الاثنين، 7 مارس 2016

الاستقرار الزراعي والاستقرار السياسي


منذ اندلاع الانتفاضة الثورية للشعب المصري في 25 يناير 2011 ثم نجاحها في إزاحة حكم حسني مبارك في 11 فبراير من نفس العام ، تم طرح هذا التساؤل بصيغ متعددة وإن اتفقت في جوهرها : هل يمكن أن تعود مصر مرة أخرى لحالة  الاستقرار السياسي المميت والتي شهدته لقرون طويلة سابقاً ؟


   لقد كان الدافع لطرح هذا التساؤل هو عدم فهم القوى الرأسمالية الطفيلية المسيطرة على الأوضاع ، وحتى القوى السياسية النخبوية التي حرضت على الثورة لأسباب السلوك الغاضب للشعب المصري في هذه المرة دون غيرها سابقاً ، وبالتالي فرغم الصيغ المختلفة لطرح هذا التساؤل ، فإن كل من قاموا بطرحه وبصيغهم المختلفة كانوا بالفعل يفتقدون لهذه الاجابة التي تمكنهم من توقع استجابة المصريين أو عدم استجابتهم .

   الواقع إن الإجابة على هذا التساؤل تقتضي ضرورة البحث عن العامل المؤدي إلى هذا الاستقرار السياسي الطويل تاريخياً إلى درجة الموات ، باستثناء بعض الفترات الاعتراضية التي شهدت تحركات جماهيرية لم تكن مؤثرة بقوة في وضع السلطة السياسية ، فإطاحة الجماهير المصرية بحسني مبارك في 2011 لم يسبقه سوى إطاحة هذه الجماهير بخورشيد باشا في مايو 1805 ، مع الفارق بأن إطاحة المصريين بخورشيد باشا كان إيذاناً بنهوض البرجوازية المصرية وبروز النزعة الوطنية ، وسعيها للقضاء على الإقطاع التركي ، بينما لم تتمكن الجماهير الثائرة في يناير 2011 من إدراك أن حسني مبارك ليس سوى شخص واحد يعبر عن مصالح الرأسمالية الطفيلية ، وبالتالي كانت على موعد مع نوع أسوأ من هذه الرأسمالية ذو توجه فاشي وهو الممثل بالإخوان المسلمين .

   لقد منحت الجغرافيا مصر موقعاً يمتلك خصائص متميزة ، فهي كما يصفها جمال حمدان بكتابه الرائع " شخصية مصر " : " فشرنقة الصحراء تغلفها لمئات الأميال شرقاً وغرباً وجنوباً ، ولا ينفي هذا أن هناك في كل من هذه الاتجاهات شريطاً ضيقاً ما يربطها بالخارج العربي ، كنطاق كثبان سيناء الساحلية شرقاً ، مرمريكا مريوط غرباً ، ونيل النوبة جنوباً . أما شمالاً فهناك دائماً مستنقعات الشمال والبراري التي فصلت مصر عن البحر إلى حد ما – هي إذن " جزيرة " في الصحراء "(جمال حمدان – شخصية مصر ج2 ص364-365) .

   لقد أدى هذا الحصار الصحراوي والتباين الحاد ما بين الواقع الزراعي في وادي النيل والواقع الصحراوي المحيط إلى تكتل الغالبية الساحقة من المصريين حول شريط وادي النيل الضيق ، مما ساهم في صهر الشعب المصري ، المكون أصلاً من تنوعات أنثربولوجية متنوعة ، في بوتقة وطنية واحدة لا تقبل بأي تنوعات عرقية أو تميزات لغوية ، وهي بالكاد تقبل بالتنوع الديني ، كما رسخ داخل المصريين مركزية وقدسية الدولة التي تتولى مسئولية توزيع مياه الري على الأراض الزراعية بقدر مرض من العدل ، وقد ارتبط نفوذ أي حاكم لمصر على قيامه بهذا الدور التاريخي كما أشار رفاعة الطهطاوي : " وليس في ممالك الدنيا لصاحبها النفوذ الحقيقي على الزراعة والفلاحة إلا صاحب مصر فانه لا يجد في إهمالها فلاحه ، وبقدر نفوذه على إدارة الزراعة يكون له نفوذ على الأهالي ، وأما في غير مصر من البلاد التي ريها بالمطر فليس للحكومة عليها ولا على قلوب أهلها كبير تسلط "(جمال حمدان ج2 ص 543) .

   وطوال القرون الماضية الممتدة من العصور القديمة وحتى ثورة يوليو 1952 ، كان نمط الإنتاج الزراعي هو السائد بين المصريين والذي يفرض عليهم التواجد في تجمعات سكانية متفرقة على هيئة قرى بما يعوقهم عن التكتل في حراك ثوري موحد ، وبالرغم من أنهم كانوا يتعرضون لأنواع عديدة من العسف ، فإن التناقضات الطبقية في الريف المصري عموماً كانت تتطور بشكل بطيء للغاية نظراً للدور الذي كانت المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية تلعبه في ترسيخ " المجتمع البطريركي " السائد ، بحيث يتحول العمدة الممثل للدولة إلى أب للفلاحين الذين ينادونه بكلمة " آبا (أبي باللهجة المصرية الفلاحية) العمدة " وبالتالي فكل ما قد يقوم به من ممارسات متعسفة ضد الفلاحين يمكن تقبله كونه يتم من الأب تجاه أبنائه ، وقد أدت سيادة هذا المجتمع إلى صياغة المثل المصري الشهير للتعبير عنه : " إللي مالهوش كبير يشتري له كبير " .

   من ناحية أخرى ساهمت المؤسسات الدينية (خاصة الطرق الصوفية) في التخفيف من الاحتقان الطبقي عبر تقديمها المساعدات للفلاحين الفقراء على هيئة صدقات وولائم مجانية لهم ، وساهم التعداد السكاني القليل نسبياً في القرى كذلك على تحمل ما هذا القدر من العسف الطبقي[1] .

   كان سيادة نمط الإنتاج الزراعي في مصر وتواجد الغالبية العظمى من اليد العاملة في الريف هو السبب الجوهري لحالة الاستقرار السياسي المميت والتي جعلت أغلب الشعب بعيد تماماً عن المشاركة السياسية ، وتم اختزال الحراك السياسي في المدن وخاصة القاهرة ، باستثناء المشاركة في ثورة 1919 والتي قادتها النخبة المصرية المكونة من كبار الملاك الزراعيين وهو سبب استجابة الفلاحين لدعوات الثورة .

   وطوال الفترة التي تلت ثورة 1919 التي مكنت النخبة المصرية من تمصير السلطة والقضاء على الاقطاعيين الاتراك ، فقد حرصت هذه النخبة ذاتها على استمرار ابعاد الريف المصري عن المشاركة السياسية عبر رفض تبني سياسات التطوير إلى نمط الانتاج الصناعي وابقاء الاقتصاد المصري والقرار السياسي تابعاً للاحتلال الانجليزي ، وهو ما عبر عنه الوفدي أمين عثمان رئيس جمعية الصداقة المصرية البريطانية بأن الزواج بين مصر وبريطانيا كاثوليكي .

   وقد سعى الزعيم جمال عبدالناصر (ره) المعبر عن البرجوازية الصغيرة عقب نجاح ثورة الجيش المصري في يوليو 1952 إلى تغيير هذا الواقع بهدف تحقيق الاستقلال للاقتصاد والقرار السياسي المصري ، ولم يكن هناك إمكانية لتحقيق هذه الغاية دون تطوير نمط الإنتاج ليصبح صناعياً بالأساس وهو ما سيدفع لتحقيق تطوراً إجتماعياً مواز للتطور الاقتصادي .

   وبديهي أن تحقيق هذا الانتقال الطموح من النمط الزراعي إلى الصناعي كان يقتضي تواجد طبقة برجوازية وطنية يمكنها إنجاز هذه الخطوة ، بما سيترافق مع تطور إجتماعي وسياسي نحو تحطيم المجتمع البطريركي والانتقال إلى مجتمع أكثر إنفتاحاً وأداء سياسي يسمح للجماهير بممارسة الديموقراطية السياسية والتي كانت قاصرة في العهد الملكي على النخبة .

   إلا أن افتقاد مصر لهذه النخبة ، لأسباب كثيرة ، وعدم قيامها بدورها التاريخي ، بل قيامها بأداء خياني في العهد الملكي ، أجبر عبدالناصر على إنجاز هذا التطور الرأسمالي تحت إشراف الدولة المصرية في محاولة لتخفيف حدة ما ستعانيه الطبقات الكادحة خلال مرور مصر بهذه المرحلة ، ولم يخل الأمر من سلبيات حيث تم التضحية كذلك بالتطور السياسي تجاه الديموقراطية إلى حين إنجاز التطور الاقتصادي والاجتماعي بشكل كامل وإنتاج برجوازية جديدة قادرة على القيام بمهام التحول ؛ وكانت السلبية الثانية في هذا التوجه هي اخضاع كل هذا المشروع الطموح لسيطرة الجهاز الإداري البيروقراطي للدولة .

   وإذا كان عبدالناصر قد أضطر للتخلي عن التطور السياسي بإزاء الديموقراطية ، فإن تطبيق سياسات التصنيع ساهم في إحداث قدر كبير من الحراك الاجتماعي الايجابي ، بعد أن أدى لاتساع حجم الطبقة العاملة في المدن وكذلك حجم الشريحة البرجوازية المثقفة مع انتشار التعليم في أرجاء القطر المصري كأحد أهم منجزات الفترة الناصرية .

   على أن إخضاع المشروع الناصري الطموح بشكل إضطراري لإشراف الدولة ، أدى لتوغل الجهاز البيروقراطي الذي تمكن من السيطرة غير المباشرة على الأوضاع والتقليل من سرعة تطورها نظراً لما عاناه هذا الجهاز من أداء بطيء وفاسد ، وأدت هزيمة 1967 وسقوط المشروع القومي الناصري إلى زيادة حجم هذا الفساد ، وبالتالي فمع صعود أنور السادات للسلطة وتراجعه عن سياسات التصنيع وتبني اقتصاديات الخدمات كبديل ، فقد حصل على دعم أقطاب الجهاز الإداري الذين نجحوا في تحويل الفساد الإداري لسلوك يومي تقليدي بداية من عهدة ومروراً بالعهد المباركي .

   تمثلت السياسات الجديدة للدولة بداية من عهد السادات في رفع يد الدولة عن الاشراف على الاقتصاد وبالتالي فتح المجال للكثير من العمالة المصرية للرحيل إلى دول الخليج ضمن مساع هذه الدول لدعم التوجه الجديد ، وبديهي أن الغالبية العظمى من هذه العمالة كانت من الريف المصري ، الذي عانى من تراجع الأيد العاملة وعدم دعم الدولة لمزروعاته خاصة القمح والقطن ، بالاضافة للتبوير الهمجي للأرض الزراعية ، وقد تمت كل هذه الإجراءات ضمن محاولات السلطة الحثيثة لدعم صعود الرأسمال الطفيلي لصدارة المشهد ونفض يد الدولة تماماً من مهامها التاريخية تجاه المواطن المصري .

   أدت هذه السياسات الساداتية/المباركية إلى نتيجتين : الأولى ، هي القضاء على الزراعة المصرية ، وتفريغ الريف من قيمته التاريخية وإضافة سكانه للقطاع المهمش من الشعب المصري . الثانية ، هي القضاء على مشروعات التطوير الصناعي الضخمة وإضاف الطبقة العاملة المصرية .

   وكان من الطبيعي ألا تمر هذه السياسات المعتدية على عنصر الاستقرار المصري التاريخي دون ردود فعل جماهيرية لم يتمكن النظام الحاكم من فهمها وتحليلها بشكل سليم ، بداية من انتفاضة الخبز سنة 1977 ، ومروراً بأحداث 86 عقب استشهاد سليمان خاطر وانتفاضة جنود الأمن المركزي في نفس العام ، وانتهاء بأحداث 6 أبريل 2008 وهي التي كانت سابقة مباشرة على ثورة 25 يناير التي ازاحت مبارك عن الحكم .

   لقد أدت سياسات النظام إلى القضاء على الزراعة المصرية وعلاقات الإنتاج الاجتماعية المرتبطة بها ، والتي كانت دائماً هي الأساس الذي تعتمد عليه الدولة في مركزيتها وشرعية سيطرتها على الأوضاع الداخلية ، دون أن تقوم بالتأسيس لعامل استقلال بديل كما حاول عبدالناصر عبر التطور باتجاه الصناعة ، ومن هنا فإن فكرة عودة الاستقرار السياسي لمصر بالشكل الذي ساد قبل ثورة يناير غير ممكنة على الإطلاق ، بعد أن تم تحطيم أهم عناصر قوة وشرعية الدولة المصرية ومركزيتها .

   إن الدولة المصرية الحالية مضطرة إلى محاولة التوجه لعامل استقرار بديل عن العامل الزراعي الذي تم القضاء عليه ، وذلك عبر العودة لتبني سياسات التصنيع والمشروعات القومية العملاقة التي يمكنها استيعاب الزيادة الهائلة في الأيدي العاملة ، ومحاولة التقليل من حالة التهميش التي يعاني منها غالبية الشعب المصري .

   وبالرغم من النجاح الجزئي لعبد الناصر سابقاً في تحقيق هذا المشروع ، لكن الأوضاع الحالية تختلف كثيراً ، فقد كان عبدالناصر يحقق الانتقال والتطور الطبيعي من الإنتاج الزراعي بكل علاقاته الاجتماعية الراسخة إلى الإنتاج الصناعي ، في وقت كانت الرأسمالية تشهد قمة صعودها كنمط إنتاج ، بينما ستكون الدولة المصرية الحالية مضطرة إلى الانتقال من الرأسمالية الطفيلية بما تسببت فيه من تشوه للعلاقات الاجتماعية التقليدية وفساد لمؤسسات الدولة ، بالإضافة إلى الأزمة الهيكلية القاسية التي تشهدها الرأسمالية حالياً . ويبقى أن بقايا البطريركية قد مكنت عبدالناصر (ره) كزعيم من تأجيل التطور السياسي تجاه الديموقراطية ، وهو ما لن تتمكن الدولة الحالية من تكراره على الإطلاق .

   إن الخلفيات التاريخية للواقع المصري تؤكد أن الاستقرار المميت الذي تميزت به مصر سابقاً وحالة القدسية الراسخة للدولة عند الشعب المصري قد إنتهت بلا رجعة بعد سقوط عامل قوتها الأساسي ، وسيكون على الدولة المصرية الجديدة محاولة إعادة صياغة مشروع جمال عبدالناصر مرة أخرى مع الوضع في الاعتبار المتغيرات الكثيرة التي شهدها الواقع المصري طوال 40 عاماً من التشوه ، وهي مغامرة ستمثل ابتكاراً مصرياً خاصاً بكل تأكيد .

أحمد صبري السيدعلي
المنصورة
6 مارس 2016


[1] أشارت المطربة السورية الأصل أسمهان في أحد أغانيها إلى هذه الحالة لدى الفلاحين : " محلاها عيشة الفلاح . مطمن قلبه ومرتاح . يتمرغ على أرض براح " في إشارة إلى واقع تمييع الصراع الطبقي في الريف المصري .

ليست هناك تعليقات: