الجمعة، 17 يوليو 2020

تطور المحرم "Tabo" بين الدين والمصالح الطبقية

كتب هذا المقال في أكتوبر من عام 2006 كمقدمة لدراسة عن الهولوكوست تابعة لمؤسسة مركز الفجر التي كان يرأسها الرفيق الراحل عاطف الجبالي (ره) .

تطور المحرم "Tabo" بين الدين والمصالح الطبقية


   من البديهي أن هناك علاقة بين تطور المجتمعات البشرية وتغير أشكال المحرم "Tabo" والذي يعبر بالأساس عن كسر المنظومة الاجتماعية التي فرضتها طبقة مسيطرة .


   في المجتمعات القبلية الأولى حيث كان هناك توحداً كاملاً بين الإله والقبيلة بصفته الجد الأول لها ، كان المحرم يرتبط بالعادات التي تناقلتها الأجيال الأحدث عن الأجداد والتي يتم تفسيرها عبر الزعامات القبلية (الزعيم/الكاهن) بما يخدم ثبات موقعهم .

   وفي التطور الإقطاعي للمجتمعات البشرية والذي شهد ظهور الديانات التوحيدية وقيام إمبراطوريات إقطاعية ضخمة تحوي تنوعاً من الشعوب في إطار دين واحد بعد أن قامت بإعادة صياغته بما يناسب مصالحها .. فإن النظرة للمحرم "Tabo" شهدت تغيرات أخرى .

   لقد أصبح هناك وجهان متداخلان للمحرم "Tabo" الأول يرتبط بالدين عبر النصوص المقدسة ، أما الثاني فهو المحرم الاجتماعي الذي سعى الإقطاع المسيطر لفرضه وربطه بالدين سواء بشكل كامل عن طريق إقحامه كنص في الكتب المقدسة (المنزلة من قبل الخالق) أو النصف مقدسة (التي لم تنزل من السماء وإن حوت وصايا الأنبياء كذلك) ، أو بشكل جزئي عن طريق تفسير النصوص المقدسة بشكل غير سليم أو عن طريق الاعتياد وتحوله لقانون عرفي .

   ومن الملاحظ أن المحرم "Tabo" الاجتماعي ربما يحمل قدسية أكبر من المحرم الديني نظراً نظراً لتركيز إعلاميات الطبقة المسيطرة عليه بشكل دائم ، فالمؤرخين المسلمين يتعاملون مع واقع إدمان معظم الخلفاء الأمويين والعباسيين للخمر بلا مبالاة رغم كون الفعل محرم ديني حقيقي ، إلا أن نشر مثقف أو فقيه لرؤية مذهبية مغايرة لما هو سائد اجتماعياً قد تؤدي إلى استهلاك عدداً كبيراً من الصفحات في توجيه السباب لهذا الشخص ، وليس من المصادفة أن كل سلطة قامت بناء على تبني مذهباً دينياً ، كما أن كل حركات المعارضة كان لها مذهباً مغايراً ورؤية للدين قامت بترويجها .

   إن هذا الحضور القوي للدين – حتى في صورة الاستغلال – لم يستمر في التطور البرجوازي الذي شهدته أوروبا عقب عصر النهضة .. حيث سعت الطبقة الحاكمة الجديدة لتهميش الدين كمقدس في أثناء تقليمها وقضائها على كل الأسلحة الإقطاعية والتأسيس لمقدسات أخرى بديلة تتجاوز كثيراً الدين في أهميتها .

   وبالتالي فقد ارتبط المحرم "Tabo" بقضايا عنصرية أو قومية تمثل بالأساس مصالح الطبقة المسيطرة التي قامت بالترويج لصالح كل هذه التنوعات الفكرية المؤدية بشكل أساسي لنوع من المحاجزة وإيجاد الفواصل بين الشعوب والأجناس بما يحمي سيطرتها وما تتصور أنه حق لها في ثروات مناطقها ، ويسمح لها باستخدام مجموعة بشرية بشكل عدائي للاستيلاء على ثروات تقع في أراض مجموعة بشرية أخرى واحتكار أسواقها ..

   فأوروبا كانت قد اهتزت بفعل حربين عالميتين بسبب الصراع الاستعماري بين الدول الأوروبية لتسيطر على المواد الخام ومصادر الطاقة والأسواق وخطوط التجارة ، وكان من الطبيعي أن يؤدي احتدام المنافسة إلى صدام ، وكان من بين نتائج الحرب الأولى أن ظهرت الشيوعية في روسيا والتي أثارت مخاوفاً كبيرة من انتشارها السريع في العديد من دول أوروبا الغربية ، وكانت النازية أحد نتائج الرأسمالية الألمانية بعد أن تقاسمت الدول الاستعمارية معظم أنحاء العالم ، وأدت التحديات الصعبة التي واجهتها ألمانيا إلى ظهور أكثر الأيديولجيات شمولية في العصر الحديث ، وجاءت الحرب العالمية الثانية كنتيجة لعدم العدالة في توزيع المستعمرات بين القوى الاستعمارية القديمة والناشئة ، وبعد انتهاء الحرب ببروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي كقطبين رئيسيين أخفت الحرب الباردة بثور النظام الرأسمالي العالمي .. فقد ادعى ليبرالية كان يخلعها على نفسه عنوة لإبراز شمولية الخصم ، وحرية اقتصادية لا تتناسب مع مصالح الشركات الاحتكارية العملاقة ، وتحالف دول رأسمالية تنظر بريبة إلى حلفائها ، وكان لهذه البثور أن تطفو على السطح مع انهيار الاتحاد السوفيتي لكنها لا يمكن أن تظهر بغتة وإنما تأخذ بعض الوقت حتى تستوعب المتغيرات الجديدة وتختبر الساحات المحلية والإقليمية والدولية ، غير أن الولايات المتحدة كانت أكثر تسرعاً في إظهار النوايا الاستعمارية في محاولة لفرض أمر واقع على بقية الأطراف .

   إن الشكل الأخير للرأسمالية والذي وصل إلى درجة قيام الترستات والكارتلات متعددة الجنسيات والأنشطة أحدث تطوراً آخر في المحرم "Tabo" تسعى هذه الرأسماليات الجديدة لفرضه على العالم ، وهو يعتمد بشكل أساسي على إضعاف المقدس الديني الخاص بكل دين أو طائفة أو المقدس القومي في سبيل الانتقال إلى المقدس العالمي الواحد الذي سيرتبط بمصالحها بشكل بديهي ، وبالتالي فإن المحرم "Tabo" الوحيد هو كسر هذه الصياغة الجديدة والتي سيتم التعبير عنها في شكل قضايا كبرى تخدم السعي الرأسمالي للسيطرة على الثروات في العالم .

   إن الطبيعة الأساسية لهذه الصياغات للمحرم "Tabo" تبدو واعية بشكل واضح بخطورة تعددية الرؤى التاريخية لمثل هذه القضايا بما قد يفشل مشروعاتها وهو ما يبرر اعتبارها للتاريخ كمجرد وسيلة أو ذريعة إعلامية في مواجهتها للآخر ، حيث يتم إخضاعه بشكل مباشر لسيطرة الطبقة الحاكمة بما تملكه من قرارات وإعلام قادر على محاصرة الجماهير – بشكل محكم – بآرائه التي ستتحول إلى مسلمات يقينية بمرور الأيام يجرم من ينكرها اجتماعياً وينبذ بما يسمح بتجريمه قضائياً دون أن يعد ذلك إطلاقاً هدراً لإنسانيته أو حقه في التفكير بحرية ، فحتى هذه القيم وضعتها البرجوازية أثناء ثورتها ضد الإقطاع وسعيها للسيطرة على السلطة وصياغة القوانين بما يخدم مصالحها ، وهي بالتالي تخضع في تفسيراتها لما تفرضه إعلامياتها على الجمهور بحسب مصالحها .

   أورد مؤرخ الهولوكوست ، الصهيوني يهودا بوير Yehuda Bauer الأستاذ بالجامعة العبرية بالقدس ملحوظة تقول : " لقد أصبح الهولوكوست رمزاً متسيداً في ثقافتنا سواء كان عرضه أصيلاً أو غير أصيل وسواء كان متمشياً مع الحقائق التاريخية أو متعارضاً معها وسواء كان عرضه عن فهم وتفهم أو كان أثراً رمزياً مبتذلاً ينقصه الذوق .. من الصعب أن يمر شهر دون إنتاج تلفازي جديد أو فيلم جديد أو مسرحية جديدة أو كتاب جديد أو شعر أو نثر متعلق بالموضوع وهذا الفيضان يتزايد بدلاً من أن يتراجع "[1] .

   وعلى الرغم من أن المجتمع الإقطاعي الإسلامي – على سبيل المثال – لم يشهد سجن مؤرخ بسبب قبوله أو رفضه لقضية تاريخية ، فإن صناديق الاقتراع الديموقراطية منحت الحكومة الفرنسية الحق في إصدار قانوناً يجرم من ينكر مذابح الأرمن في العهد التركي مهما كانت أدلته التاريخية ، حيث أن الحقيقة التاريخية هنا لا تحمل قيمة مقارنة بالمكاسب الاقتصادية والسياسية التي تسعى فرنسا لتحقيقها من وراء هذا الإجراء .

   في الواقع كان من مصلحة الدول الاستعمارية ، وخاصة بريطانيا ، أن تروج للشائعات حول حجم المجازر النازية بحق اليهود لأسباب اقتصادية تتعلق بالرغبة في ترحيل اليهود إلى فلسطين لإقامة دولة لهم ، ولكن هناك دولاً كثيرة مثل سويسرا تندم على ذلك .

   يقول الكاتب اليهودي نورمان فنكلشتاين – المعروف بمناهضته للصهيونية – في كتابه " صناعة الهولوكوست .. تأملات في استغلال المعاناة اليهودية " : " مع نمو صناعة الهولوكوست أخذ المنتفعون من هذه الصناعة يتلاعبون في أرقام الناجين وذلك بغرض المطالبة بمزيد من التعويضات وبدأ الكثيرون يتقمصون دور الضحية " ويعلق على ذلك ساخراً : " لا أبالغ إذا قلت أن واحداً من كل ثلاثة يهود ممن تراهم في شوارع نيويورك سيدعى بأنه من الناجين .. فمنذ عام 1993 ادعى القائمون على هذه (الصناعة) أن 10 آلاف ممن نجوا من الهولوكوست يموتون كل شهر ، وهو أمر مستحيل كما يبدو لأنه يعني أن هناك ثمانية ملايين شخص نجوا من الهولوكوست في عام 1945 وظلوا على قيد الحياة ، بينما تؤكد الوثائق أن كل اليهود الذين كانوا يعيشون على الأراضي الأوروبية التي احتلها النازيون عند نشوب الحرب لا يزيد عن سبعة ملايين فقط " .

   ويضيف فنكلشتاين : " كل الأدلة تقريباً تؤكد أن موضوع الإبادة النازية لليهود لم يصبح أمراً راسخاً في حياة اليهود الأمريكيين إلا بعد اندلاع هذا الصراع (حرب يونيو/حزيران 1967 بين العرب والكيان الصهيوني) ، أما قبل عام 1967 فكانت المؤسسات اليهودية تميل إلى التقليل من شأن الإبادة النازية ليهود أوروبا ، وذلك تمشياً من الأولويات السياسية للحكومة الأمريكية في فترة الحرب الباردة ، والتي كانت تتطلب تأييد فكرة إعادة تسليح ألمانيا بل وتجنيد أعداداً كبيرة من الجنود السابقين في (قوات الأمن الخاصة) للنظام النازي " .

   إن قضية الهولوكوست اليهودي في الحرب العالمية الثانية ليست خارجة عن هذا النطاق وهنا فإن من الضروري مناقشتها ليس فقط اعتماداً على ما روي من أحداث على لسان طرف واحد منتصر وغير محايد وإنما أيضاً اعتماداً على المنطق التاريخي الذي يراعي دراسة خلفيات الحدث بشكل كامل وهي التي يهملها غالباً ذوي العقلية الترويجية .

 

أحمد صبري السيد علي

أكتوبر  2006

  



[1] مارك وبر . دراسة عن قوة اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة . منشورة بموقع الشاهد للدراسات السياسية والاستراتيجية . بدون ذكر تاريخ النشر . متاحة من الرابط : http://ashahed2000.tripod.com/drasat/222-11.html

ليست هناك تعليقات: