القومية أو الدينية . وليس من قبيل الصدفة أن تبدأ هذه الدعوات التفتيتية في أعقاب هزيمة 1967 والتي كانت مؤشراً إلى تراجع المشروع التقدمي في العالم وتغول الرأسمالية كقوة منفردة .
   والفارق الأساسي أن ممارسة هذه السياسات في أمريكا كانت محدودة عند محاولات دعم الرأسمالية والبحث عن غطاء شرعي وأخلاقي لتمرير سياسات معادية تدريجياً للكادحين ، باعتبار القوة الاقتصادية والسياسية لأمريكا والتي قد تسمح لها ببعض هذه الممارسات الخطرة دون التفكير في مخاطر التفكك[5] . لكنها في المناطق الأخرى ، المستهدفة من قبل الاستغلال الرأسمالي فسوف تسعى إلى التفتيت الحقيق للوحدات السياسية ، وإنتاج أنظمة فاشية متطرفة تتولى مسئولية رعاية المصالح الرأسمالية (الغربية والأمريكية) في المنطقة مقابل دعمها .
   لقد ساهمت النخب السياسية العربية العلمانية في هذا المشروع ، وكانت البداية في مصر ، عندما سعى نظام السادات في السبعينات لتبني شعارات دينية ودعم تيارات تروج لرؤية متطرفة ورجعية للدين وتسعى للخلط بين المنظمة الثقافية للأغلبية وبين الحقيقية الدينية والانتماء الوطني بحيث يتهم كل المختلفين معها بالخروج عن الدين والوطنية معاً[6] ، وذلك بهدف مواجهة التيارات الوطنية كاليسار والقوميين ، وتبرير الانقلاب على السياسات الاشتراكية التي تبناها الزعيم جمال عبدالناصر تمهيداً لفتح المجال أمام الرأسمالية الطفيلية للسيطرة على الأوضاع في مصر . وهي ذات السياسات التي واصل مبارك تنفيذها ، بل وكان نظامه حريصاً في سبيل مواجهته للجماعات الإرهابية على أن يبدو متحدثاً شرعياً عن الإسلام ، وبالتالي فقد تورط في بعض الممارسات القمعية الفكرية تحت ضغط محاولته الظهور بمظهر المدافع عن الإسلام ، كاضطهاد المفكرين[7] والقضايا الملفقة لبعض المجموعات الدينية مثل الشيعة ، البهائيين ، الأحمدية والقرآنيين ، بالاضافة للتعامل الدوني مع المسيحيين كمواطنين أقل درجة .
   يؤكد سكوت هيبارد في كتابه " السياسات الدينية والدول العلمانية " أن نظام مبارك ربح المواجهة الأمنية مع الجماعات الإرهابية ، لكنه في الوقت نفسه أكد على شرعية المنظومة الدينية لها بعد أن تبنى ذات الخطاب وسمح لها بالتغلغل في مرافق الدولة لتصبح هي المنظومة السائدة للإسلام ، وهو ما دعم هذا التيار في فترة ما بعد ثورة يناير 1911 .
   لقد كان الإعلان عن تقسيم السودان في فبراير 2011 وتقبل النخب السياسية في العالم العربي لهذا القرار مقدمة لعمليات تقسيم أخرى للوحدات السياسية الكبرى ، وفي الوقت الذي تبدو بوادر فشل هذا المشروع في سوريا نظراً لرفض نظامها السياسي تبني أي لغة طائفية ، فإن العراق سوف يعاني كثيراً من هذا الخطر ، حيث كانت اللغة الطائفية والعنصرية حاضرة بشكل قوي في إعلاميات نظام البعث السابق ، وهو ما ترك آثاره الواضحة لدى رجل الشارع العادي ، وخلق مبرراً للمطالبات الانفصالية التي بدأت في الظهور بكل وضوح الآن .

أحمد صبري السيد علي
12 يوليو 2014



[1] تميز العسكر التركي بقدرات عسكرية لكنه في المقابل عانى من التخلف الحضاري في هذه الفترة ، وبالتالي فقد تعامل بقدر كبير من عدم الوعي مع المسألة الزراعية والثروات التي سيطر عليها مما أدى لهذا التراجع الحضاري .
[2] يفسر البعض هذه المحاجزات إلى فشل البرجوازية بالشرق الأوسط في تحقيق نهوضها وثورتها وبالتالي استمرار الاقطاع المتخلف والرجعي في السيطرة على الواقع بكل ميوله التفتيتية . وبالتالي فالملاحظ أن حتى الدعوات القومية قد تنقسم من ناحية مناطقية وقبلية .
[3] تعاني دول غير عربية بالشمال الأفريقي من خطر الانقسام العرقي بين الأفارقة والأمازيغ ، بالرغم من أنها تتفق في الدين والمذهب ، مثل مالي والنيجر وحتى تشاد .
[4] تبدو الأوضاع في اليمن متجهة إلى التقسيم على أسس مناطقية ومذهبية .
[5] لا تبدو مخاطر التفكك بعيدة بالفعل عن الولايات المتحدة لكنها تظل خاملة نظراً لقدرة الحكومة المركزية على دعم المكاسب المقدمة للجماهير .
[6] دائماً ما توجه التيارات الرجعية تهمة الخيانة والعمالة للخارج للمسيحيين والتيارات العلمانية وحتى للمجموعات الدينية الإسلامية المختلفة معها فكرياً .
[7] تعرض عدد من المفكرين العلمانيين مثل نصر حامد أبو زيد ، محمد سعيد العشماوي للقمع الفكري في عهد مبارك بسبب آرائهم الدينية التي لم تتفق مع الرؤية الرجعية الوهابية .

ليست هناك تعليقات: