الاثنين، 5 سبتمبر 2016

زفة العجم (الشعائر الحسينية بالقاهرة في العصر الحديث)



   " شهيد كربلا حسين .. غريب نينوى حسين " . تلك فقرة من المعتاد سماعها على لسان الرواديد (منشدين) الإيرانيين أثناء الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين بكربلاء ، والتي تحل في العاشر من محرم من كل عام . لكن القليلين فقط من المصريين الذين يعرفون أن هذه الشعائر كانت تمارس في مصر بواسطة الإيرانيين كذلك في فترة قريبة تاريخياً .


   إن الظرف الراهن التي يعيشه الشعب المصري بما يحمله من ضغوطات إقتصادية والمصحوبة عادة بمظاهر الاحتقان الاجتماعي والطائفي صرنا نلحظه بشكل يومي ، ربما يقتضي بنا العودة للتاريخ في محاولة لإدراك حجم التردي السلوكي والحضاري الذي نحياه حالياً مقارنة بما كان عليه الأجداد الأقربون من رقي في تقبلهم للآخر وتسامحهم مع حقه في الاختلاف .

   هناك تصوران خاطئان في هذه القضية يؤمن بهما الكثير من المصريين ، ومن بينهم باحثين تاريخيين للأسف ، الأول أن شعائر الحزن على الإمام الحسين (رض) بدأت مع الفاطميين ، وهو ما يرفضه التاريخ الذي يؤكد على أن مصر كانت متنوعة من الناحية المذهبية وتواجد بها عدد كبير من الشيعة قبل الفاطميين ، وهؤلاء كانوا حريصين على الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين (رض) حتى ولو أدى إلى تعرضهم للأذى كما حدث في سنة 353 هجرية .


   التصور الثاني ، أن شعائر الحزن على الإمام الحسين بصورتها الحالية والتي تلقى بعض الانتقادات لدى علماء الدين المصريين قاصرة على الشيعة ، والواقع أن الحزن على استشهاد حفيد النبي (ص) يشعر به كل المسلمين مهما كانت انتمائهم المذهبي ، ومثل هذه الشعائر يقوم بها حتى الآن مجموعات من أهل السنة في الهند ، كما يذكر التاريخ أن من بدأها (أي الشعائر الحسينية بالصورة الحديثة) هم أهل السنة في الأندلس بالقرن السادس الهجري وخاصة في مدينة مرسية وشرق الأندلس ، حيث كان يعد مشهد جنائزي يشخص المأساة بطريقة تمثيلية ، كما تشعل الأضواء ويوقد البخور ويحضر القراء المحسنون والمنشدون البارعون ، وتقدم الموائد والأطعمة ، وترتفع الأصوات منشدة المراثي الحسينية ، وكان أهل السنة يقومون بهذه الشعائر في الوقت الذي كانت قاصرة فيها لدى الشيعة على التجمع وإلقاء الأشعار التي ترثي أهل البيت وتندد بالأمويين ، قبل أن يقوم الصفويين في إيران بتطويرها على الطريقة الأندلسية في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي .

   من غير المعروف متى بدأت الجالية الإيرانية في إقامة الشعائر الحسينية بمصر ، ولكن من المؤكد أنها بدأت في عهد سعيد باشا والي مصر وشهدت كثافة كبيرة في عدد المشاركين بها في عهد الخديو إسماعيل ، ويقول علي باشا مبارك في كتابه الخطط التوفيقية : " والأعاجم القاطنون بالقاهرة يفضلون السكن بالقرب من المشهد الحسيني عن غيرها ويتظاهرون في مولده بالزينة الفاخرة والولائم العظيمة ويحزنون عليه حزنهم المشهور وهو من ابتداء المحرم من كل سنة يجتمعون في منزل يتخذونه لذلك ويكسونه من الداخل بالكشمير والأقمشة المفتخرة ويفرشونه بالبسط والسجاجيد ويوقدونه وقدات فائقة ويدعون من أرادوا من اصحابهم وأحبابهم وبعد الأكل يقوم منهم خطيب يصعد فوق منبر صغير ويخطب خطبة بالفارسية تتضمن رثاء أهل البيت ويترنم فيها بالنوح والتعديد وإظهار الحزن والأسف والكآبة ويبكي ويبكي الحاضرين وبعد فراغه يشربون الشاي وينصرفون وهكذا يفعل في الليلة الثانية والثالثة إلى ليلة عاشوراء فيتوسعون في الوليمة ويكثرون من دعوة الامراء والأعيان ثم بعد الساعة الثانية من الليل يتهيئون في صورة موكب يحضره كبيرهم وصغيرهم ويصطفون صفوفا وبأيديهم السيوف وبين صفوفهم شاب على حصان ملبسه كملبسهم البياض فمتى أنتظموا مشوا نحو المشهد الحسيني وهم يصيحون ويقولون حسن حسين ويبكون بحزن ويضربون جباههم وصدورهم بما في ايديهم من السلاح والدم يسيل على ملابسهم ومتى كانوا عند المشهد وقفوا برهة ثم يعودون إلى المنزل من طريق أخرى على الصورة التي ذكرناها " .

   ويبدو من نص علي باشا مبارك أن هذه الشعائر كان يشارك فيها عدد من المصريين كذلك وبالرغم من كونهم ينتمون إلى المذهب السني فلم يجدوا مشكلة في مشاركة الشيعة هذا الاحتفال ، خاصة أن الشعب المصري معروف بمحبته لأهل البيت النبوي .

   ويذكر المستشرق ماكفرسون في كتابه " الموالد في مصر " أن الشيعة الإيرانيين قد سمح لهم بإقامة حسينية في القاهرة ، أو كما سماها هو " تكية فارسية " لممارسة هذه الشعائر ، كما أشار الشيخ رشيد رضا إلى هذه التكية والتي أقيمت في حي الحمزاوي بالأزهر وأنه قبل دعوتهم لحضور المأتم عدة مرات .

   وربما كان المثير للملاحظة هنا هو أن هذه الشعائر كانت تقام بواسطة الشيعة من الايرانيين في القاهرة وتبدأ من الحسينية (أو التكية) في الحمزاوي وتنتهي عند مسجد الإمام الحسين ، وتمر أمام المصريين ، المتدينون على المذهب السني ، دون أي مشاكل أو ضغائن مذهبية ، وهو ما لفت نظر المستشرق مكفرسون في كتابه عن الموالد في مصر : " فاذا وضع في الاعتبار كيف كانت العداوة بين " السنة " و" الشيعة " ، في أجزاء كثيرة من عالم الاسلام ، وأن الأغلبية العظمى من القاهريين " سنيون " ، فان تقديرا كبيرا – واحد من كثير – يستحق للتسامح المصري ، في اتحاد السنة والشيعة في رابطة واحدة في المسجد ، وأن لا شيء يرى في الموكب سوى التعاطف والمشاركة الوجدانية " .

   إن تقدير المستشرق مكفرسون لهذا التسامح المصري ، لم يختص فقط بالتعامل مع المختلف الطائفي والقومي في إطار الإسلام ، فقد ذكره كذلك فيما يتعلق بالمختلف الديني عند حديثه عن مولد الأنبا برسوم العريان في حلوان والذي كان المسلمين يحرصون على الاحتفال به ، وهو ذاته التسامح الذي أظهره المصريون بشكل عام تجاه طوائف وجاليات أخرى عاش أفرادها واستقروا في مصر إلى حد اعتبارهم كمصريين مثل الأرمن والمارون واليونان والأكراد وحتى الجاليات الهندية والباكستانية ، وهو أيضاً الخصوصية التي تبذل التيارات الرجعية المتسربلة بالدين كل جهودها لتجريد المصريين منه ضمن مساعيها للقضاء على كل الخصائص الحضارية التي ميزت هذا الشعب طوال تاريخه .

   لم يكن التسامح المصري تجاه أداء الجالية الإيرانية لشعائرها نتيجة استخفاف بالدين ، فقد كان للأزهر مكانته الدينية الكبرى ، كما كان المصريين كذلك في غالبيتهم العظمى متدينين على المذهب السني ، لكنه بكل تأكيد كان نتاجاً لما يمتلكه هذا الشعب من قوة شخصية ورقي وعمق حضاري ضارب في القدم ، مكنهم من قبول الآخر ، بل ومشاركته في أداء شعائره دون تعصب وكذلك دون تخلي عن خصوصيتهم الدينية .

أحمد صبري السيدعلي 
  المنصورة 1 أغسطس 2016 

ليست هناك تعليقات: