الأربعاء، 14 مايو 2014

بين التصوف والسياسة


   في لقاء بيني وبين الشيخ علاء الدين أبي العزائم ، شيخ الطريقة العزائمية ، أبدى الأخير قدراً كبيراً من الحزن لحال الصوفية في مصر وسلبيتهم الواضحة تجاه الأحداث بالرغم مما يمتلكونه من جماهيره قادرة على أن تجعلهم مؤثرين بشكل كبير وإيجابي على الأوضاع خاصة من الناحية السياسية .

 

   الواقع أن المشكلة لا تكمن في الصوفية بقدر ما تكمن في تراث التصوف المصري والذي لم يكن يوماً ثورياً ، وذلك على الرغم من أن ثوريته في مناطق أخرى قامت بها دول ضخمة ومؤثرة بناء على مشايخ التصوف نذكر منها الدولة المشعشعية في جنوب العراق وإيران ، الصفوية في إيران وآذربيجان ، السربدارية في خراسان ، وهي بالاساس كانت إنتفاضات لفقراء الفلاحين ضد الإقطاع المغولي توجت بالانتصار وتكوين دول حاولت بقدر الإمكان الإلتزام بالعدالة الإجتماعية والاقتداء بالسلوك العلوي .
   على أن التصوف المصري منذ تشكله في عهد الأيوبيين ، وسطوته في عهد المماليك ، كان على علاقة تحالف مع الإقطاع العسكري في الدولتين وكان الهدف الأساسي من تبنيه هو تمييع الصراع الطبقي وتمرير السياسات القمعية ضد الفلاحين المصريين عبر إنتشار فكرة الزهد السلبي الذي يعتبر دفاع الإنسان عن حقوقه تشبث بعرض الدنيا ، وبلغ الأمر ببعض السلاطين المماليك كالظاهر برقوق للترويج إلى المجاذيب باعتبارهم أهل الله ولهم كرامات ، بل أن أحد المجاذيب وهو الزهوري كان يبصق في وجهه ، وليس من الطبيعي أن يتقبل السلطان برقوق هذا التصرف من مجذوب إلا لو كان يرغب في استغلاله لأهدافه الخاصة . بينما كان الظاهر بيبرس يذهب لزيارة السيد البدوي في طنطا ويقبل قدميه ، وهذا التبجيل كان يتوجه كذلك للشيخ خضر بن موسى المهراني ، الذي لم يتوانى السلطان عن إلقائه في السجن عندما حدث الخلاف بينهما .
   لقد كانت العلاقة بين السلطة والتصوف إذن قوية للغاية ، حتى حينما كانت السلطة المملوكية تشعر بالقلق من إنتشار نفوذ الصوفية بين الجماهير وترغب في تحجيمها قليلاً خوفاً من بروز طموحات خاصة لهؤلاء المشايخ الذين سيطروا في بعض الأوقات على أمراء المماليك ذاتهم فإن حالة التحالف سرعان ما كانت تفرض نفسها على الواقع مرة أخرى ، بتنازل أياً من الطرفين ، وفي أواخر العهد المملوكي بلغت سطوة المشايخ الصوفية درجة إجبار السلاطين على طاعتهم ، ولعل حادثة لجوء الأمراء المماليك للشيخ أبو السعود الجارحي كي يقنع الأمير طومان باي بتولي السلطة تمثل نموذجاً لحالة التقديس التي كانت لمشايخ الطرق الصوفية .
   لقد امتدت هذه العلاقة للعصر العثماني الذي كانت الطرق الصوفية تمثل جزءاً أساسياً من سلطته السياسية والعسكرية ، تلقى الصوفية قدراً أكبر من الدعم المادي والمعنوي ، ويصف الباحث عمار علي حسن الطرق الصوفية في هذه الفترة بأنهم كانوا دولة داخل دولة .
   وعلى الرغم من التطورات الاجتماعية والثقافية الضخمة التي شهدتها مصر خلال فترة حكم أسرة محمد علي التي تبنت مشروعاً كان علمانياً في جوهره ، فقد ظل التحالف الصوفي متواجداً وإن شهد عصر الخديو عباس حلمي الثاني بداية محاولة الصوفية الانفلات عن السلطة المركزية في مصر والتي كانت قد خضعت بدورها للاحتلال الانجليزي .
   فالشيخ البكري شيخ مشايخ الطرق الصوفية في مصر سعى للتقرب من السلطان العثماني ، واللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر وهو ما أثار حالة من العداء الخفي بينه وبين الخديو ، ومع ذلك فقد استمر بيت البكري مسيطراً على الصوفية في مصر حتى سنة 1946 عندما عزل الملك فاروق الشيخ أحمد البكري بسبب مواقفه المؤيدة من الحركة المناهضة لمصر في السودان .
   ويبدو أن الأحداث المتسارعة بمصر أجبرت الطرق الصوفية على التخلي بقدر ما عن تحالفهم القوي مع السلطة ، واتخذت الطرق موقفاً متفاوتاً من المحتل الإنجليزي الذي صار صاحب السلطة الفعلي ، حيث تحالفت طرق كالادريسية والميرغنية والسمانية مع الانجليز ، بينما كان للطريقة العزائمية وشيخها محمد أبو العزائم دور كفاحي ضد الاحتلال عبر دعم جمعية اليد السوداء التي كانت تقوم بقتل الجنود والضباط الانجليز في مصر . كما ترأس الشيخ محمود أبو الفيض المنوفي جمعية الفدائيين المقاومة للاحتلال والتي اصدرت مجلة لواء الإسلام .
   وقد أدى خروج التصوف بقدر ما من تحت عباءة السلطة إلى محاولة الأحزاب لاستخدام نفوذ مشايخه ، مثلما فعل الوفد مع الشيخ سيد عفيفي البغدادي شيخ الطريقة البغدادية والذي كان عضوا في لجنة الوفد المحلية وحشد مريديه لدعم الوفد في انتخابات سنة 1924 ، والحزب السعدي عندما رشح الشيخ محمد محمود علوان في الانتخابات النيابية سنة 1942 وتمكن بفضل دعم مريديه من دخول البرلمان حتى سنة 1953 .
   وفي العهد الناصري ، وبالرغم من أن الطرق الصوفية عادت للدخول بالكامل تحت عباءة السلطة لكنها قامت بدور كبير في دعم النظام الاشتراكي الجديد ، خاصة ضد جماعة الإخوان المسلمين أثناء الصدام معهم سنة 1953 وسنة 1965 ، كما دعمت الطرق الصوفية خطوة الاتحاد المصري السوري عبر الطريقة الجنيدية الخلوتية التي دخل شيخها ذو الاصول السورية مجلس الامة المصري في دورات متعددة 57 ، 58 ، 68 ثم 71 .
   لكن في عهد الرئيسين السابقين أنور السادات وحسني مبارك ومع تبني سياسات الرأسمالية الطفيلية والتراجع عن التصنيع وتطوير الزراعة ، تم تجنيب الطرق الصوفية أي ممارسة سياسة مقابل فتح المجال تدريجيا للسلفيين المنتمين أكثر لهذه الطبقة الجديدة ، نتيجة العلاقة مع السعودية ، وإنتشار الفكر السلفي بين المصريين العاملين في الخليج ، وهو ما أعاد الطرق الصوفية للحالة السلبية مرة أخرى[1] .
   إن هذا العرض التاريخي للمساهمات السياسية للتصوف يشير إلى أن السلطة المصرية بتطوراتها المختلفة كانت تدرج تماماً قيمة التصوف وجماهيريته أكثر مما يدركه مشايخ التصوف ذاته ، وبالتالي وبقدر ما سعت لاستغلاله لمصالحها ، فإن المشايخ الطرق لم يفكروا على الإطلاق سوى في استغلال السلطة المصرية ذاتها لدعم نفوذهم الشخصي ، أكثر من تفكيرهم في خدمة التصوف ذاته كرؤية وكفلسفة تم اختزالها تماماً في إقامة الحضرات (التي يؤديها الغالبية دون وعي بتاريخا وقيمتها في التصوف) والاحتفالات بالموالد والمساعدات الإجتماعية التي لا تساهم ، من الناحية الواقعية ، في دعم الفقراء من مريدي الطريقة وتحسين ظروفهم ، بقدر ما تؤدي لتثبيط الروح الثورية داخلهم ضد الاستغلال .
   إن السقوط المدوي للاخوان بشكل خاص وللتوجهات السلفية عموماً يمثل الفرصة الأبرز لدى الصوفية لتقديم أنفسهم كبديل ديني أكثر قرباً من الطبيعة المصرية وتراثها الفلكلوري ، وذلك في حال تفهم مشايخ الطرق طبيعة المرحلة التاريخية وما تقتضيه من محاولة تخليص التصوف من طبيعته الإقطاعية البارزة ، عبر تخليصه من الحالة الأسطورية التي تمنعه بوضوح عن التواصل مع القطاع المثقف بين الشباب المصري ، وتطوير شكل وطريقة شعائره كالحضرات والاحتفالات ، بالاضافة لإعادة صياغة أوضاع الطرق الصوفية من الناحية الإدارية .

أحمد صبري السيدعلي
14 مايو 2014
  




[1] دعم نشر الفكر السلفي بين المصريين السياسات الجديدة للسادات ومبارك والتي أدت لتراجع دور الزراعة والصناعة في الاقتصاد ، وتفريغ الريف من اليد العاملة التي هاجرت للمدن ، أو توجهت للخليج ، وانتشرت على إثر هذه التغيرات ظاهرة تبوير الأراضي الزراعية من أجل البناء والامتداد العمراني وإنتشار السلع الكمالية في الريف .

ليست هناك تعليقات: