السبت، 20 يوليو 2019

ثورة الإمام الحسين(ع) بين انتهازية البرجوازية وتزييفها

ثورة الإمام الحسين(ع)  بين انتهازية البرجوازية وتزييفها


   من المؤكد أن التاريخ لا يعرف مقدساً، فلا توجد شخصية مهما كانت قدسيتها عند مجموعة بشرية ما إلا وتتعرض للهجوم والانتقاص من مجموعة بشرية أخرى. لكن القاعدة هنا سواء في الهجوم أو الدفاع عن أي شخصية تاريخية هي ما تمثله هذه الشخصية من تعبير عن معاناة المحبين لها أو ما تتناقض فيه تجربتها وتعاليمها مع مصالح المعادين.

   في هذا الإطار يجب أن نضع هذا المقال الذي نشرته الدستور بقلم رئيس تحريرها محمد الباز في 23 يناير من عام 2017 ، والمعنون بصيغة تعمدت استفزاز الجماهير المصرية : " الحسين ظالماً " .
   ربما يجب أن نبدأ نقدنا من المبررات التي صاغها الباز للهجوم على تراث الحسين الثوري خلال ندوة موقع القاهرة 24 ونشرت منذ يومين، ويمكن تلخصيها في نقطتين :
1- الرد على محاولة الإخوان المسلمين تشبيه اعتصامهم في رابعة العدوية بحادثة كربلاء وتصوير أنفسهم كما لو كانوا الإمام الحسين .
2- أنه لم يكتب المقال لتحريم الخروج على الحاكم، معقباً : " اللي يطلع يطلع ".
3- أن التساؤل المطروح للنقاش كان عن مدى أحقية الإمام الحسين في الثورة وليس عن قدسيته وكل إنسان يرى الأمر من منظوره محتجاً بأن الإمام الحسن آثر السلامة وبايع معاوية، فهل أخطأ الحسن؟
  الواقع أن مبرره الأول لا يمكن قبوله على الإطلاق خاصة أن نشر المقال تم في بداية عام 2017 أي بعد انتهاء أحداث رابعة العدوية بثلاث سنوات وخمسة أشهر، ويحق لنا أن نتساءل عن أسباب تذكره للإخوان مرة أخرى خاصة أنه لم يشر إليهم أبداً في مقاله.
   على أننا يحق لنا التساؤل هل يبرر استخدام الإخوان لشخص الإمام الحسين وثورته مثل هذا الهجوم عليه ؟ إذا قبلنا مثل هذا المبرر فلا مجال لرفض الهجوم الغربي على الإسلام كدين مقابل استغلال المجموعات الإرهابية للإسلام وتعاليمه وسيرة النبي (ص) بشكل أقل ما يقال عنه أنه مزيف، ولا أعتقد أن محمد الباز يمكنه أن يعلن قبوله بمثل هذه النتيجة الأخيرة.
   وإذا كان المبرر الأول غير مقبول فهذا يعني تقوية المبرر الثاني وسيكون على محمد الباز أن يطرح مبررات أخرى حول أسباب حشره للإمام الحسين وتعاليمه وتراثه ضمن صراع سياسي، وهنا فإن تهمة الاستغلال لشخصية الإمام الحسين ستلاحقه هو وليس الإخوان الذين كانوا قد اختفوا من الساحة والحياة اليومية المصرية في هذه الفترة .
   يبقى المبرر الثالث وهو الاحتجاج بموقف الإمام الحسن من معاوية الذي يرى الباز أنه مخالف لموقف الإمام الحسين، وأجد نفسي هنا مضطراً لبعض الإطالة نظراً لأن هذا الاحتجاج يكثر استخدامه بالرغم من كونه مجرد تزييف تاريخي لا أكثر .
   من المعروف أن تحليل أي حدث تاريخي لابد أن يعتمد على رصد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة له والتي تمثل العوامل الضاغطة والدافعة للحراك السياسي المفجر للحدث.
   وبالتالي فليس من السليم المقارنة ما بين صلح الإمام الحسن مع معاوية من ناحية ، وثورة الإمام الحسين على يزيد بن معاوية من ناحية الأخرى دون رصد هذه الخلفيات.
   لقد تولى الإمام الحسن الخلافة عقب استشهاد الإمام علي عن طريق مؤامرة اشترك فيها معاوية بن أبي سفيان مع الإقطاع الكوفي بقيادة الأشعث بن قيس، وقام بتنفيذها أفراد من الخوارج، ومن الملاحظ أن الأطراف الثلاثة كانوا من الطبقات والفئات المتضررة من القرارات الاقتصادية والدينية التي أصدرها الإمام علي بن أبي طالب أثناء توليه الخلافة.
   فالإقطاع[1] تضرر من قرارات الإمام بإلغاء الامتيازات التي حصل عليها أقطابه في عهد عثمان بن عفان، كما أن قرارات وممارسات الإمام بصورة عامة كانت منحازة للطبقات الكادحة والفقيرة، كالمساواة في العطاء، رفضه للإقطاع وتمليك الأرض الزراعية في السواد، تخصيص جزء من بيت المال لتحرير العبيد، تدوين السنة النبوية، وأخيراً تعليم الفقراء والنساء، الأمر الذي هدد مصالح زعماء القبائل والإقطاعيين بضياع نفوذهم.
   أما الخوارج والذين مثلت زعاماتهم بعض الأرستقراطيات القبلية المعادية لقريش، وبعض كبار التجار فقد تضرروا من ذات الإجراءات ومن قيام الإمام بإصدار عملة رسمية وتحديد الموازين والمكاييل ، وإلغاء الاحتكار، ومن ناحية أخرى تضررت فئة القراء – وهي إحدى فئات هذه الطبقة – من قرار الإمام بإعادة رواية السنة، فقد كانت هذه الطبقة تستحوذ على الوجاهة الدينية والاجتماعية والمالية في عهد عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان على أساس حفظها للقرآن الكريم، وعلى هذا الأساس كانت تصرف لها العديد من المكافآت المالية، على أن هذا الحفظ كان خلوا من أي معرفة بالسنة، وبالتالي فلم تكن لهم أي دراية بتفسير القرآن أو أسباب النزول وغيرها من العلوم المرتبطة بالقرآن، وقد أدى هذا القرار إلى كشف حقيقة هذه الفئة التي خسرت ما كانت تناله من مكافآت مالية وخسرت وجاهتها الدينية كذلك.
   ولعل الدليل على هذه المؤامرة الثلاثية ما رواه ابن أبي الحديد حيث ذكر أن معاوية بن أبي سفيان دفع أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب كي يروي أن الآية القرآنية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ) (البقرة / 207) نزلت في عبد الرحمن بن ملجم، وهي مروية ربما تشير بوضوح إلى هذا التحالف الذي تم بين معاوية وبعض جماعات الخوارج، وقد نقل ابن الأثير مروية مهمة أيضاً توضح هذه العلاقة بين معاوية والخوارج، فقد حاول شبيب بن بجرة – أحد الخوارج الذي اشتركوا مع ابن ملجم في التحضير لقتل علي – التقرب من معاوية في أثناء وجوده بالكوفة – عقب ما يسمى بالصلح بينه وبين الحسن – عن طريق إخباره علناً أنه كان مع ابن ملجم أثناء قتل علي بن أبي طالب، وتذكر المروية أن معاوية ترك مجلسه مذعوراً وأمر بنفي شبيب خارج الكوفة وعدم السماح له بالتواجد أمام بابه أو الدخول عليه مرة أخرى، ويبدو من الأسلوب الذي واجه به معاوية شبيب بن بجرة أنه أدرك مدى خطورة كشف تفاصيل هذه المؤامرة أمام الكوفيين.
   ورغم أن أنصار الإمام الحسن من الشيعة المخلصين له إستطاعوا تنصيبه كخليفة إلا أنه كان يدرك مدى سعي الإقطاع الكوفي للقضاء على حكمه بعد بدا وضاحا أنه سيستمر في إتباع نفس المنهج الذي سار عليه الإمام علي، وقد ظهر ذلك بوضوح عندما كشفت الأجهزة الأمنية التابعة للإمام رسائل من بعض زعامات القبائل تحرض معاوية على غزو الكوفة وتعده بتسليم الحسن له أثناء الحرب ، كما بدأ بعض هذه الزعامات في إلقاء العثرات أمام الإمام الحسن لتعطيله عن مواجهة معاوية بن أبي سفيان.
   من ناحية أخرى فقد واصل الخوراج دورهم التخريبي حيث أشاعوا أن الإمام ينوي الصلح مع معاوية وقام أحدهم بمحاولة فاشلة لاغتياله.
   لقد كان من الواضح أن الأوضاع في الكوفة ليست في صالح الإمام الحسن، وقد استطاع الخوارج وزعامات الإقطاع إثارة الاضطرابات فيها بين الجماعات المختلفة.
   ورغم ذلك فإن الإمام الحسن لم يكن لديه أي نية للصلح ولعل الدليل على أنه كان يعد للحرب هو قيامه بزيادة عدد أفراد كتائب الجيش وهي سنة إتبعها الخلفاء من بعده عند توليتهم للخلافة، كما أرسل مقدمة جيشه إستعدادا لمواجهة حاسمة مع معاوية، لكن في هذه الأثناء قام عبيد الله بن العباس بترك قيادة مقدمة الجيش والانضمام لمعاوية وهو تصرف يبدو أنه كان معداً له من قبل وبالتأكيد فقد أدى لبلبة في صفوف الجيش كما أثر على وضع الإمام في الكوفة تأثيراً سلبياً.
   لقد بدا ظاهراً أن أي مواجهة عسكرية ربما تؤدي إلى إبادة للشيعة المخلصين للإمام الحسن وبالتالي فقد اضطر الإمام الحسن للدخول في مفاوضات مع الأمويين.
   من ناحية أخرى كان معاوية رغم كل هذه الاضطرابات في الكوفة يخشى مواجهة الإمام بسبب إدراكه لحقيقة أن الإمام الحسن هو حفيد الرسول (ص) وهو في الأعراف العربية التقليدية يعد أكثر أحقية بالسلطة منه، كما أنه لم يكن على ثقة تامة بقدرته على هزيمة الشيعة في هذه المعركة بالإضافة لرغبته في ألا يستنزف قواته في مواجهة ضخمة مع الإمام الحسن بحيث يصبح غير قادر على السيطرة على الكوفة فيما بعد حتى في حالة انتصاره.
   لقد بالغت المصادر الإسلامية والسلفية منها بصفة خاصة في تصوير الحسن كمسالم غير راغب في الحرب، ورويت في سبيل ذلك الكثير من الأحاديث المنسوبة للنبي والتي تتنبأ بأن الله سيصلح بالحسن بين فئتين من المسلمين، من منطلق الدفاع عن معاوية بن أبي سفيان وشرعية الدولة الأموية التي أسسها، وقد تأثر معظم الباحثين بهذا الاتجاه سواء المسلمين أو المستشرقين الذين اتهموا الحسن بالسلبية وعدم القدرة على الكفاح، وهي مواصفات غير حقيقة إطلاقا ومن غير الممكن الاستسلام لها مع دراسة الأسباب الموضوعية للاتفاق بين الجانبين.
   أن الاتفاق بين الحسن ومعاوية لا يمكن اعتباره تنازلاً أو صلحاً بل هو فض اشتباك مؤقت بين القوتين العسكريتين، ولعل الدليل على هذا التصور هو تضمن الاتفاق لبند ينص على عدم مناداة الإمام الحسن لمعاوية بأمير المؤمنين وهو اللقب الرسمي للخلافة، مما يعني أن الإمام الحسن لم يبايع معاوية كخليفة ولم يعتبر نفسه من رعايا السلطة الأموية أو داخل تحت سيطرتها، كما أن اشتراطه عودة الخلافة إليه، أو إلى الإمام الحسين، بعد وفاة معاوية دليلاً كبيراً على أنه لم يكن يسعى إلى إنهاء الصراع أو أنه اعتبر الاتفاق صلحاً أو تنازلاً عن حقه في الخلافة، بل يشير – بالإضافة لنصوص أخرى – إلى اعتقاد يقيني بهذا الحق، إضافة إلى أنه أفقد الخلافة الأموية أي شرعية مدعاة بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان.
   إن الإمام الحسن لم يعتبر أن هذا الاتفاق هو نهاية الصراع مع الأمويين، بل مرحلة اضطرته إليها الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي حكمت الصراع، ويبدو أنه فضل اللجوء إلى العمل السري بعد أن أدرك مدى عداء الزعامات الأرستقراطية في الكوفة له والتي يخضع لها أفراد القبائل، بالإضافة إلى الخوارج، وهو تصور تؤكده بعض المرويات التاريخية وقد ذكر السيوطي إحدى المرويات التي تشير إلى أن نفوذ الإمام الحسن في الكوفة لم يتأثر كثيراً برحيله إلى المدينة، بل تؤكد أن أنصاره في العراق قد بقوا في حالة استنفار عسكري تحسباً لأي مواجهة مع معاوية في حالة عدم وفائه بتعهداته، وقد روت على لسان جارية بن قدامة - أحد أهم الشخصيات الشيعية العراقية المقربة من الإمام الحسن – قوله لمعاوية : " إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا ... إنك لم تملكنا قسرة، ولم تفتتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهوداً ومواثيق، فإن وفيت لنا وفينا، وإن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالاً مداداً، وأدرعاً شداداً، وأسنة حداداً، فإن بسطت إلينا فتراً من غدر، زلفنا إليك بباع من ختر" .
   والواقع أن الإمام الحسن ظل حتى وفاته هو الحاكم الحقيقي للأقاليم التي كان يحكمها قبل الاتفاق بينه وبين معاوية إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية اضطرته للتحول إلى العمل السري حفظاً لحياة أنصاره على أساس السعي لتكوين الجبهة الموالية له من جديد بعد أن تمكن الإقطاعيين من تفخيخها وتخريبها[2].
   إن كلا من الإمام الحسن والإمام الحسين كانا متفقين على العداء للنموذج الأموي وعلى الإيمان بحقهما في الإمامة لكن رد فعل كل منهما كان مختلفا نظراً لاختلاف الظروف الموضوعية التي عاصرها كل منهما.
   أما ما ذكره الكاتب محمد الباز في مقاله الأصلي " الحسين ظالماً "، وإذا تجاوزنا عن مقدمته الطويلة فإنه وببساطة يوجه للحسين اتهاماً بمخالفة جده الذي تجنب اللجوء للحرب في الحديبية وآثر السلامة، وهو في هذا الاتهام يتناسى كفاحاً طويلاً ومعاركاً بين النبي (ص) وبين القرشيين ولا يجد ما يرتكز عليه في نقده إلا صلح الحديبية، وإذا تجاوزت عن الخطأ التاريخي الصارخ الذي وقع فيه باعتبار الصلح قد وقع في السنة التاسعة من الهجرة، فإن الباز كغيره من الكتاب البرجوازيين يسعى لتفسير التاريخ بشكل فوقي متجاهلاً كافة التفاصيل المؤثرة في الحدث التاريخي، وفي هذه النقطة على وجه التحديد تجاهل الكاتب خصوصية وضع مكة كحرم كان كلا الطرفين حريص على ألا يتم استباحته في الصراع بينهما، كما يتجاهل أن النبي استعد لمواجهة قريش بالفعل لولا أن القرشيين هم من سعى للصلح مقابل السماح للنبي والمسلمين بالحج في العام القادم، فالنبي إذن لم يؤثر السلامة وإنما قريش هي من سعت لتجنب الحرب.
   وإذا كانت الحادثة التي لجأ إليها الباز ليست سوى مغالطة، فإن نبرته التي تصاعدت فجأة في المقال لمرحلة الهجوم المباشر على شخص الحسين تمثل تزييفاً لما يمكن اعتباره حقائق تاريخية متفق عليها : " الذين يعتنقون فكرة الشهادة من أجل الحق على ضعفهم وعلى مدار التاريخ كله، لم يضيفوا للحياة بقدر ما خصموا منها، لقد أورثنا الحسين بموقفه من يزيد شقاقًا في الصف الإسلامي لا نزال نعانى منه حتى اليوم، فهناك من يبكونه إلى الآن، هناك من يريدون الانتقام لمن قتلوه، هناك من حولوه إلى فكرة، وأخذوا منه رمزًا للخروج على من يختلفون معهم، فقد فعلها الحسين، فلماذا لا يفعلونها هم ".
   هل الثائر والمضحي من أجل الحق هو من يتحمل مسئولية الشقاق في الصف، أم الظالم الذي يسعى لفرض مصالحه وباطله ؟ لا أدري ما هو المعيار الذي يتبعه محمد الباز في طرح تصوراته ولكنه بالتأكيد ليس المعيار القرآني الذي يتبعه الحسين ويقول : " وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ "(هود/113)، والذي بناء عليه يصبح فعل الحسين صحيحاً تماماً ويصبح عدم دعم الآخرين له هو المشكل وهو المتسبب في شق الصف الإسلامي الذي من الضروري أن يكون مبنياً على أساس القرآن الكريم المنزل على النبي (ص).
   على أن الهدف الأساسي من المقال ربما يبرز في الاتهام التالي الذي يستهدف ليس فقط الهجوم على موقف الحسين من يزيد، وإنما التشويش على القدسية التي يحظى بها بين جموع المصريين وخدشها : " ولو قلت إنه تحول إلى أسطورة، وأصبح رمزا لكل المقهورين والمظلومين ومسلوبي الحقوق، سأقول لك : وما الذي يستفيده هؤلاء من أسطورة الحسين ؟، إنهم لا يحصلون على حقوقهم أيضًا، لا ينعمون بحياتهم، ولذلك فقد ظلم الحسين الفقراء والمساكين والمعوزين، خدعهم عندما قال لهم قاتلوا عن الحق وأنتم ضعفاء، كان يجب أن يعلمهم أن يدافعوا عن حقهم بعد أن يصبحوا أقوياء، لأنهم بذلك يمكن أن يحصلوا على حقهم، الذي لن يسمح لهم أحد به إلا إذا كانوا أقوياء ".
   إن استعراض بسيط للأحداث التاريخية يمكنه أن يجيب عن التساؤلات الساذجة للباز، فبعد استشهاد الإمام الحسين قامت ثورة بالمدينة أدت لانتهاك حرمتها من قبل الجيش اليزيدي، ثم قامت ثورة بمكة بقيادة عبدالله بن الزبير وقبل أن يتمكن الجيش الأموي من القضاء عليها جاءت الأنباء بوفاة يزيد في ظروف غامضة وثمة مرويات تاريخية تشير إلى أنه قتل من قبل أحد الموالين للبيت العلوي، ثم قامت ثورة التوابين في الكوفة وبعدها نجح المختار بن أبي عبيد في السيطرة عليها وحقق الانتقام العادل من كل الذين شاركوا في قتل الحسين، ثم انتهت وأزيلت الأسرة السفيانية تماماً، لتبدأ الأسرة المروانية وتنطلق حركات المظلومين والمحرومين مستلهمة نموذج الحسين ثورة العراقيين ثم ثورة الوصفاء ثم ثورة زيد بن علي ثم يحي بن زيد ثم عبدالله بن معاوية الجعفري ثم سقطت الدولة المروانية وجاء العباسيين ومع استمرار الظلم استمر تأثير الحسين في المستضعفين الذين نجحوا عبر ثوراتهم في تدمير هذه الدولة كالزنج والخورمدينيين ، بل نجحوا أحياناً في تأسيس كيانات سياسية كالقرامطة في الشام والجزيرة العربية والسربدارية في خراسان والمشعشعين في الأهواز.
   هذا ما استفاده المستضعفين من أسطورة الحسين، فما الذي استفاده المستكبرون من أسطورة يزيد؟ لا شيء، لا أثر ليزيد ولا أي من بني أمية أو بني العباس أصلاً، بل أن أشهر الخلفاء في التاريخ الإسلامي وهو هارون الرشيد مدفون بجوار الإمام علي بن موسى الرضا في مشهد ومع ذلك لم يفكر ملوك إيران السلاجقة والإيلخانيين سواء من أهل السنة أو الشيعة في تعمير قبره وقاموا بتعمير قبر الرضا حفيد الحسين الذي يزوره ويستلهم سيرته ملايين من المسلمين السنة والشيعة، في الوقت الذي قام فيه السلاطين العثمانيين بتعمير قبر الحسين والظهور أمام المسلمين كمتعاطفين معه.
   لم يكن هؤلاء الحكام – مهما كان مذهبهم – مؤيدين لحالة الإمام الحسين الثورية بالطبع وإنما سعوا لاستغلالها كنوع من التقرب للجماهير المؤمنة الكادحة والمستضعفة، وهم في هذا الإجراء يثبتون قيمة هذا النموذج الثوري ومدى تأثيره وفاعليته التي يتصور الباز أنه قادر على التشويش عليها بمقال.
   لقد طرح الباز تساؤلاً هاماً، منقولاً في جوهره من طروحات السلفيين : " ما الذي كان سيحدث لو أنه دخل إلى منظومة الحكم تحت ظلال يزيد، أو على الأقل لو أنه تفرغ لدعوة الناس إلى الحق، وعلمهم الإسلام كما عرفه فى بيت جده وبيت أبيه على بن أبى طالب من بعده ؟ ".
   والواقع أنه مثل هذا التساؤل يؤكد أن الكاتب ورئيس تحرير صحيفة كالدستور هو متطفل على التاريخ إذا ما حملناه على حسن النية، فالإجابة يمكن أن توضع في صيغة سؤال مقابل : هل كانت الأسرة السفيانية التي تآمرت على قتل الإمام علي وقتل الحسن وأتباعهما - من بينهم صحابة للنبي (ص) كحجر بن عدي الكندي وجعلت من سب الإمام سنة - هذه الدولة هل كانت ستسمح للحسين بدعوة الناس إلى الحق وتعليمهم الإسلام كما عرفه في بيت جده وبيت أبيه ؟
   إن هذا التراث الطويل من اضطهاد أهل البيت النبوي في العهدين الأموي والعباسي يشير بوضوح إلى حقيقة عمق الخلاف بين ما يراه أهل البيت صحيحاً وموافقاً للدين وبين مصالح هذه الأسر الحاكمة بما لا يمكن أن يسمح بالتوصل لحلول وسطى كما تمنى الكاتب، فدخول الحسين في طاعة يزيد يعني تقديم شهادة صامتة بأن عصره وممارساته لا يتناقض – بالمعنى الماركسي – مع الدين أو على الأقل يدخل في إطار المسموح بالخلاف فيه، وكون الحسين لم يقبل بمثل هذا الموقف مثل إشارة واضحة لما يمثله النموذج الأموي - وغيرهم من الأسر الحاكمة - وممارساتهم من تناقض تام مع الإسلام، ولهذا السبب تحديداً تحول الحسين وحده إلى أيقونة وأسطورة ثورية، ولم يتحول عبدالله بن الزبير لنفس المكانة رغم قرابته من النبي (ص) ورغم أن ما حدث له لا يقل عن ما حدث للحسين، ولكنه في تاريخه لم يكن حاسماً في رفض ممارسات السلطة كالحسين.
   وتبقى الكلمة الأخيرة للباز والتي أوضح فيها الغرض الحقيقي لمقاله : " حبوا الحسين، اعشقوه، علقوا صوره على حوائط بيوتكم، اذهبوا إلى ضريحه، اطلبوا شفاعته، واصلوا تعظيم أسطورته.. لكن أنصحكم وأنتم في حربكم مع الحياة، لا تتعاملوا بمنطقه، فمنطق يزيد هو الأجدى "، فالمستهدف إذن هو ثورية الحسين وليس قدسيته، وكلاهما في الواقع لا ينفصلان على الإطلاق، فمن يرفض ثورية الحسين يجرح خصوصيته التاريخية وقدسيته الدينية على السواء حتى لو جعجع بمديحها أمام الملأ .
   لقد بدأ الباز مقاله بعبارة سعى لصياغتها في صورة حكمة مأثورة : " أقول كلما اتسعت الرؤية انقلبت قناعاتك وتبدلت " وبناء على أيدلوجيتي الماركسية فإن انقلاب القناعات وتبدلها لا يشير سوى لانقلاب المصالح مقابل تطور هذه القناعات في حال اتسعت الرؤية بالفعل وازدادت الخبرات والتجارب، وإذا كنت قد أشرت إلى ارتباط ثورة الإمام الحسين بحقوق المستضعفين والكادحين كما اعترف الباز نفسه في مقالة، فعليه هنا أن يذكر في أي موضع يضع نفسه عندما يهاجم الإمام الحسين وتراثه بهذه الصورة مطالباً هؤلاء المستضعفين المحبين للحسين باتباع منطق يزيد، وربما لو وسعنا الدائرة سيطالب المسيحيين باتباع منطق اليهود والسلطة الرومانية حتى مع حبهم للمسيح (ع) بما أنه قرنه بالحسين في أول مقاله معتبرا الأخير مسيح الأمة الإسلامية.
   لكن هل كان منطق يزيد هو الأجدى كما قال الباز ؟ وهل أفلح هؤلاء الذين انبطحوا أمام سلطانه ؟ التاريخ يخبرنا أنهم جميعاً لاقوا مصيراً قاسياً في عدله على يد المختار الثقفي، بينما ضرب يزيد بسيفه قوائم دولته السفيانية في اللحظة التي قرر فيها قتل الحسين.



[1] لم يشهد التاريخ الإسلامي ملكية اقطاعية بالمعنى المعروف في أوروبا ، حيث كانت دولة الخلافة تملك حق تجريد المقتطع من إقطاعياته لأسباب مختلفة من بينها العداء السياسي لكني استخدمت اللفظ للتقريب .
[2] روي عن الإمام الحسن قوله لأنصاره : " ليكن كل امريء منكم حلسّا" من أحلاس بيته ما دام هذا الرجل حيا، فإن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخير الله لنا ويؤتينا رشدنا ".

هناك 5 تعليقات:

unknown يقول...

تحليل رائع. تشرفت بمعرفتك استاذ احمد

د. علي ع. كامل الفتلاوي يقول...

سياحة معرفية طيبة.. شكرًا، دمت موفقًا.

أحمد صبري السيد علي يقول...

الأخ أبو أُبي جهاد بن محمد العيني المصري
الشرف لي أخي العزيز

أحمد صبري السيد علي يقول...

الأخ د. علي ع. كامل الفتلاوي
ألف شكر د. علي كل التحية

أحمد صبري السيد علي يقول...

تحليل رائع. تشرفت بمعرفتك استاذ احمد

الأخ العزيز .. الشرف لي ولك كل التحية