الجمعة، 29 نوفمبر 2019

التروتسكية والصهيونية (3) تروتسكي والبرجوازية اليهودية

تروتسكي وبعض الطلاب الأمريكيين في المكسيك 1940

التروتسكية والصهيونية
(3)
تروتسكي والبرجوازية اليهودية[1]


   في رسالة وجهها تروتسكي لأحد أصدقائه يشير فيها إلى اتهام وجه له من الأب المسيحي تشارلز كوجلين : " يحاول الأب كوجلين بجلاء أن يظهر أن التعاليم الأخلاقية المثالية المطلقة لا تحول دون أن يكون الإنسان أعظم وغد ، فقد أعلن من خلال المذياع أنني تلقيت في الماضي مبالغ ضخمة من النقود لصالح الثورة من البورجوازية اليهودية في الولايات المتحدة . وقد أجبت في الصحافة بالفعل بأن هذا أمر كاذب . فأنا لم أتلق نقودا كهذه ، ليس بالطبع لأنني سوف ارفض دعما ماليا مقدما للثورة ، وإنما لأن البورجوازية اليهودية لم تقدم مثل هذا الدعم "[2] .
   ربما ليس جديداً الاستماع لمثل هذه الاتهامات التي تنثر هنا وهناك بخصوص قيادات الثورة البلشفية، والقيادات الشيوعية والتحررية عموماً وهي اتهامات واهية بشكل عام لا تصمد أمام أي نقد، لكن المثير للدهشة والتساؤل أن هذه الاتهامات في الغالب تركز على العلاقة بين تروتسكي وبين المصرفيين اليهود وخاصة جاكوب شيف ولا تكتفي بإثارة الريبة حول وجود علاقة ما بين الرجلين وإنما تذكر وقائع محددة .
جاكوب شيف

   فيما يتعلق بالمصرفي اليهودي جاكوب شيف ذو الأصول الألمانية، فقد كان معروفاً بنشاطه الداعم لليهود في العالم ولم يكن يخفي امتعاضه من النظام القيصري الروسي وما مارسه من اضطهاد لليهود وهو ما دفعه لتمويل الحرب اليابانية ضد روسيا سنة 1904 حيث تم تدمير الأسطول الروسي في مايو 1905، كما قام بتقديم الكثير من الدعم لحكومة كرينسكي التي تولت السلطة عقب الثورة الروسية في فبراير 1917 وتنازل القيصر نيقولا الثاني عن العرش[3]، لكن ماذا عن علاقته بتروتسكي ؟
   يذكر الكاتب أنتوني ساتون في كتابه "وول ستريت والثورة البلشفية"[4]، والكاتب ديفيد ألان ريفيرا في كتابه " النظام العالمي الجديد "[5] أن تروتسكي أقام في الجانب الشرقي من المدينة ذو الغالبية اليهودية حيث كانت اللغة اليديشية (لغة اليهود في شرق أوروبا) هي السائدة في الشوارع والمقاهي وحتى المطبوعات، كما يشير إلى أن تروتسكي أثناء إقامته حظي بحفاوة بالغة[6] ووضعت تحت تصرفه سيارة ليموزين وسائق لتنقلاته كما أقام في شقة بها كل وسائل الراحة بالرغم من أن راتبه من عمله بصحيفة نوفي مير لم يتجاوز 12 دولار في الأسبوع[7]، لكن أهم الاتهامات التي ذكرها بعض الكتاب كأنتوني ساتون هي أنه تلقى مبلغ 10 آلاف دولار من مصدر ألماني غير معروف في المدينة، وقد وجدت هذه الأموال بحوزته بعد مغادرته لنيويورك برفقة بعض أتباعه والقبض عليه في كندا، ويشير ديفيد ألان ريفيرا إلى أن تروتسكي شوهد أثناء إقامته في نيويورك يدخل ويخرج من قصر المصرفي سالف الذكر جاكوب شيف، ولاحقا ذكر جون شيف حفيد جاكوب شيف أن تروتسكي تلقى من والده مبلغ 20 مليون دولار تم إيداعها في بنك واربورغ ثم تم تحويلها إلى بنك نيا في ستوكهولم بالسويد .
أولوف أشبيرج

   ويكشف الكاتب كيري بولتون في كتابه " وول ستريت وثورة نوفمبر 1917 البلشفية " بعض الجوانب الغامضة في هذا الموضوع والتي لم يذكرها تروتسكي في مذكراته، حيث يؤكد أن تروتسكي تم استقباله في نيويورك من قبل آرثر كونكورز مدير الجمعية العبرية لإيواء ومساعدة المهاجرين والتي كان جاكوب شيف أحد أهم مموليها، ورجل الأعمال اليهودي في نيويورك ذو الأصول الروسية وأحد مؤسسي الحزب الشيوعي الأمريكي دكتور يوليوس هامر كان المضيف لتروتسكي في المدينة عند زيارته وأنه خصص سيارته لتنقلات تروتسكي وعائلته، لكن المعلومة الأكثر أهمية التي يذكرها بولتون أن أحد أهم ممولي تروتسكي هو خاله المصرفي اليهودي الروسي إبرام جيفوتوفسكي والذي كان مرتبطاً بمصالح مشتركة مع أولوف أشبيرغ المصرفي اليهودي السويدي ورئيس بنك ستوكهولم نيا سالف الذكر[8] .
   أما قصة رحيل تروتسكي من الولايات المتحدة إلى روسيا فلها موضع آخر، لكن الأكثر أهمية بهذا المقال هو حجم الدعم والأموال التي تلقاها تروتسكي من شخصيات يهودية ثرية كما تشير هذه الآراء التاريخية، والتي قد تشير لمؤامرة من المصرفيين اليهود للسيطرة على الأوضاع في روسيا بعد الثورة بواسطة تروتسكي والذي أدعى في أحد نصوصه أنه كان بعيداً عن المجتمع اليهودي : " لقد عشت كامل حياتي خارج الدوائر اليهودية . وقد عملت دائما في حركة العمال الروس . ولغتي الأم هي اللغة الروسية . ولسوء الحظ ، فإنني لم أتعلم حتى قراءة اللغة اليهودية . ومن ثم لم تحتل المسألة اليهودية أبداً مركز اهتمامي "[9] .
   من الطبيعي وجود احتمال قوي بأن تكون هذه الادعاءات كاذبة خاصة أنها لمؤلفين معادين للشيوعية أصلاً، وقد يحاولون تشويه قادتها كما فعلوا على الدوام مع جميع القيادات الشيوعية، لكن لماذا تروتسكي على وجه الخصوص عندما يتعلق الأمر بالأموال ؟ إن السبب في طرح هذا التساؤل أن تروتسكي لم يكن القيادي الشيوعي الوحيد الذي تواجد في نيويورك بهذه الفترة حيث كان بوخارين متواجداً معه كذلك واشتركا في تحرير صحيفة نوفي مير الصادرة بالروسية في أمريكا[10] .
   لقد شملت حملة الاتهامات والتشويهات لينين كذلك لكنها لم تذكر أبداً أنه تلقى أي أموال من أي طرف وأقصى ما قامت بادعائه هو التعليق على توقيت عودته لروسيا معتبرة أنه دليل على تعاملاته مع الألمان الذين استفادوا من انسحاب روسيا من الحرب بعد انتصار الثورة البلشفية، لكن الاتهامات الموجهة لتروتسكي متعددة ولا تقتصر على تلقي الأموال من البرجوازية اليهودية لكن هذا الاتهام هو الذي يهمنا في هذا المقال .
   لا يمكن الادعاء بأن الخلفية اليهودية لتروتسكي ساهمت في صياغة مثل هذه الاتهامات مع انتشار العداء لليهود، فلم يكن تروتسكي هو اليهودي الوحيد بين قيادات الثورة، ولم يكن كذلك اليهودي الوحيد بين الشيوعيين الروس في نيويورك فكان معه فولودارسكي ضمن هيئة تحرير نوفي مير[11]، والواقع أنه يحق لنا وضع الكثير من علامات الاستفهام حوله بناء على نصه الوارد ببداية المقال كونه لم يرفض فكرة تلقي الأموال من البرجوازية اليهودية كمبدأ وإن أنكر أنه تلقاها بما يعني أنه كان مستعداً لمثل هذا الدور .
   ومن المثير للشكوك أن تروتسكي ثم أتباعه من بعده لم يمثلوا أي خطورة من أي نوع على البرجوازية عقب انتصار الثورة لتسعى إلى تشويهه وتلويث سمعته بنفس الدرجة التي سعت بها لتشويه لينين وستالين وماوتسي تونغ وغيرهم من القيادات الشيوعية الذين خاضوا نضالاً سياسياً وعسكرياً ضدها، ومع ذلك فإن الاتهامات تطاله وحده دون باقي القيادات الشيوعية .
   وبغض النظر عن مدى دقة الأرقام الواردة في الكتابات السالفة وخاصة مبلغ 20 مليون دولار الذي ذكره حفيد المصرفي اليهودي جاكوب شيف والتي ربما كانت بها الكثير من المبالغة، لكن هذا لا ينفي أن أصل الاتهام يظل باق مع اتهامات أخرى سنتناولها في مقالات قادمة ربما تدعمه .
أحمد صبري السيد علي
صيدا 29 نوفمبر 2019



[1] لابد من التوضيح أنني تجنبت في هذا المقال اللجوء إلى أي مرجع ستاليني أو ماوي بخصوص تروتسكي بالرغم من ثقتي الشخصية في مصداقية كثير من الباحثين المنتمين للتيارين وكذلك مصداقية الوثائق التي اعتمدوا عليها، كما حرصت على عدم الانجرار خلف الكثير من الاتهامات التي وردت في الكتابات التي لجأت إليها بالفعل خاصة أنها اتسمت بالمبالغة الواضحة واعتمدت على تقارير حكومية أمريكية وبريطانية وهي لا تمثل مصداقية بالنسبة لباحث شيوعي بكل تأكيد، بالإضافة لاستعانتي ببعض المراجع التروتسكية .
[2] سعيد العليمي . تصريحات حول المشكلة اليهودية – ليون تروتسكي . مقال بموقع الحوار المتمدن عدد 5283 نشر بتاريخ 12/9/2016 . أطلع عليه بتاريخ 29/11/2019 . من الرابط :
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=531113&fbclid=IwAR16nltT9pXvPr3hc1m7ajEa6Lvrv96uOOCO9MMRhP7UxosVyvJQ4N-tDko
[3] Encyclopaedia Britannica, Jacob H. Schiff :
 https://www.britannica.com/biography/Jacob-Henry-Schiff
[4] Antony C. Sutton, 1974, Wall Street and the Bolshevik Revolution : https://modernhistoryproject.org/mhp?Article=BolshevikRev
[5] David Allen Rivera, 1994, Final Warning : A History of the New World Order : https://modernhistoryproject.org/mhp?Article=FinalWarning&C=7.3
[6] إسحق دويتشر . النبي المسلح .. تروتسكي 1879 – 1921 . ترجمة : كميل قيصر داغر . طبعة المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الطبعة الأولى . بيروت 1981 . ص 264 . أشار دويتشر إلى أن تروتسكي تم استقباله من جانب جالية الاشتراكيين الروس استقبالاً حماسياً وقوبل بالهتافات الطويلة والتهاني، كما أتيح له إلقاء المحاضرات بعد وصوله بوقت قصير بحضور الاشتراكيين الروس، والفنلنديين، والليتوانيين، والألمان واليهود في نيويورك وفيلادلفيا .
[7] ليون تروتسكي . حياتي . توثيق : إيندي أوكلاهان . ترجمة : عبدالرؤوف بطيخ . مراجعة : محمد أمين صالح . بدون ذكر دار النشر . القاهرة 2019 . ج 2 ص 49. أشار تروتسكي إلى هذا الموضوع في توثيقه لسيرته الذاتية بقوله : " استأجرنا شقة في حي العمال وقدمناها على خطة التقسيط تلك الشقة، التي تبلغ ثمانية عشر دولارًا شهريًا، كانت مجهزة بجميع أنواع وسائل الراحة التي لم نستخدمها نحن الأوروبيين على الإطلاق: المصابيح الكهربائية، ومجموعة طهي الغاز، والحمام، والهاتف، وخدمة المصعد الآلي وحتى جبال القمامة. هذه الأشياء أسعدت بالكامل الأولاد في نيويورك. لبعض الوقت كان الهاتف هو مصلحتهم الرئيسية ؛ لم يكن لدينا هذا الجهاز الغامض في فيينا أو باريس " . كما أشار بغموض لموضوع السيارة المخصصة له .
[8] Kerry Bolton, Wall Street & the November 1917 Bolshevik Revolution,From: ttps://www.counter-currents.com/2013/10/wall-street-and-the-november-1917-bolshevik-revolution/ . وسوف يكون لأرماند هامر وأشبيرج دور لاحق عقب نجاح الثورة بمساعدة تروتسكي سيناقش في مقال تال .
[9] سعيد العليمي . تصريحات حول المشكلة اليهودية – ليون تروتسكي . م . س .
[10] تروتسكي . حياتي . م . س . ج 2 ص 50 ، إسحق دويتشر . م . س . ص 264 .
[11] تروتسكي . م . س . ج 2 ص 50 ، دويتشر . م . س . ص 264، 265 ، أناطولي لوناتشارسكي . لوحات ثورية . موقع الاشتراكي https://revsoc.me . أطلع عليه بتاريخ 29/11/2019 . من الرابط : https://revsoc.me/marxism/30606/31734/

ليست هناك تعليقات: